كتب : عماد العذري
بطولة : حسين سابزيان
إخراج : عباس كيارستمي (1990)
عندما رحل كيارستمي قبل أسبوعين لم أكتب شيئاً ، لم أجد ما يليق بالكتابة
عنه. أكثر الفواجع إيلاماً هي تلك التي تجبر المرء على الصمت. لم أشعر بالألم
ذاته عندما رحل كوبريك أو بيرغمان أو رومير أو دي أوليفيرا بالرغم من عشقي الكبير لسينماهم. جميعهم مخرجون
عظام ، وجميعهم كانوا يشبهون سينماهم. وفي كيارستمي – مثل سينماه
- الكثير من البساطة والبراءة التي جعلت رحيله أقرب إلى رحيل صديقٍ مقرب منه إلى
رحيل مخرجٍ عرفناه من خلال أفلامه .
رحلة كيارستمي قبل فيلمه هذا تشبه علاقة حكاياه التي يسردها بأقدار أبطاله. حياته يمكن أن توضع في السياق ذاته التي وضعت فيه شخصياته لتصنع فيلماً لا يقل
عظمةً عن أفلامه. عندما تخرّج من كلية الفنون الجميلة في طهران وجد في الفن
التشكيلي مساراً لحياته. لكنه سرعان ما اكتشف أنه لم يُخلق لذلك. استهواه تصميم
البوسترات وتصميم تترات الأفلام والعمل في الدعاية وتصميم كتب الأطفال. إستهوته
فكرة استخدام أبسط الأدوات للتعبير عن (فكرة) (تصل) إلى المتلقي. في تلك المرحلة المبكرة من حياته اختمرت
فكرته عن (الوصول) إلى المتلقي ونظرته التي نضجت لاحقاً في السينما عن (الفيلم الذي لا يكتمل
إلا في ذهن الجمهور). عمله حينها في مركز التنمية الثقافية
للأطفال والشباب وتأسيسه لقسم السينما هناك أتاح له متنفساً لتطبيق تلك
النظرة مع شريحةٍ من المتلقين هي الأعقد والأسهل في آن. وتواصله المبكر مع
الأطفال من خلال أعمالٍ روائيةٍ وتسجيليةٍ قصيرةٍ وضعته على أول الطريق في تفسير
وإيجاد الصيغة السينمائية التي تناسبه تيمناً بمقولة بريخت (البساطة هي أصعب ما يمكن تحقيقه). مع كيارستمي كانت البساطة هي الطريق الأصعب لكشف المستويات
المتتالية من عمق أي شيء .
خلال تلك الفترة كان كيارستمي على تماسٍ مباشرٍ مع سينما بلاده قبل الثورة ، إبتداءًا
بأعمال فروغ فروخزاد وفروخ غفاري و فريدون رهنما التي كانت مخاضات ظهور ما عرف بالموجة الإيرانية في
السينما والتي قادتها أعمال سهراب شهيد ثالث و داريوش مهرجويي و بهرام بيضائي و مسعود كيميايي وغيرهم منتصف الستينيات وهي موجةٌ انتهى جيلها
الأول المؤسس بقيام الثورة الإسلامية. أسست تلك الموجة لسينما جديدة وثيقة
الإرتباط بالحياة والهموم المجتمعية في إيران ربما كرد فعلٍ تجاه الإرتباط النمطي
الذي حدث للسينما الإيرانية بسينما هوليوود وبوليوود لفترةٍ طويلةٍ من الزمن. تقاطعت
أفكار الموجة كثيراً مع الواقعية الجديدة في السينما الإيطالية ، وهو تقاطع يبدو
لي شكلياً في معظمه على اعتبار أن السينما الإيرانية مالت أكثر إلى الشاعرية
والصوفية وتعاملت بصورةٍ أكثر قرباً ووضوحاً مع الإنعكاسات المجتمعية للسياسة
كجزءٍ لا ينفصل عن الواقع واهتمت كثيراً بشاعرية الحوار والإستخدام المكثف
للإستعارات والمجاز لبلوغ التأثير المطلوب. جيلها الثاني بالرغم من كونه إستفاد
كثيراً من روح أسلافه الذين هاجر معظمهم بعد قيام الثورة إلا أنه عانى كثيراً بالمقابل
في إيجاد الصيغ المناسبة لتطويع تلك الروح مع القيود التي فُرضت على السينما بعد
الثورة. أهم هؤلاء - إلى جوار مهرجويي الذي لم يغادر البلاد – كان أمير نادري ومحسن مخملباف و
عباس كيارستمي. جاء كيارستمي ليثبت لرواد الموجة أنه لا شيء أكثر شاعريةً من
يومياتنا ، ولا شيء أكثر تأثيراً من الحقيقة .
