كتب : عماد العذري
بطولة : جون غابان ، ميراي بالان
إخراج : جوليان دوفيفييه (1937(
غراهام غرين إعتبر هذا الفيلم أحد أهم الأفلام التي ألهمته كتابة The
Third Man ، كان النجاح الملفت الذي حققه فور إطلاقه في فرنسا وخارجها بالغ الأثر على
سينمائيين كثر لدرجةٍ دفعت هوليوود لإعادة تقديم نسختها الخاصة منه Algiers
بعد عامٍ واحدٍ فقط على إطلاقه وهو شيءٌ لم تعتد فعله ، بقي لعقودٍ بعد ذلك علامةً
سينمائيةً بارزة والمأثرة الأهم التي خلفها لنا مخرجه جوليان دوفيفييه .
كان دوفيفييه أقل المخرجين الأربعة الذين بلغت الواقعية الشعرية بوجودهم
ذروتها ، إسمها ارتبط على الدوام بجون رينوار ومارسيل كارنيه وجون فيغو بينما بقي إسم دوفيفييه
أقل تناولاً بالرغم من النجاح الملفت الذي حققته أفلامه في حينه ، بعد نجاحه هنا رحل
دوفيفييه
- مثل رينوار
- إلى هوليوود لكنه واجه الكثير من العقبات في إنتاج أعماله كما يريد تماماً كما
حدث مع رينوار
، مع ذلك لم تخلف مسيرته في فرنسا بصمةً وتأثيراً أكبر من ذلك الذي فعلته في
هوليوود ، وحده هذا الفيلم كان يغرد خارج سرب المرحلتين .
في الحكاية - التي اقتبسها دوفيفييه مع هنري لابارت عن رواية الأخير -
هناك بيبي
لو موكو (نسبةً لبحارة مدينة تولون) مجرمٌ فرنسيٌ ذائع الصيت يهرب من
الشرطة مختبئاً في منطقة القصبة من العاصمة الجزائرية حيث تكوينها العمراني يجعلها
أشبه بمتاهةٍ تحميه ورجاله من الوقوع في أيدي مطارديه الذين عليهم الآن أن يتخذوا
مساراً جديداً في محاولتهم الإيقاع به .
من خلال هذه الحكاية يقدم دوفيفييه مثالاً من السهل تناوله والاستشهاد به عن
الواقعية الشعرية ، منهجها و عناصر قيمتها وأسباب تأثيرها على عددٍ كبيرٍ من
سينمائيي العالم بصورةٍ جسدت فيه التيار السينمائي الأكثر تأثيراً في السينما
العالمية على الإطلاق ، على الأخص في الأثر الذي ألهمت به سينمائيي الواقعية
الجديدة في إيطاليا و الفيلم النوار في هوليوود ومن بعدهم الموجة الفرنسية
الجديدة.
أبطال دوفيفييه هنا صورةٌ نموذجيةٌ لأبطال الواقعية الشعرية ، أناسٌ
مسحوقون إما نتيجة أفعالهم أو نتيجة أفعال المجتمع بهم ، وصراعهم في كلا الحالتين
ليس ذاتياً ، نسبة الرضا لديهم وتصالحهم مع ذواتهم عالٍ على طول الخط ، يعيشون في
الظل ، في كواليس مسرح الحياة : الشوارع الخلفية للمدن الكبرى ، أو أرصفة الموانئ
، أو الريف الفرنسي ، هناك يكون مسرحهم الخاص للحب والعواطف المكبوتة التي تميل
دائماً لتنتهي نهاياتٍ غير سعيدة ، دوفيفييه لا يبدأ من الشخصيات هذه المرة بل
يبدأ من ذلك المسرح الخاص ، المكان ، وهو هنا بنيةٌ معقدة الوصف تدعى (القصبة)
حيث تحول بطله بيبي لو موكو إلى ملكٍ و سجينٍ في الوقت ذاته ، يفتتح دوفيفييه
فيلمه من المكان ، على صوت الأذان ثم خريطةٍ لمدينة الجزائر في مبنى الشرطة على
خلفية حديث محتدم عن فشل جهود القبض على بيبي ، الرجل الذي كلفهم عامين من المطاردة
وخمسةً من رجالهم ، عندما يتناول دوفيفييه المكان يستخدم لقطاتٍ تسجيليةً من القصبة
