كتب : عماد العذري
بأصوات : إيمي بولر ، فيليس
سميث ، كايتلن دياز
إخراج : بيت دوكتر ، روني
ديل كارمن (2015)
بيت دوكتر هو أكثر مخرجي بيكسار إهتماماً بالقيمة المجردة لـ (المشاعر) ، في Monsters Inc. إكتشف أبطاله قيمة بكاء
الأطفال ثم إكتشفوا قيمة ضحكتهم ، و في Up
إختبر عجوزٌ ثمانيني مشاعره التي لا تصدأ تجاه زوجته الراحلة و هو يحقق حلم
حياتهما بالسفر إلى شلالات بارادايس في أميركا الجنوبية .
في فيلم بيكسار الخامس عشر يتعامل دوكتر مع المشاعر شخصياً ، مع الكيان المادي لها ، و (مشاعرها) ، و علاقتها
ببعضها البعض ، فكرةٌ مجنونةٌ قال دوكتر بأن التغيرات التي عاشها طفلاً عند إنتقال عائلته إلى الدنمارك و التغيرات
التي طرأت على شخصية إبنته إلي (التي أدت ببراعة صوت إلي في رائعته السابقة Up)
و هي تكبر هي من كانت السبب في فكرة الفيلم التي اختمرت قبل ستة أعوام ، استشار دوكتر عدداً من علماء النفس ليفهم ما يجري ، منهم – كما يخبرنا تتر الختام – بول إيكمان
أخصائي العواطف و داشر كيلتنر أستاذ علم النفس في جامعة كاليفورنيا ، وضعوا أمامه 27 شعوراً يتحكم
بعواطف الإنسان ، إختار دوكتر – يقال بتأثيرٍ من أقزام سنووايت السبعة –
خمسةً من تلك المشاعر لتكون بطلة فيلمه هذا .
في الحكاية هناك رايلي ، فتاةٌ من مينيسوتا في الحادية عشرة من عمرها تعيش
الطفولة بكل ما فيها مع والدين محبين ، قبل أن تجد حياتها تنقلب مع إنتقال العائلة
إلى سان فرانسيسكو حيث عمل والدها الجديد ، تتغير المدينة ، و يتغير المنزل ، و
المدرسة ، و زملاء الصف ، و تتغير العواطف التي يتحكم بها في مركز التحكم العقلي
لدى رايلي خمسةٌ من المشاعر تحاول أن تبقي عواطف رايلي متزنةً و هي
تمضي قدماً في حياتها : بهجة ، و حزن ، و خوف ، و إشمئزاز ، و غضب .
النص الذي كتبه بيت دوكتر مع جوش كولي و ميغ لوفوف و شارك رونالد ديل كارمن بإخراجه غني جداً قياساً لمدة الفيلم ، قوة
التخيل فيه عظيمة وهو ما نلمسه بسهولة في العالم المبتدع الذي تقدمه ، حيال قوة
التخيل العظيمة هذه يلجأ النص للتجريد ، و هو ممتازٌ و تبسيطيٌ بعض الشيء لكنه
فعال بالمقابل ، من الملفت أن دوكتر لا يحتاج لأي وقتٍ تقريباً لجعلنا نعيش و نفهم و نتفاعل
مع أدق تفاصيل ما يجري وهنا تكمن أولى مفاصل القوة في هذا الفيلم ، كمية الإشباع
التي يحصل عليها المشاهد و هو يستكشف هذا العالم خلال نصف ساعةٍ فقط كبيرةٌ و
مثيرةٌ للإهتمام فعلاً ، تصميم الإنتاج الذي يقدمه رالف إيغلستن عظيم ،
كلا العالمين الداخلي و الخارجي لـ (رايلي) له شخصيته الواضحة ، ما يجري داخل عقل رايلي بقدر ما
هو معقد بقدر ما هو جذاب : شيءٌ يشبه مدينة ألعاب ، واسعٌ و ممتلئٌ و ملونٌ و مبهر
، و الأهم : فيه الكثير من الحياة التي تقيه من التحول إلى ما يشبه منشأةً صناعيةً
أو شيئاً من هذا القبيل ، تقسيم مراكز التحكم فعالٌ إلى الدرجة التي يمكن من
خلالها أن يصبح فيلماً تعليمياً بإمتياز عن عمل المشاعر و الذاكرة ! ، تفاصيله
كافيةٌ بمفردها لجعل المشاهد يستمتع من خلال إلتقاطها : تصميم مركز المشاعر ، الكرات
البلورية الملونة التي تتشكل مع كل ذكرى ، الذاكرة طويلة المدى ، قطار الذكريات ، مركز
التخلص من الذكريات المهملة ، الجزر التي يتم إنشاءها مع كل ذاكرةٍ دائمة والتي
يقوم عليها تشكيل شخصية رايلي ، مفاتيح الخيال ، مصابيح الأفكار ، أرض الخيال ، عالم
تجريد الأفكار ، تشابه (الحقائق) و (الآراء) ، أرض اللاوعي (حيث يذهب مثيرو المتاعب !)