كيارستمي كان فناناً عظيماً قبل أي وصف. كان مصوراً فوتوغرافياً وكاتباً ومنتجاً
ومخرجاً ومونتيراً ومصمم إخراجٍ فني وشاعراً ورساماً ومصمم غرافيك. أخرج فيلمه
الروائي الطويل الأول في السابعة والثلاثين من عمره متأثراً بحكايات الواقعية
الجديدة في إيطاليا أكثر من أي تيارٍ آخر. لكنه لم يلفت الأنظار إلا مع فيلمه
الروائي الطويل الثاني (اين منزل صديقي؟) الذي حظي بالمديح خارج إيران واعتبره
الكثيرون لاحقاً العمل الأول في ثلاثية (قرية كوكر) وهي تسميةٌ لم يكن كيارستمي يعترف بها.
مع هذا الفيلم أصبحت صورة سينما كيارستمي أكثر وضوحاً : الطبيعة والريف واليوميات والطفولة وأفعال
الحركة ، المينيماليزم ، بساطة الحدث ، بدائية مواقع التصوير ، الحوار المتدفق (حول) الشيء
وليس (عن) الشيء ، الكاميرا المثبتة وليست الثابتة ، اللقطات (أطول ما يمكن)
وليست لقطات (طويلة) ، الإستخدام المحدود للموسيقى التصويرية ، تناول
ثنائيات الحياة / الموت ، و الزيف / الحقيقة ، و التغيير / الإستمرارية ، إستخدام
لحظات الصمت ، الفراغات ، اللا شيء ، الشخصيات التي لا نراها أو التي لا نسمعها ، أو
الشخصيات التي تقوم بتكرار أفعالها. كان كيارستمي يكتب نصوصاً من 15-20 صفحةً فقط وكان يقوم بتغذية
الحدث وتطعيمه بالحوار قبل التصوير مباشرةً وكان يعتمد على الإرتجال في كثير من
الأحيان. كسر الرجل تقاليد الفيلم بنعومة ودون تمردٍ صارخٍ أو إنكار. كان
منفتحاً على كل شيء لكنه كان يصنع فيلمه من الداخل نحو الخارج ، وكأنما لا وجود
للصانع ، وكأنما شخصياته هي من صنعته. بل أنه صوّر فيلمه (عشرة) بأكمله
دون وجود المخرج في موقع التصوير. وكان حريصاً دائماً على تخليص أفلامه من
الزوائد السردية / الحوارية / البصرية وهذا ما يفسر حقيقة أن سينما كيارستمي كانت
غايةً في الأصالة وخاليةً من أي اشاراتٍ مرجعيةٍ لسينما غيره بالرغم من كونه قطعاً
– كأي مخرج – قد تأثر بالكثيرين قبله ! معظم أعماله الوثائقية والروائية التي سبقت
Close-Up كانت مولعةً بعالم الطفولة بصورةٍ او بأخرى ، حدثٌ طارئ جعله يكسر ذلك
الولع مؤقتاً .
في هذه الديكودراما - التي استقبلت بصورةٍ سلبيةٍ في إيران وبحفاوةٍ نقديةٍ
كبيرةٍ خارجها - يعرض كيارستمي (الكاتب والمونتير والمخرج) حكايةً حقيقيةً بطلها حسين سابزيان ،
عامل مطبعةٍ شاب ، مطلّق وعاطل عن العمل ، يستقل الحافلة ذات يومٍ وفي يده كتاب (سائق الدراجة)
لمحسن مخملباف الذي تسأله عنه المرأة التي تجلس بجواره. في
لحظة تجلٍ يُهديها الكتاب لأنه لا يحتاجه فهو من قام بكتابته ! عندما تسأله مندهشةً
: هل أنت محسن مخملباف ؟ يجيبها بنعم ! تلك النعم تقوده إلى
منزل عائلتها حيث يلتقي زوجها وولديها ويعرض عليهم الإشتراك في عمله المقبل الذي
من الممكن أن يصوّر بعض مشاهده في منزلهم !
