كتب : عماد العذري
بطولة : تيودور كوربان ،
ميهاي كومانويو
إخراج : رادو جود (2015)
منذ مطلع الألفية تعيش السينما الرومانية ذروتها من خلال أعمال مجموعةٍ مهمةٍ
من الأسماء التي شكّلت عقد ما عرف ضمنياً بـ (الموجة الرومانية) تشاركت المواضيع و سوداوية الطرح و الكثير من تقاطعات التعبير
البصري ، أعمالٌ قادت السينما الرومانية لتصدّر المشهد في المحافل السينمائية
الكبرى من خلال القيمة السينمائية الرفيعة التي قدمتها ، فيلم رادو جود الثالث - الفائز بدب برلين الفضي كأفضل إخراج العام الماضي – مثالٌ آخرٌ
على ذلك .
ممثل رومانيا في سباق الترشح لأوسكار أفضل فيلم أجنبي يأخذنا في رحلةٍ في
مقاطعة فالاشيا في رومانيا القرن التاسع عشر ، كونستاندين ضابطٌ
ملتزمٌ توكل له مع إبنه يونيتا مهمة جلب عبدٍ غجريٍ هرب من سيده ، خلال رحلتهما
يختبران بعض التقلبات النفسية ، يلتقيان شخصياتٍ موزاييكية ، و ينقل الأب جزءاً من
خلاصة تجربته الحياتية إلى إبنه الذي يعيش مرحلة النضوج .
في بداية مسيرته عمل رادو جود إبن الثامنة والثلاثين كمخرجٍ مساعدٍ لكوستا غافراس
في Amen
و لرادو مونتيان في Furia و لكريستي بويو في The Death of Mr. Lazarescu ، قبل أن يحقق فيلمين ممدوحين لم أشاهدهما بعد ، مع ذلك لا تحتاج للكثير من
الوقت هنا لتستشف أن رادو جود بالرغم من إختلاف الأبعاد المكانية و الزمانية عن
المألوف في أفلام الموجة الرومانية إلا أنه ينتمي لسينماها في كل تفصيل قصصيٍ أو
بصري ، لا يبدو في منجزه بعيداً عن أقرانه المهمين (بويو و مونجيو و مونتيان و نيتزر و بورمبيو) ، لا
من حيث ما يسرد ، و لا من حيث الطريقة التي يسرده بها .
يفتتح رادو جود فيلمه بلقطةٍ منخفضةٍ للسماء و نبات الصبار مع موسيقى
شعبيةٍ رومانية ، لوهلةٍ ستشعر بأنك أمام فيلم ويسترن ، مع ذلك لن تستطيع مراوغة
الإحساس بأزلية ما سيروى (خصوصاً وأنت تشاهد الإفتتاحية للمرة الثانية) ، يضع
أمامنا لوهلة حكايا الهنود الحمر ، و المارياتشي ، و روح قصص الغجر ، و بصرية
القفار أثناء استماعنا لرجلين على ظهري حصانين يتحادثان دون أن نراهما ، يحجب رادو جود شخصياته
عن المشاهد و يبقي أصواتهم في بداية لقاءنا بهم ، ثم لا يلبث يؤكد ذلك الإنطباع من
خلال إصراره الواضح على تجنب الكلوز آب في فيلمه ، يخبرنا بصرياً و مبكراً جداً أن
ما يهمه هنا ليس الأشخاص ، ليس ذواتهم و انتماءاتهم و طريقة تفكيرهم ، ما يهمه أن
ما يحدث هنا قد حدث و يحدث كل يوم و سيستمر في الحدوث على الدوام ، يأخذ من خلال
ذلك منظور (من ينظر في التاريخ) عبر فجوةٍ زمنية ، عموميته و صورته الكبيرة التي
تبقى ، لا تهمنا كثيراً انفعالات الشخصيات و تحولاتها بقدر ما يهمنا طريقة تفاعلها
مع ما هي بصدده ، يستثمر ذلك التفصيل المبكر كما يستثمر صورة الأبيض و الأسود التي
يقدمها لنا كي يمنح حكايته مذاقاً أزلياً و مسحة تكرارٍ تاريخيةٍ تجعلها لا تنتمي
لمكانها أو زمانها ، شيئاً فشيئاً بعد هذه الإفتتاحية نبدأ ندرك أن حكاياه التي
يقدمها هي صورةٌ كبيرةٌ عن (الضعف الإنساني) و ليس عن ضعف (إنسانٍ) بعينه ، مشترك
علاقتها بالمشاهد أنها تحدث كل يوم .