مع صوت الراوي ، في مكتب الشرطة ينوع دوفيفييه بين اللقطات المتوسطة والواسعة كما
سيفعل طوال الفيلم ، نتعرف على المشكلة في لقطةٍ واسعة ثم ينتقل إلى اللقطات
المتوسطة ليعرض الإختلاف القائم حولها ، يبدو الكلوز آب – كما هو عند مخرجي الواقعية
الشعرية – جوهرةً نادرةً لا يعرض إلا عند الحاجة ولا يستحقه إلا أبطال
الحكاية وحدهم ، عند لقائنا بعصابة بيبي يعيد دوفيفييه المسألة معكوسة ،
يبدأ من اللقطات المتوسطة قبل أن يقطع على لقطةٍ واسعةٍ لهم ، الإنتقال هنا من
عالم الشرطة إلى عالم بيبي لو موكو يتم على مرحلتين مهمتين : مرحلة التعريف
بعالم بيبي
وكيف يدير عصابته بين الحزم والود ، و مرحلة إيجاد تفسير (بصري) مقنع للمشاهد
لماذا يبدو القبض على بيبي شيئاً صعباً ، هذا الإنتقال يديره دوفيفييه
بعظمة مقدماً واحداً من الأمثلة العظيمة المبكرة لقدرة المكان على لعب دور البطولة
، القصبة تجثم على الصورة وتستولي على الحكاية ، وجودها (بصرياً) عنصرٌ بالغ الفعالية
في الحكاية ، بالحد الأدنى منها يجعلنا دوفيفييه نشعر وكأنما هي حاجزٌ أو ستارٌ
حديديٌ يحيط ببطله ويؤمن له الحماية ، من أجل ذلك لا يكتفي دوفيفييه
بصوت الراوي الذي يخبرنا عن القصبة بل يجعل من مداهمة الشرطة للقصبة بحثاً عن بيبي
تجسيداً بصرياً عظيماً لذلك ، تعتمد كاميرا دوفيفييه على الحركة الأفقية
مع تغيير الكادر ضمن اللقطة ذاتها توسيعاً أو تضييقاً مع توزيعٍ مختلفٍ للضوء كل
مرة ، هي تستغل هنا بشكلٍ ملحوظ تصميم الإنتاج العظيم الذي قام بتنفيذ القصبة في
ستوديو بصورةٍ مقنعةٍ جداً ، هناك دائماً تفاصيل صغيرةٌ في تصميم الإنتاج في ذلك
العصر تسهل التفريق بين المكان الحقيقي والستوديو ، هذه التفاصيل لا تكاد تذكر هنا
، كاميرا دوفيفييه تستولي على هذا التصميم ، تعمد إبتداءًا من المداهمة على التقاط
عنصرٍ في كادر ثم تغيير الكادر لإلتقاط عنصرٍ آخر ، هذا التكنيك الذي يستثمر فيه دوفيفييه
تصميم الإنتاج المقنع وحركة كاميراه المتكررة يعطي الحدث صورةً (تدفقية)
معبرةً بشكلٍ (بصري) عن تدفق الحدث وتتاليه بسهولة عبر القصبة ، كأنه موجة أثيرٍ تنقل
خبر المداهمة ، ترجمة بصرية لا تحتاج لأسطرٍ حوارية لتفسير الصعوبة المنطقية في
اصطياد رجلٍ مثل بيبي لو موكو في مكانٍ كهذا ، أكثر ما يثيرني في عمل دوفيفييه
هنا هو أن مقصده خلق حالة الحصار التي يعيشها بيبي في القصبة كمبررٍ مزدوج
لتفسير بقاءه ملكاً هناك من جهة و تفسير عجز الشرطة عن الوصول إليه من جهةٍ أخرى
لا يترجَم بصرياً من خلال أدواته التقليدية المفترضة (اللقطات القريبة والمونتاج)
وإنما على النقيض من خلال اللقطات الواسعة والتعامل مع تعدد الكادرات ضمن اللقطة مستثمراً
بالطبع الفوكسة العميقة - على غرار ما فعله رينوار – محققاً واحداً من
أعظم الدروس المبكرة في التعامل مع المكان كبطلٍ رئيسيٍ من أبطال الفيلم ربما أكثر
مما فعل اي فيلمٍ آخر من أفلام المستعمرات الرائجة حينها .