قرأ كيارستمي عن حكاية سابزيان عام 1989 في مقالٍ للصحفي حسن فارازماند الذي
يظهر بشخصيته الحقيقية كبقية شخصيات الفيلم. كان كيارستمي يعد لمشروعٍ
سينمائيٍ آخر عندما قرر إيقافه من أجل مطاردة حكاية سابزيان. إلتقى
بالرجل في سجنه كما التقى بالعائلة التي إتهمته بالإحتيال وقادته إلى السجن كما
التقى بالقاضي الذي سيصدر الحكم بحق سابزيان. مارس تأثيره على الجميع - لما وجده فيهم جميعاً من
حبٍ للسينما – ورتب مع مخملباف وعائلة آهنخواه إجراءات التنازل والعفو وأعاد تخطيط الحكاية وتمثيل ما
فاته منها وصولاً إلى المحاكمة التي قام بتصويرها كما جرت قبل أن يمنح الحكاية
نهايته الخاصة.
الحكاية ذاتها ليست أصيلة ولم يكن تمويه المساحات بين الروائي والوثائقي
شيئاً مبتدعاً هنا. يمكن بطريقةٍ ما النظر للفيلم كعملٍ عن (قصة إحتيال)
وهو المنظور العام الذي يريد كيارستمي لمشاهده أن يراه أولاً في الحكاية كي يجعل إقترابه
التدريجي من بطلها يظهرها بصورةٍ مختلفةٍ تماماً بعيدةٍ جداً عن أي صورةٍ نمطيةٍ
قد تبدو عليها لوهلة. ولا أبالغ إذا ما قلت أن كيارستمي يقلب الحكاية
كلياً من (قصة إحتيال) إلى (قصة شغف) مستخدماً تكنيكه السردي الأثير طوال مسيرته السابقة
واللاحقة والذي وضعه كعنوانٍ للفيلم هذه المرة (نظرة مقربة) .
كيارستمي يبدأ فيلمه كعادته بفعل حركة ، سيارة على وجه التحديد ، لقطةٌ واسعةٌ
تلصصية عليها ، قبل أن يقطع على شخصياته بداخلها في لقطةٍ متوسطة ، تتلوها لقطاتٌ
أقرب لكل شخصيةٍ على حدة. السيارة مع كيارستمي مكانٌ جيدٌ ليبدأ كل شيء. منها يبدا تآلفنا معهم ، منها
تبدأ تعليقات كيارستمي الإجتماعية المتناثرة في الفيلم : طيارٌ متقاعدٌ يعمل
كسائق أجرة نلمحه في لقطةٍ خاطفة لاحقاً يتأمل طائرةً محلقةً في السماء ، مجندا
الشرطة اللذان يقضيان فترة الخدمة العسكرية ، ثم لاحقاً إبنا عائلة آهنخواه ،
المهندس الذي لم يحصل على عمل والمهندس الآخر الذي يبيع الخبز كما يقول شقيقه. التعليقات
المعتادة المنثورة على مدار مسيرة كيارستمي دون أن تكون محوراً لذاتها. دائماً ما يعرض كيارستمي شخصياتٍ
متباعدةً تربطها مصالح مختلفة. ما يفعله معها كيارستمي هو إلتقاط
خطٍ واضحٍ من تلك المصالح والسير معه. هناك شكلٌ من (المهمات) في حكايا كيارستمي.
والمهمة هنا هي القبض على رجلٍ يدعى حسين سابزيان اقتحم حياة هذه العائلة مدعياً أنه مخرجٌ معروف
واستدان من ابنها بعض النقود ويبدو بأنه ما زال مستمراً في لعبته. في هذه المهمة
تثبت كاميرا كيارستمي كالعادة أنها مولعةٌ بأبطاله ومتقشفةٌ في التعامل
معهم. أدنى بهرجة بصرية في تعاملها معهم يعتبرها كيارستمي تأثيراً
مشوشاً على العمل. عندما ترافقهم في السيارة بالكاد نرى ما خارج السيارة لكننا
نفهم من تفاعلهم معه ما الذي يجري. مشوار السيارة هنا حقيقي ، مكتمل ، لا يفوتنا
منه شيء ولا نشعر بأنه فائض. في الواقع هذا ما فعله كيارستمي طوال مشواره
السينمائي ، تنقية ما تلتقطه الكاميرا من الشوائب والإضافات وإزالة أي شكلٍ محتمل
من أشكال البهرجة البصرية. عندما يدخل رجلا الشرطة لإعتقال سابزيان
يتركنا كيارستمي مع السائق ، لا يذهب مع عملية الإعتقال. يمارس علينا
نهج روبير بروسون (الخلق هو حذف وليس إضافة) فيحذف ما يجري في مشهد الإعتقال كي
يتيح لنا نحن كمشاهدين أن نشكله في أذهاننا. ولذلك يصر كيارستمي على أن
أفلامه لا تكتمل إلا في ذهن المشاهد. خلال إنتظارنا مع سائق سيارة الأجرة تتدحرج
عبوة مبيدٍ حشريٍ في الشارع ، يراقب كيارستمي تدحرجها حتى تتوقف ، بالرغم من كثرة
التأويلات يعترف كيارستمي بأن المشهد لا يعني أي شيء ! وأعتقد أن أي متابعٍ عن
كثب لسينما الرجل يعرف تماماً أن ذلك صحيحٌ تماماً ! فلسفة كيارستمي
السردية تعتمد في جزءٍ من الحكاية على تصوير (اللا شيء) كي تجعل لـ
(الشيء) قيمةً وأثراً ، متابعة هذا اللاشيء (تدحرج العبوة)
يجعلنا نملأ فراغ الشيء (إعتقال سابزيان) الذي يحدث في اللحظة ذاتها !