ما أن تبدأ الحكاية في الإتضاح حتى ندرك أننا أمام درسٍ في تاريخ الإنسانية
، كل ما يحدث فيه (غريزي) وليس (حدثي) ، و ربما هذا يحرر المشاهد مبكراً من توتر انتظار حدثٍ
مهمٍ يحرك الحكاية و يمنحه شعور استرخاء أكبر في تتبعها مصدره بشكلٍ رئيسي هو قدرة
جود العظيمة على إلغاء الأبعاد التصنيفية لفيلمه ، ستجد بعضاً
من روح الويسترن ، ستجد شيئاً من الدراما ، و شيئاً من الكوميديا ، و شيئاً من
الإثارة ، و شيئاً من أفلام الطريق ، وهذا يسهّل ربما على مشاهده استقبال الفيلم و
الإستمتاع بما يراه ، يصبح الحدث شيئاً ثانوياً – خصوصاً مع حركته البطيئة – و يصبح
هاجس المشاهد تأمل ردود الفعل (الغريزية) التي نراها في تفاعل كونستاندين و ابنه مع ما
يجري من حولهم ، تفاعلٌ فيه الكثير من الفكاهة و الإشارات التاريخية ، في عمقه
الكثير من المواضيع : الجنس و السلطة و العبودية و الدين و القوة و العلاقات
الإقتصادية و الإجتماعية و العائلية و تسلسل التبعية في المجتمع ، كل ذلك نراه من
عيني كونستاندين كما يريد أن ينقله لإبنه ، و كونستاندين من
حسن الحظ شخصيةٌ ساخرةٌ جداً بالرغم من جديتها الشديدة ، و هذا ما يجعل من الصعب
أن يمر حدثٌ عابرٌ دون أن تمنحنا تعليقها عليه ، جل تلك التعليقات لا يرتبط بزمانٍ
أو مكان و من خلاله يضرب رادو جود في عمق ما يتناوله عن مقدار التغير في عقول الناس و
معتقداتهم بمرور العصور و الحقب ، الملفت فعلاً في هذا الكم من التعليقات التي
ترافقنا في هذه الرحلة أنها لا تبتذل عنصر (الحوار) كوسيلةٍ
للحكي ، لأنها تقدَّم في الأساس ضمن قالب (تمرير الوقت) الذي يكون الحوار سلاحه الأول في أي رحلة ، و هذا
التأثير يكون مضاعفاً عندما يكون طرفا الرحلة والداً و ولده ، من خلالهما يأخذ
الحوار شكله الوعظي الذي لا يخلو من هزل ، ومن خلال الشخصيات التي يلتقيانها يأخذ
شكلاً أكثر سخريةً و هزلاً يجعل الحكاية أكثر عالمية ، حوارهما مع قسٍ تحطمت عجلةٌ
في عربته فساعداه على اصلاحها هو مثالٌ على تلك العالمية ، خذ هذا القس و ضع بدلاً
عنه أي رجلٍ آخر من أي شعبٍ من تلك الشعوب المذكورة و سيعطيك وجهة نظرٍ مختلفةٍ
لتلك الشعوب ، عالمية الفكاهة هنا أنها لا تنتمي لعصرها ، أثناء استماعك لها لا
تستطيع أن تنكر أننا ما زلنا إلى يومنا هذا نمارسها كل يوم ، و الجميل أن ذلك لا
يحدث خارج السياق بل بالعكس يوظفه جود بصورةٍ جيدةٍ لقتل رتابة الرحلة ، يبقي محورها معلقاً
بالبحث عن العبد الهارب ثم بإعادته ، لكنه يطعم كل مرحلةٍ في الرحلة بخصوصيتها ،
يجعل الحدث أكثر واقعيةً و يجعل إطاره أكثر هزلاً ! ، كل شخصٍ يلتقونه يبدأون
الحديث معه عن العبد الهارب (مهمّتهم) ثم سرعان ما يقودهم الحديث إلى موضوعٍ آخر
يضخ فيه جود مسحة الهزل التي يريدها ، يخدمه في ذلك أولاً أداء تيودور كوربان
الذي سبق وشاهدنا في عددٍ من أهم أفلام الموجة ، يخلق في كونستاندين مزيجاً من
الأبوة و الالتزام و الثقة بالمعتقد و الهيبة و القسوة و الهشاشة الداخلية و يجعل
الأجمل من تلك المقولات التي نسمعها على لسانه هو مقدار الثقة التي يقولها بها و
الدفعة الهائلةٌ من اليقين في نبرة صوته و بديهية إحساسه بالعبارة ، دائماً ما
تكون الكوميديا أكثر إضحاكاً عندما تأتي من وجهٍ جاد ، و تيودور كوربان يحقق
هذه المقولة فعلاً .