، وحدها نظرةٌ مقربةٌ من أرضيات الجزر أو نظرةٌ علويةٌ على مراكز الذاكرة هي ما
تذكّرنا – إن نسينا – بأن هذا هو دماغ رايلي !
في عمق هذا التجريد يحاول النص أن يحقق مقاربته الخاصة – والتي تبدو دقيقةً
جداً سيكولوجياً – للطريقة التي تتحكم بها المشاعر (المجردة) بتشكيل عواطفنا
ثم ذاكرتنا و بالنتيجة شخصيتنا ، مربع (المشاعر – العواطف – الذاكرة – الشخصية) هو إطار هذه المقاربة ، وسيلة دوكتر لتحقيق
ذلك التجريد جزئيتان ، الأولى هي تصميم كل شخصيةٍ على حدة ، هيئتها الشكلية
المستمدة من رمزية إسمها ، و لونها ، و تعاملها الدائم من منطلق الشعور الذي تمثله
، فيبدو (خوف) خائفاً على الدوام كحال (غضب) الغاضب و (حزن) الحزينة على
الرغم من أنهم أيضاً يختبرون مشاعر بعضهم البعض من حينٍ لآخر وعلى الأخص (بهجة)
المحورية جداً في تصميمها و ملبسها و قياديتها و هالة النور المحيطة بها و الكرات
ذهبية اللون التي تنتجها ، و الثانية هو تجنب تصوير تلك الشخصيات كـ (أعداء) بالرغم
من تناقضاتها و تنافسها ، حتى (حزن) النقيض الصريح لـ (بهجة) يقدمها بصورةٍ
إيجابية تهتمّ لرايلي بطريقتها ، المشاعر الخمسة تتنافس و تتصارع لتحقيق
التوازن الذي يجعل رايلي (سعيدة) ، دوكتر مطلع الفيلم يسهّل على مشاهده التقاط ذلك ، كل تدخلٍ
لتلك المشاعر يفترض أن ينتهي لمصلحة رايلي (خوف من السلك الكهربائي ، إشمئزاز من القرنبيط الأخضر ،
و غضب على إلغاء الحلوى بعد الطعام) بإستثناء (حزن) التي لا تجد (بهجة) سبباً
لوجودها ، هذا التقديم المبكر – و ليس الرحلة ذاتها - هو ما يجعل حالة اليقين التي
تتشكل بين تلك المشاعر في الختام متقبلةً و مفهومة ، هو يخبرنا بشكلٍ مباشر أن
تقدم رايلي في العمر و نضوجها (مع إشارةٍ مباشرةٍ لزر البلوغ في
لوحة التحكم) لا يعني إطلاقاً أن حياتها يجب أن تكون (بهيجة) ، و أن
العواطف الحقيقية التي نشكلها و نحن نكبر هي نتاج هذا التفاعل الموزاييكي بين تلك
المشاعر ، و فكرة أن لا تكون حياتك (بهيجة) لا تعني إطلاقاً أنها ليست (متزنة) ، و هو أمرٌ
من السهل أن نلمسه لاحقاً في نوعية الهارموني الذي يسيطر على لوحات التحكم الأخرى
لشخصياتٍ ناضجة (حيث تتوسط (حزن) لوحة تحكم الأم ، و (غضب) لوحة تحكم الأب
مثلاً) ، الفيلم يقول أن (الطبيعية) هي جوهر الشخصية و أن محاولة التحكم بعواطفنا بحثاً
عن (السعادة) يسلب المرء ذاكرته و بالتالي شخصيته و أن الشخصية
الحقيقية هي نتاج الإستسلام المطلق لتلك المشاعر عندما تلعب في المساحة المخصصة
لها ، رايلي يجب أن تستلم لـ (حزن) في حزنها و لـ (غضب) في غضبها
مهما بدت تلك المشاعر سلبية ، و من خلال الإستحواذ اللحظي لتلك المشاعر يتم التقاط
الذكريات و تحويلها إلى شيءٍ جميلٍ بالتراكم و تأثير الزمن ، أمرٌ تختزله عبارتا (رايلي في الحادية عشرة من
عمرها / في الثانية عشرة من عمرها ، ما الذي يمكن أن يحدث ؟) في بدء
الفيلم و ختامه ، هما إطارٌ لتجربة ، لخبرة حياة ، لمرحلةٍ ما منها ، في كل مرةٍ
ستقولها (جوي) ، و بتكرارها عاماً بعد آخر تتشكل شخصية رايلي .