بعد اعتقال سابزيان ينتقل كيارستمي إلى المستوى التالي من حكايته ، الإنتقال من (النظرة العامة)
إلى (النظرة المقربة) ومن حكاية الإحتيال إلى حكاية الشغف. عندما يزور كيارستمي سابزيان في
سجنه تقترب كاميرا كيارستمي من سابزيان في كلوز آب ناعم كتقريرٍ بصريٍ عن الشيء الذي لطالما أكد
عليه كيارستمي طوال مشواره السينمائي : الصورة تبدو أوضح دائماً
عندما نقترب منها. عظمة الحكاية التي يسردها كيارستمي في سبازيان هو
تقاطعها العظيم مع روح سينماه وتجاوزها الشكل التقليدي للحكاية المروية. الصعوبة
التي يتحدث سابزيان أنه واجهها في انتحال شخصية مخملباف هي السينما
كما يراها كيارستمي. صعوبة أن تضع شيئاً مكان شيءٍ آخر ، أن تضع المزيف
مكان الحقيقي ، أن تضع الفيلم مكان الحياة ، هذا يحتاج للكثير من (الشغف) في
المزيف ، وهذا في الواقع هو ما تفعله السينما ! (لا يمكن الإقتراب من الحقيقة
إلا من خلال الكذب) كما يقول كيارستمي. إستعمال (اللا شيء) للتعبير عن (الشيء). التجسيد الكاذب (الإنتحال في الفيلم) يجعل أصل
الأشياء يبدو أكثر وضوحاً. يجعل ما نريد رؤيته في الأصل أكثر وضوحاً في الوقت
الذي يكون ذلك الأصل قد تعرض للكثير من عوامل التعرية والروتين والتكرار تجعله لا
يبدو (أصلاً) ! شيءٌ يُشبه الحماس الذي يبديه معتنقون جدد لدينٍ ما أو مريدون جدد
لفنانٍ ما مقارنةً مع معتنقيه الأصليين. ذلك الإنفتان هو ما يجعل الصورة أوضح لدى اولئك المعتنقين الجدد مما
هي عليه عند المعتنقين الأوائل ! النسخة التي نشعر من خلالها بنشوة استكشاف الشيء أكثر جاذبيةً هنا من نسخة الحصول عليه أو الإعتياد عليه ، ومخملباف سابزيان أكثر (مخملبافيةً) من مخملباف نفسه !
كيارستمي
في مسعاه ذاك لا يحكي قصة ، ولا يحكي قصةً
عن حكاية قصة ، هو يحكي قصةً عن صناعة فيلمٍ يحكي قصة ! وهذا يجعل من ثلاث
مستوياتٍ للسرد تتداخل وتتدافع كي تسرد علينا ما يجري (كيارستمي كقاص ، و سابزيان كقاص
، و كيارستمي كقاص ومشاهد معاً) ! المستوى الأول هو ما خطط له كيارستمي وهو
يرسم الصورة العامة لحكايته التي لم يبتدعها أصلاً وما قام بإعادة تصويره لاحقاً.