ثم يخدمه في ذلك ثانياً مرح الصورة المفعمة بالحياة بالرغم من قتامة
الموضوع ، في الصورة الكثير من حميمية جارموش وهزل صورته قبل هزل حكايته ، يعمل الرجل من خلال مدير
التصوير ماريوس باندورو على خلق حاضنةٍ بصريةٍ منعشة لرحلة الرجلين ،
أعتقد أنه من الصعب جداً محاولة خلق المذاق الأزلي التكراري للحكاية و تجريدها من
الإرتباط بالزمان و المكان من خلال صورة بالأبيض و الأسود دون أن يسلب الحدث
المحاط بالكثير من (الطبيعة) الفاتنة حميميتها و جمالها ، المدهش أن هذا لا يكتفي
بألا يحدث بل أنه في الواقع يصبح أجمل ، و من النادر أن تكون الطبيعة المأسورة في
الأبيض و الأسود جميلةً كما يقدمها رادو جود هنا ، التصوير في الغابة مثلاً فتنة ، تستثمر كاميرا باندورو الضوء
المنسل من تزاحم الأشجار ليصنع قطعةً بصريةً أكثر جمالاً لأشجار الغابة يمر عبرها
بطلا الحكاية ، مسيرهم في أشعة الشمس المندفقة من مساحة فراغٍ بين الأشجار تعطي
إحساس المرور في شلالٍ بالأبيض و الأسود ، جود بذكاء يتفهم أدواته و يصنع بأقل ما توفر لوحاتٍ بصريةً لا
تبهرج الحكاية ولا تبدو خارج سياقها ، يسلمنا من لوحةٍ إلى أخرى ، نخرج من الغابة
إلى مستنقعٍ قريبٍ لا تقل صورته جمالاً ، جمال الريف و سحر الإطار البصري ينطق على
الشاشة ، في الكثير من منعطفات الرحلة شعرت أنني في نزهةٍ ريفيةٍ فعلاً ، شعرت
بأنني مع جان رينوار ، الإحساس بالمكان عالٍ جداً ، حتى عندما يغريك
النص بحواراته اللذيذة لا يمكن أن تفقد إحساسك بتفاصيل المكان ، ومنعطفات الطريق ،
و النهر ، و الأشجار ، والحيوانات ، والمنازل ، و ربما تجريد الفيلم من الموسيقى
التصويرية سمح لذلك التأثير أن يصبح مضاعفاً من خلال تسليمنا الكامل بصرياً وصوتياً
للطبيعة على مدار الرحلة .
بالمقابل يحقق رادو جود بصرياً الإحساس بطول الرحلة مستخدماً اللقطات الكسولة
كردٍ على بطء حركة بطليه في حصانيهما مع كادراتٍ واسعةٍ ممتلئةٍ بالعناصر لتجنب
عزل بطليه بصرياً كيلا يخلق في حكايتيهما نوعاً من التخصيص في حين أنه يريد
التعميم ، يكتظ الكادر من حولهما بالبشر و الأشجار و الماشية و المنازل ، طريقهما
ممتعٌ وغنيٌ على المستوى البصري تضيف له الإستمرارية و الطول حس التكرار المطلوب ،
و في المحطات يميل جود إلى اللقطات المتوسطة كي يتيح للحوار الحصول على صورته
المطلوبة بين المتحاورين بحيث ينقله من شكله القصصي / النقلي في اللقطة الواسعة لأبٍ
و إبنه ، إلى شكله الساخر / العبثي بين شخصين لكلٍ منهما معتقده ، قبل أن يقطع
مجدداً على لقطةٍ واسعةٍ كي يذكرنا من حينٍ لآخر بـ (أوديسية) الرحلة .