عندما نقترب من بيبي – بعد اقترابنا من المكان – لا نجد فيه شيئاً
مختلفاً عن أبطال الواقعية الشعرية ، جميعهم يعيشون مأزقهم مع محيطهم أكثر من كونهم
يعيشون أزمتهم الذاتية ، الجزء الأهم في تفعيل النفس (الشاعري) للحكايات (الواقعية)
التي سردها هذا التيار كان يكمن في هذا التفصيل ، بيبي لو موكو الذي يحكم القصبة
مثل ملك ولا يستطيع مغادرتها مثل سجين رجلٌ ما زال رهناً لباريس ، ما زال يعيش على
ذاكرته تجاه العاصمة الفرنسية ، في تركيبه النفسي بيبي أعقد من أن يكون مجرد رجل
عصابة ، هو إداريٌ ناجحٌ على أعلى مستوى ، صورةٌ مختلفةٌ من برجوازيي عصره ،
المثالية في التخطيط و التعامل مع مرؤوسيه والمحيطين به ، المختلف فقط هو أنه
موضوع على الجانب السلبي من المعادلة ، تهتم كاميرا دوفيفييه بمنظره وهندامه ،
تكثف على التقاط أناقته وفرنسيته المتناقضة مع المكان الذي يقيم فيه ، وهو عنصرٌ
يمعن في ترسيخ صورة كينغ كونغ التي نراها في بيبي لو موكو ، الكائن الذي
يختلف عن محيطه لكنه يبدو ملِكاً فيه و لن يجد سوى الأصفاد لو قرر مغادرته ، و المحقق سليمان
هنا هو الصورة (المحلية) للرجل الذي سيجرد بيبي من عالمه ذاك ، سليمان مثل جافير
بؤساء فيكتور
هيغو ، شخصٌ يحترم خصمه ويدرك قدرته لكنه لن يتوانى عن فعل أي شيءٍ للإيقاع
به ، لن نحتاج للكثير من الوقت لنتعرف إلى شخصيات دوفيفييه الأخرى كذلك ، بيبي
يحكم القصبة بميزان غريبٍ من الود و الحزم ، هم يحبونه ويخافونه أيضاً ، عندما
يأسره الحب ونراه يغني على سطح منزله تسمعه القصبة كلها ، نرى اللهفة
والانفتان في عيني نسائها في لقطاتٍ متوسطةٍ متتاليةٍ تغني المعنى ، في عمق
الشخصية لا يصعب علينا أن نرى أن بيبي ملّ القصبة ، حتى عشيقته إينييس لا يريدها أن
تذهب معه لو غادر المكان لأنها ستذكره بالقصبة ، بيبي مغلوبٌ على واقعه مثل
شخصيات الواقعية
الشعرية ، لا يختلف كثيراً عن صديقته العجوز التي كلما ضاق بها الحال
استذكرت أيام مجدها عندما كانت تغني في باريس ، مع باريس علق كلاهما في دوامة
الزمن ، عندما يلتقي بيبي بجيزيل السائحة الفرنسية الحسناء التي تزور القصبة يبدو
أن ما جذبهما تجاه بعضهما هو شيءٌ أعمق من الحب قياساً للمدة الزمنية التي تطورت
خلالها العلاقة ، جيزيل وجدت في بيبي صورةً أليفةً من جاذبية الرجل الفرنسي في مكان
تقيم فيه مع ثريٍ عجوزٍ ينفق عليها ، بينما وجد فيها بيبي رائحة باريس ،
الصورة المختلفة لفرنسا التي اشتاق إليها ، فرنسا التي تحيط به هي إما رجال عصابته
أو رجال الشرطة ، كره جيزيل للحصار الذي فرضه بيبي على نفسه هو إيماءة
الحرية الأولى التي تقوده لتغيير كل شيء ، وهو تفصيل يخبرها إياه صراحةً (أن أكون معكِ
مثل أن أكون في باريس) ، لا يترك دوفيفييه ذلك البعد من العلاقة ينفرد وحده
بحيث يسلبها قيمتها العاطفية ، هناك حبٌ فعلاً يجمع بيبي بجيزيل حتى وإن نبع من رغبة
الانعتاق التي تحكمهما ، هذا الحب يفرد له دوفيفييه بعض الخصوصية البصرية من خلال
التكثيف على الكلوز آب وعملٍ مقدرٍ على الميزانسين ، عندما يلتقي بيبي جيزيل
أول مرة يأخذه دوفيفييه من منظورٍ منخفض ويأخذ جيزيل من منظورٍ مرتفعٍ
كترجمةٍ بصريةٍ لحالة الإنبهار التي تحدث ، والكلوز آب هنا يبدو أشبه بمساحة هربٍ
من المكان ، عندما يحدث ويملأ وجه الشخصية الكادر تبدو الشخصيات وكأنما عزلت عن
واقعها وهربت منه ، وعلى خلاف مسحة الرحابة والحرية التي تمنحها اللقطات الواسعة
والمتوسطة عادةً للشخصيات ، تجد شخصيتا دوفيفييه هنا حريتها من خلال الكلوز آب ،
تفصيل يتآزر أيضاً مع الموسيقى التصويرية (الشرقية / الغربية) التي تتدرج على مدار