المستوى الثاني هو ما يسرده سابزيان كواقعٍ عاشه وتفاعل معه ولم يخططه كيارستمي بل
هو ما جذب كيارستمي أصلاً إلى الحكاية. والمستوى الثالث هو مساحات السرد
التي خطط لها كيارستمي دون درايةٍ كاملةٍ بالمسار الذي ستذهب بالحكاية إليه كما
هو الحال في مشاهد المحاكمة التي صورها بكاميرا 35 لالتقاط المحاكمة وبكاميرا 16
للقطة المقربة التي سيتوجه فيها سابزيان بالحديث لكيارستمي المستجوب أو في مشهد لقاء سابزيان بمخملباف
المصور في لقطةٍ تلصصية دون علم سابزيان. المستوى الثالث تحديداً هو إنعكاسٌ بديهيٌ لتعاطي كيارستمي مع
سينما ما بعد الحداثة : أولاً على المستوى السردي حيث العلاقة بين (الذات) و (الآخر)
وبين (الذاتي) و (الموضوعي) كهاجسٍ دائم ، وحيث عمليتا (الإبداع) و (التفاعل مع الإبداع)
كلٌ لا يتجزأ ، (ما يجري) و (ما تشعر به) و (ما تعرفه عمّا يجري) هو جزءٌ أساسيٌ
في تفاعلك معه ، وثانياً على المستوى التقني البصري حيث التخلي عن الحيل الفنية
التي تنسيك (من فرط التماسها للواقعية) أنك تشاهد فيلماً ، كيارستمي لا
يفعل ذلك ولا يحبه. وجوده كقاصٍ ومشاهدٍ معاً هو جزءٌ لا يتجزأ من اكتمال تفاعل
المشاهد مع الفيلم. لن يشعر المشاهد بقيمة وعظمة ما يفعله كيارستمي لولا
إدراكه لـ (حقيقية) الحدث الذي يصوره كيارستمي كقاص أولاً
، و (حقيقية) العمق الذي يمنحه سابزيان لحكايةٍ هي
جزءٌ حقيقيٌ من حياته وهو أصدق من يعبر عنه ويعيد تصويره ، و (حقيقية) أن كيارستمي يبقى
مصراً عبر المستويين السرديين على كسر حاجز الإيهام وتذكيرنا – كالعادة – أنه
يصوّر فيلماً من خلال حضوره وصوته وتواجد طاقمه. كيارستمي موجودٌ في
الحدث وغير موجودٍ أيضاً ، معه نحن لا نشاهد (الحقيقة) ، ولا نشاهد (فيلماً) ، بل
نشاهد (فيلماً عن الحقيقة) ! إذا كانت السينما هي فن (تزييف)
الحقيقة ، فإن صراعها مع موضوع هذا الفيلم أصلاً (عن حقيقةٍ مزيفة) يجعله عملاً
عظيماً متعدد الطبقات يسمح للوسيط السينمائي هنا بمقارعة الواقع على طول الخط دون
أن يستسلم له أو يطغى عليه. كيارستمي يرتقي بالسينما ڤيريتيه إلى مستوىً غير مسبوق تجعل الفيلم برأيي تجربتها
الروائية الأعظم على الإطلاق. البساطة التي قامت عليها سينما كيارستمي
دائماً ما تكتسب عمقها ومقاومتها للزمن من ضبابية المساحة بين الحقيقي والمزيف ،
ذلك ما يجعل التجربة منعشةً وطازجةً دائماً. كيارستمي – مبكراً
جداً – يؤكد على أن سينماه ليست تشكيلية أو تخطيطية ، هي (إعادة تشكيل)
للواقع تسمح لمشاهده بتأمله بطريقةٍ مختلفة. إتاحة الفرصة لـ (الوثائقي)
لتشكيل مفاصل ما ستتم (روايته) ، ومنح (الروائي) المساحة المناسبة لجعل ما سيتم (توثيقه) شيئاً
ذو معنى. نزع الجزء (القدري) من الحقيقة. الفرق بين ما فعله سابزيان في
الحقيقة وما يفعله في الفيلم هي (القدرية) ، (إعادة الدهشة) ، (إعادة خلق اللحظة) !