مثل جميع أفلام الموجة يستثمر رادو جود حكايته في التعليق السياسي الإجتماعي على رومانيا (على
الأقل بالصورة الظاهرية للحدث الذي يجري على الأراضي الرومانية) ، وهو يمتلك مادةً
مهمةً لذلك من خلال موضوع العبودية ، مع ذلك لا يرتبط الطرح بشكلٍ وثيق برومانيا حتى
قياساً لعصرها ، صورة العبودية التي نراها هنا يمكن أن تكون قد حدثت في روما أو في
تكساس أو في الصحراء العربية أو في مكانٍ ما من أفريقيا ، و أعتقد أن جزءاً من
عالمية الحكاية يتجاوز المضمون إلى طريقة الطرح ذاتها ، كونستاندين هنا ليس
شخصيةً شريرة ، لكنه واحدٌ من الملايين الذين قامت عليهم منظومة العبودية بكافة
صورها و أشكالها عبر التاريخ ، الشخصيات التي (تمتثل) لأن من يرى و
يفكر عنها لا بد أنه يدرك أكثر منها (الصالح العام) ، الصورة ذاتها نراها مصغرةً في علاقة كونستاندين
بإبنه ، هي أيضاً علاقة امتثالٍ و تبعيةٍ تستمر وتستمر ، الوحيد الذي لا يشعر
تجاهه كونستاندين بالإمتثال هو شرطي المقاطعة الأخرى الذي يفاوضه و
يرشوه كي يجعله يمر ، هو ممتثلٌ آخر مثله ، على أكتاف هؤلاء صنع التاريخ ، في هذا
التفصيل ذكرني الفيلم ببطل برتولوتشي في تحفته The Conformist ، صحيح أننا نستشف في كونستاندين عنصريته منذ البداية عندما نراه يسأل إبنه (هل الغجر بشرٌ أم أفراخ
شياطين ؟!) لكننا سرعان ما ندرك مع الوقت أن ذلك مجرد خيطٍ من نسيجٍ مكتمل
تقوم عليه المنظومة الاجتماعية التي ينتمي إليها كونستاندين ، و شيئاً
فشيئاً تصبح صورة الغجر كعبيدٍ و وسيلة شراءٍ أوضح من منظورها المجتمعي مع تقدمنا
في الرحلة ، نبدأ ندرك أن الإعتقاد بدونية الغجر ليس مجرد صورةٍ رسخها التزام كونستاندين
بالحياة أو ولاءه لسادته بل هو هاجسٌ و اسلوب حياةٍ يعيشه هو و من حوله ، حتى في
الجنس يطلب إمرأةً (نظيفةً وليست غجرية) ، تعليق رادو جود على العبودية يذهب أبعد من مجرد التعامل معها كعقدٍ
إجتماعي أو كمنتوجٍ بيئي ، هو ينظر في صميم المفرزات و المنعكسات الأخلاقية التي
أنتجتها حتى يومنا هذا : الطبقية ، و ثقافة التبعية ، و فقدان القدرة (قبل فقدان
الحق) على اتخاذ القرار ، و الإحساس الدوني بأن هناك من يفكر بالأفضل أفضل منك و
من يتخذ الإيجابي أفضل منك ، على طول الخط هناك إيمانٌ بنبل (الأعلى)
سواءًا كان سيداً أو كاهناً ، طوال الطريق كان العبد يشتكي و كان كونستاندين
(بصدق) يطمئنه أن العقوبة ستكون بضع جلداتٍ فقط ، لم يخبر أحدٌ كونستاندين
بذلك ، لكن ثقته بالسيد هي من فعلت ، إحساسه الصادق بأنه (يمهد الطريق)
لسواه بعد مائة عام هو من فعل ذلك ، هناك هوةٌ (مردومة) بين الإعتقاد و الضمير لا
ندري في الحقيقة هل تتسع فعلاً لدى كونستاندين في الذروة أم لا ، لكننا ندرك ربما هلامية (الحق) كمفهومٍ
يعمل كونستاندين – كرجل شرطة – على تحقيقه ، الحق هو محرك كل شيءٍ
هنا ، الحق الإلهي أو حق القوة أو حق الحياة أو حق إمتلاك الحق أصلاً ، ولكلٍ
تفسيره و نواياه لذلك الحق : السطوة ، و الترقي ، و لذة الجنس ، و العيش بأمان ، و
التحكم بالآخر ، و (الجزار لا يخشى آلاف الأغنام) كما يقول كونستاندين ، في
عمق الإعتقاد بالحق هناك قدرة على الإعتقاد بأننا جزءٌ من مسعاه ، هناك نبرة تهكمٍ
لاذعةٍ في عنوان الفيلم ، شخصيات الفيلم هنا كما يراها جود جميعها تعتقد
أنها تقوم بالشيء الصحيح ، جميعها تنصر الحق كما تراه ، و جميعها تقول (عفارم) لبعضها
البعض ، حتى أفكار كونستاندين عن الصفح و الغفران مرتبطةٌ بالتبعية ، عندما رق
حال العبد الطفل له قام ببيعه لـ (الكنيسة) ، رأى بصدق أنه ينقذه بذلك ، و عندما يفكر إبنه
بالعبد الهارب كارفن و يقترح على والده إطلاق سراحه (بعدما شعر بلذة الجنس
لأول مرة) فيرد عليه كونستاندين : (و من أنت ؟ كاهن الكاتدرائية ؟!)