الحكاية ، يكتفي دوفيفييه بأصوات المكان عندما يكون إهتمام مشاهده منصباً على القصبة ،
ثم تزداد المساحة المقدمة للموسيقى كلما أصبح المشاهد مهتماً أكثر بالعلاقة
العاطفية وكأنما هو يعزلها عن القصبة بصرياً و صوتياً ، مع ذلك سيبدو من السذاجة
في النص لو راهن على ذلك بمفرده قياساً للمدة الزمنية القصيرة التي تجمع بيبي بجيزيل ،
هنا يأتي مقتل بيرو ، رجل بيبي الذي يكن له الكثير من الحب والذي يعامله بيبي
كإبن ، هذه الحادثة تهز ارتباط بيبي بالقصبة ، لم يعد ذلك الشخص المحصن فيها ، و
بالرغم من أننا لا نرى عملياً إشارةً بصريةً مكتملة على خطورة بيبي
كمجرمٍ بقدر ما نرى تفسيراً لحصانته ومنعته في هذا المكان – وهو أمرٌ يؤخذ على
النص – إلا أن دوفيفييه يحافظ على إيقاع الشخصية دون خطأ ، نفهم بيبي
وندرك لحظةً بلحظة ما الذي يفكر به ، علاقته الروحية بالقصبة غير ظاهرة وغير معبرٍ
عنها لكن آثارها موجودةٌ في كل شيء نراه ، صحيح أن هذا لا يشبع الشخصية تماماً
لكنه بالمقابل لا يفقدها التوازن خصوصاً مع وجود جون غابان في الدور الرئيسي ، غابان
يمنح بيبي
شيئاً لا يسهل التقاطه ، مزيجٌ مدروس من المجرم المحترف الذي يعرف تماماً ما الذي
يفعله وبين الإنسان المحبوب فعلاً في محيطه دون أن يكون خاضعاً له ، إنكساره وضعفه
الداخلي غير محسوس لكنه موجود ، يثبت من خلاله مجدداً أنه مزيجٌ فطريٌ كممثل بين
الرجل الصلب والكائن المشوش والعاشق الضعيف ، لطالما كان من السهل عليه أن يجمع
ذلك في ملامح وجهه ، وربما هذه العناصر التي اجتمعت في موهبة جون غابان
جعلت أفلامه تحمل الكثير من المشتركات (ولا يمكن إنكار أن هذا كان نوعاً من
التنميط) ، ومع ذلك كان أداؤه قادراً في كل مرة على جعل كل شخصيةٍ مختلفةً عن
الأخرى ، هنا تحديداً يقدم واحداً من أفضل أداءاته .
في رحلته نحو الميناء أخيراً تسير الكاميرا وراء بيبي وأمامه محاولاً دوفيفييه
منح اللحظة مسحةً من الغيبوبية راسماً في الخلفية مخاض إنعتاق بيبي
أخيراً من القصبة ، وعندما يقف أخيراً عند الدرج الأخير منها تبدو تلك اللحظة
مصيريةً فعلاً : لا أحد على وجه التحديد – بمن فيهم بيبي نفسه – يعلم ما الذي
ينتظره الآن ، الإنعتاق من سجنٍ كان هو الوحيد القادر على حمايته ، و بالرغم من أن
النهاية تبدو نموذجيةً في عرف الواقعية الشعرية إلا أن مقدار الإشباع الذي تولده قد
لا يكون كاملاً ، ما نراه على وجه غابان في الختام هو أكثر من الحب تجاه جيزيل ،
عندما يراها على وشك الإبحار كان يرى باريس في الواقع ، صورةٌ يؤكد عليها دوفيفييه
في لقطته الختامية مع كاميرا من وراء القضبان ترقب السفينة المغادرة ، لا بيبي ولا
جيزيل
في الصورة ، فقط حلم الحرية .
قد لا يكون صعباً أثناء مشاهدة هذا الفيلم إلتقاط تأثيره على المسحة
الشاعرية التي طغت في أفلام الجريمة في أربعينيات القرن الماضي ، تأثيره على تحفة مايكل كورتيز Casablanca
كان ملحوظاً وإن نسبه البعض لإقتباسه الهوليوودي Algiers
، المسحة الشاعرية لشخصيات كازابلانكا تأثرت به ، كما هو نهج التدرج من المكان
نحو الشخصية الرئيسية التي تدير عالماً لا تنتمي إليه ، وقوة الحب و أثر التضحية
في سبيله ، في النهاية لا يحصل بيبي على (باريسه) على خلاف أبطال كازابلانكا
التي بقيت باريس معهم ، جون رينوار كان يصف دوفيفييه بأنه (حرفيٌ بارعٌ و
شاعرٌ عظيم) ، وقال ذات مرة (لو كنتُ مهندساً معمارياً وكان عليّ أن أبني نصباً
تذكارياً للسينما لوددتُ أن أضع تمثالاً لدوفيفييه فوق المدخل) ، هذا
الفيلم هو التبرير الأهم لذلك .
التقييم من 10 : 9
0 تعليقات:
إرسال تعليق