بين ثنايا ذلك يطرح كيارستمي – دائماً – أسئلته ورؤاه. هناك إتساقٌ واضحٌ في طروحات كيارستمي عن الحياة طوال مسيرته. لم يكن جدلياً على مستوى الطرح لكنه كان دائماً قادراً على جعل تساؤلاته البسيطة / اللاجدلية قادرةً على ترك صدىً واضح في اذن متلقيها. كان يسأل الأسئلة الأكثر بديهية عن الذات والحياة والموت ، من خلال أكثر الطرق بساطةً (وأكثرها تعقيداً في الوقت ذاته). لكنه في كل مرة كان يجد من يسيء فهمه أو يجلده أو يذهب بتساؤلاته إلى مساحةٍ لا تريدها. فيلمه هذا مثلاً ليس فيلماً عن السينما أو عن السينيفيل وهو تأطيرٌ لطالما كرهه كيارستمي. فيلمه هذا عن رجلٍ يبحث عن ذاته وعن مكانه في المنظومة التي تحيط به مدفوعاً فقط بشغفه. شخصيته ليست فقط (تبحث عن ذاتها) ، بل هي (تبحث عن ذاتها من خلال السينما) ! كيارستمي يعثر في سابزيان على الشخصية الأقرب له كإنسان كي يقدم رحلة البحث عن الذات. هناك (رحلة بحث) في كل فيلمٍ من أفلام كيارستمي ، لكنها هنا تكتسب خصوصيةً مختلفةً بسبب تقاطعها مع شخصية كيارستمي كصانع أفلامٍ يصنع فيلماً. بطله حسين سابزيان يبحث عن الآخر من خلال تزييف واقعه ، جعل نفسه مكان الآخر كي يكتسب إحترام الآخرين ورضاه عن نفسه ! أغراه أن معظم مخرجي العصر في إيران جاؤوا من بيئةٍ كبيئته والتقطوا مواضيعهم من يوميات أمثاله ، وكيارستمي ذاته يفعل ذلك معه في مستوىً سرديٍ أعمق وهو يخرج هذا الفيلم ! يتساءل كيارستمي عن الهوية : هل هي ما (نبدو) عليه ؟ أم ما نحن عليه في الواقع ؟ سابزيان في الواقع مجرد عاطلٍ عن العمل ، لكنه يحب السينما كـ (مخملباف) ، لذلك يحاول أن (يبدو) كمخملباف ! ضبابية الإجابة تتعزز بمشاهدة التوازي بين ولع سابزيان بالسينما وأن يقوم بأداء شخصيته الحقيقية في فيلمٍ عن ولعه بالسينما. أن يجد نفسه في عالم السينما بسبب مشكلةٍ سبّبها ولعه بالسينما ! ضبابيةٌ أعتقد كانت لتفقد بعضاً من قيمتها لولا الصدق الشديد الذي نلمسه في حسين سابزيان (الشخصية / المؤدي). سابزيان على الجانبين هو الثقل الحقيقي لحالة كسر الحواجز بين الحقيقي والمزيف التي ينشدها كيارستمي. كل ما يفعله على الشاشة في الأجزاء المصورة أو تلك المعاد تصويرها هو حكاية شغف. نبرة صوته ونظرات عينيه ولحظات الصمت التي يفكر خلالها وابتساماته الماكرة ، كل ذلك كفيلٌ بتحقيق واحدةٍ من أكثر الشخصيات (حقيقية) في تاريخ السينما كله. أصعب الأداءات هي تلك التي يقوم خلالها الممثل بأداء نفسه في تخطيطٍ مسبق ! مصداقيته تجعله تحت مجهر المشاهد بشكلٍ مستمر لنفي صورة الإحتيال التي أخذناها عنه في (اللقطة الواسعة). كلما اقتربنا منه أحببناه ، وربما هذا ما يجعل لهذا الفيلم قيمةً حقيقية. أن تستطيع (اللقطة المقربة) هنا - بمعناها الحرفي والمجازي - تغيير نظرتنا وحكمنا على هذا الرجل - الذي بإعترافه هو - قام بفعل (إحتيال) ! حقيقية سابزيان عالية وتعامله مع الوسيط السينمائي حميميٌ أكثر مما حدث مع أي بطلٍ آخر من أبطال كيارستمي. لا يهز الشخصية بين الحقيقي والمزيف. يمثل أنه يحتال كما لو أنه يمارس فعلته الأولى ، و يدافع عن نفسه كما لو أنه لم يفعلها ! بينهما لا يعود واضحاً او حتى مهماً لنا أن ندرك أن الأولى أعيد تصويرها والثانية حقيقية. حسين سابزيان (الشخصية / الأداء) هو عمق هذا العمل الذي يؤكد على مقولة كيارستمي الشهيرة عن فيلمه هذا (هذا فيلمٌ صنع نفسه بنفسه) ومن الإدعاء الجزم بأن كيارستمي كان يعرف النتيجة التي سيحصل عليها عندما قرر مطاردة هذه الحكاية وهذا برأيي جزءٌ لا يتجزأ من قيمة الفيلم .