أعمق من ذلك يذهب رادو جود بموضوع العبودية أبعد بكثير من المحاولة الرومانية
لتسويق الفيلم كثاني فيلمٍ على الإطلاق يكسر تابو العبودية في رومانيا القرون
الوسطى والأول منذ حقبة الأفلام الصامتة ، يرى رادو جود في حكايته
بيئةً خصبةً – كحال أفلام الموجة – لتناول حقبة الحكم الشيوعي لرومانيا ، و إن
كانت نظرته هنا مرسلةً و غير مباشرة ، صورة العبودية التي نراها لا تختلف إطلاقاً
عن صورة العبودية التي عاشتها رومانيا في حقبة تشاوشيسكو ، و كونستاندين
هنا لا يختلف عن أي رفيقٍ في الحزب الشيوعي ، أولئك الممتثلين لمنظومةٍ لا يمكن
التطاول عليها ، حتى أولئك الذي يشعرون بالتفوق لأنهم من ينفذون قوانينها لم
يكونوا أكثر من عبيد ، بلدهم ذاتها كانت مثالاً مجسداً للتبعية و الإمتثال ، شخصيته
المسلوبة بفضل المعسكر الشرقي الذي يقوده الإتحاد السوفييتي في حقبة تشاوشيسكو ، أو
شخصيته المسلوبة بين الإمبراطوريتين العثمانية و الروسية في هذا الفيلم ، وهو هنا لا
يكتفي فقط بالتعليق السياسي ليضاهي أفلام أقرانه في الموجة بل أن شخصيته الرئيسية كونستاندين هي
إمتدادٌ واضحٌ لشخصيات الموجة ، شخصياتها دائماً تعاني خيبات الأمل ، تعاني نوعاً
من الإذلال تجاه واقعها ، ليس فقط شعور الإختناق و القسرية و رغبة الإنعتاق التي
لا تبوح بها ، بس أيضاً شيئاً من الإذلال يفرد له رادو جود هنا مشهداً
عظيماً ذكي التوقيت بالغ الأثر عندما يقف كونستاندين – ومن ورائه ابنه – على حقيقةٍ ربما يعرفها و
ينكرها ، قسوة العقاب في الختام أشبه برشة بهارٍ ختاميةٍ على تفاهة كل ما جرى و
يجري ، كل المبادىء التي سوقها لإبنه على مدار الرحلة ، عن الحق و الشرف و القوة ،
كلها تسقط أمام تجريد الإنسان من غايته الأسمى وهي رغبته بالحياة .
في فيلم رادو جود هذا تبقى صورة العبودية قاسيةً للغاية وسط هذا الكم
من الهزل ، صورة عبدٍ يعرض نفسه للبيع هرباً من مصير عبوديةٍ آخر ، أو صورة عبدٍ
آخر مقيدٍ على حصان أو يسير حافياً وراء حصان تجعله فيلماً طافحاً بالمرارة ،
يحاول رادو جود أن يكون ودوداً مع مشاهده قبل أن يقوده إلى مشهد
العقوبة القاسي ، في الختام لا شيء يتغير ، أغنيةٌ شعبيةٌ رومانية و ينتهي كل شيء !
، رادو جود يضيف كلاسيكيةً رومانيةً جديدة لا تملك أمامها إلا أن
تقول له : عفارم عليك !
التقييم
من 10 : 9
0 تعليقات:
إرسال تعليق