بين ثنايا ذلك يطرح كيارستمي – دائماً – أسئلته ورؤاه. هناك إتساقٌ واضحٌ في طروحات كيارستمي عن الحياة طوال مسيرته. لم يكن جدلياً على مستوى الطرح لكنه كان دائماً قادراً على جعل تساؤلاته البسيطة / اللاجدلية قادرةً على ترك صدىً واضح في اذن متلقيها. كان يسأل الأسئلة الأكثر بديهية عن الذات والحياة والموت ، من خلال أكثر الطرق بساطةً (وأكثرها تعقيداً في الوقت ذاته). لكنه في كل مرة كان يجد من يسيء فهمه أو يجلده أو يذهب بتساؤلاته إلى مساحةٍ لا تريدها. فيلمه هذا مثلاً ليس فيلماً عن السينما أو عن السينيفيل وهو تأطيرٌ لطالما كرهه كيارستمي. فيلمه هذا عن رجلٍ يبحث عن ذاته وعن مكانه في المنظومة التي تحيط به مدفوعاً فقط بشغفه. شخصيته ليست فقط (تبحث عن ذاتها) ، بل هي (تبحث عن ذاتها من خلال السينما) ! كيارستمي يعثر في سابزيان على الشخصية الأقرب له كإنسان كي يقدم رحلة البحث عن الذات. هناك (رحلة بحث) في كل فيلمٍ من أفلام كيارستمي ، لكنها هنا تكتسب خصوصيةً مختلفةً بسبب تقاطعها مع شخصية كيارستمي كصانع أفلامٍ يصنع فيلماً. بطله حسين سابزيان يبحث عن الآخر من خلال تزييف واقعه ، جعل نفسه مكان الآخر كي يكتسب إحترام الآخرين ورضاه عن نفسه ! أغراه أن معظم مخرجي العصر في إيران جاؤوا من بيئةٍ كبيئته والتقطوا مواضيعهم من يوميات أمثاله ، وكيارستمي ذاته يفعل ذلك معه في مستوىً سرديٍ أعمق وهو يخرج هذا الفيلم ! يتساءل كيارستمي عن الهوية : هل هي ما (نبدو) عليه ؟ أم ما نحن عليه في الواقع ؟ سابزيان في الواقع مجرد عاطلٍ عن العمل ، لكنه يحب السينما كـ (مخملباف) ، لذلك يحاول أن (يبدو) كمخملباف ! ضبابية الإجابة تتعزز بمشاهدة التوازي بين ولع سابزيان بالسينما وأن يقوم بأداء شخصيته الحقيقية في فيلمٍ عن ولعه بالسينما. أن يجد نفسه في عالم السينما بسبب مشكلةٍ سبّبها ولعه بالسينما ! ضبابيةٌ أعتقد كانت لتفقد بعضاً من قيمتها لولا الصدق الشديد الذي نلمسه في حسين سابزيان (الشخصية / المؤدي). سابزيان على الجانبين هو الثقل الحقيقي لحالة كسر الحواجز بين الحقيقي والمزيف التي ينشدها كيارستمي. كل ما يفعله على الشاشة في الأجزاء المصورة أو تلك المعاد تصويرها هو حكاية شغف. نبرة صوته ونظرات عينيه ولحظات الصمت التي يفكر خلالها وابتساماته الماكرة ، كل ذلك كفيلٌ بتحقيق واحدةٍ من أكثر الشخصيات (حقيقية) في تاريخ السينما كله. أصعب الأداءات هي تلك التي يقوم خلالها الممثل بأداء نفسه في تخطيطٍ مسبق ! مصداقيته تجعله تحت مجهر المشاهد بشكلٍ مستمر لنفي صورة الإحتيال التي أخذناها عنه في (اللقطة الواسعة). كلما اقتربنا منه أحببناه ، وربما هذا ما يجعل لهذا الفيلم قيمةً حقيقية. أن تستطيع (اللقطة المقربة) هنا - بمعناها الحرفي والمجازي - تغيير نظرتنا وحكمنا على هذا الرجل - الذي بإعترافه هو - قام بفعل (إحتيال) ! حقيقية سابزيان عالية وتعامله مع الوسيط السينمائي حميميٌ أكثر مما حدث مع أي بطلٍ آخر من أبطال كيارستمي. لا يهز الشخصية بين الحقيقي والمزيف. يمثل أنه يحتال كما لو أنه يمارس فعلته الأولى ، و يدافع عن نفسه كما لو أنه لم يفعلها ! بينهما لا يعود واضحاً او حتى مهماً لنا أن ندرك أن الأولى أعيد تصويرها والثانية حقيقية. حسين سابزيان (الشخصية / الأداء) هو عمق هذا العمل الذي يؤكد على مقولة كيارستمي الشهيرة عن فيلمه هذا (هذا فيلمٌ صنع نفسه بنفسه) ومن الإدعاء الجزم بأن كيارستمي كان يعرف النتيجة التي سيحصل عليها عندما قرر مطاردة هذه الحكاية وهذا برأيي جزءٌ لا يتجزأ من قيمة الفيلم .
في الذروة حيث الجزء الروائي الخالص من الحكاية عندما يقرر كيارستمي
تقديم المشهد المحذوف لمشاهده (مشهد القبض على سابزيان من داخل
المنزل) يصر مجدداً على تقشفه البصري مع حركةٍ محدودةٍ للكاميرا وقطعٍ يعود دائماً
إلى وجه سابزيان مع تأثيرٍ بصريٍ عظيم لمستوى اللقطات. شيئاً فشيئاً
تصبح اللقطة المقربة أبعد فأبعد معطيةً شعوراً حقيقياً في لحظة القبض عليه بأن سابزيان مجرد
محتال. يجلس هناك في لقطةٍ واسعة ، قلقاً لا يعرف ما يجري ولا يدري ما الذي طرأ
على العائلة ، وكأنما كيارستمي – بصرياً - يؤدبه على فعلته ، قبل أن يمنحه في مشاهد
الختام لحظة انتصاره مجدداً من خلال فعل (حركة) ، دراجةٌ ناريةٌ يستقلها مخملباف و سابزيان
تطاردها شاحنةٌ تتلصص فيها كاميرا كيارستمي على الرجلين. كان ذلك المشهد الوحيد الذي لا يعرف
فيه سابزيان بوجود كاميرا. مخملباف يخبىء الميكروفون الذي لا يعلم عنه سابزيان شيئاً. كانت مباراةً حواريةً غير محسوبةٍ بين رجل بنصٍ مكتوب وآخر لا يعرف شيئاً وجد
فيها كيارستمي تعقيداً يتناقض وبساطة سينماه وإطار (الطبيعية) الذي
يحيط بالمشهد. أراد أن يمنح سابزيان لحظته الخاصة فافتعل المشكلة التقنية في الصوت واستخدم الموسيقى التصويرية وأحضر من الطبيعة – عشقه الذي لم يجد له متنفساً في هذا
الفيلم – باقة وردٍ يحملها سابزيان كي يعتذر من عائلة آهنخواه ، قبل أن
ينهيها على واحدةٍ من أشهر قفلات الفريزنغ في تاريخ السينما .
البعض رأى في الفيلم تناولاً ليس لأزمة الهوية في بطل عباس كيارستمي وإنما
لأزمة الهوية في إيران بعد عقدٍ من الثورة. رؤية وجد فيها كيارستمي
نوعاً من المبالغة. ما يطرحه هنا هو (نموذج) أزمة الهوية الذي يمكن اسقاطه مجتمعياً وسياسياً أو حتى
تناوله على مستوى الفرد. في كل أفلامه كان يتناول النموذج القابل للقياس. سينماه
ذاتها كانت نموذجاً بالغ الأثر في سينما بلاده. كيارستمي حرر السينما
الإيرانية ومنحها بصمتها وشخصيتها. لا توجد موجةٌ سينمائيةٌ أو حركةٌ أو تيارٌ
سينمائي ، لا توجد سينما بلدٍ بأكمله تأثرت بعمل مخرجٍ واحد كما فعلت أعمال كيارستمي
بالسينما الإيرانية. بينها جميعاً يبقى هذا الفيلم مأثرته الأعظم في نظري ومنجزه
السينمائي الأكثر تأثيراً . في أفلامه كان كيارستمي دائماً يذكرنا بأنه يصور فيلماً ، والآن انتهى
التصوير .
التقييم
من 10 : 10
رائع وموجز متقن وفيه كل ما يجول في العقل ويعجز عن ترتيبه بعناية كعنايتك اشكرك جدًا جدًا ، ودمت بخير
ردحذف