هذا التحول المصيري في مركز التحكم من سيطرة (جوي) مطلع الفيلم إلى
الفعل التشاركي في ختامه بحاجةٍ على ما يبدو إلى رحلة ، رحلة تختبر قسوة التجربة
الحالية التي تمر بها رايلي التي وجدت نفسها تفقد مدينتها و منزلها و مدرستها و
أصدقاء طفولتها و ذكرياتها ، رحلة جوي و سادنس لا تختلف عن رحلات بيكسار العظيمة
لشخصياتٍ (لا تتوافق) مع بعضها لكنها تجد من مصلحتها المضي معاً لتحقيق
هدف ، رحلةٌ شاهدناها من قبل في Toy
Story و Bug’s Life و Finding Nemo و Up
، في الرحلة تكتشف جوي قيمة سادنس ، و تكتشف بقية المشاعر في المركز أنها لا تستطيع تقمص أدوار
غيرها ، رحلة جوي و سادنس تستحوذ على الصورة في حين تبهت قيمة المركز حتى مع
الكوارث التي يرتبكها بحق رايلي ، فيبدو جزء الرحلة سوداوياً أكثر بكثير مما يحصل في
المركز الذي يتسبب بالكارثة ، لا يفلح دوكتر تماماً في تجاوز الخفة و الهزلية و حس الإطمئنان الذي
نشعر به ونحن نراقب رايلي التي تديرها المشاعر الثلاثة في غياب جوي و سادنس ، على
خلاف الثقل الواضح الممنوح للرحلة ومقدار الخطر الذي نشعر به ونحن نراقب لهفة جوي و سادنس لإنجاز
مهمتهم خصوصاً عندما ينفذون إلى لا وعي رايلي من أجل منحها كابوساً يوقظها في واحدةٍ من أجمل متواليات
الفيلم ، في رحلتهم يلتقون بينغ بونغ ، توتورو هذه الحكاية ، صديق الطفولة التخيلي الذي نفقده بمجرد
أن نكبر ، لحظة وداعه عندما يبقى للأبد في مكب الذكريات و يتخلى عن حلمه بالذهاب
مع رايلي سويةً إلى القمر هي اللحظة الأكثر حزناً في الفيلم ، و بالرغم من أن دوكتر يفك عقدة الرحلة و يخلّص بطلتيه جوي و سادنس بطريقةٍ لا تتسق مع أبعاد العالم الذي أسهب في بنائه و تفسير دلالاته السيكولوجية (و من خلال قفزةٍ طويلةٍ بزانةٍ من نسخٍ مكررةٍ من حبيب رايلي التخيلي !!) إلا أن المشكلة الحقيقية التي لم أستطع التصالح معها حتى عند إعادتي للفيلم يوم أمس هي أن التجريد الذي
ينهجه النص لتقديم أبطاله يخلق حالةً من عدم التوافق بين الغاية و الوسيلة في هذه
الرحلة ، اليقين الذي يحاول أن يصل إليه الفيلم في الختام عن (أثر التجربة الحياتية
التي تمر بها رايلي في هذا العالم الغريب على حالة التشاركية التي يفترض أن تعيشها
المشاعر و بالتالي على تشكيل شخصيتها) لا يتحقق في الواقع نتيجة التجربة
الحياتية ذاتها ، اليقين يحدث نتيجة خطاً عبثي يؤدي لإرسال جوي و سادنس بعيداً
عن المركز !! ، هذا التفصيل الجوهري جداً يخفف من قيمة اليقين الختامي و يجعل من
سؤال : ما الذي كان سيحدث لو لم يحصل ذلك الخطأ ؟!! سؤالاً بديهياً ،
هل كان الوضع سيستمر على ما هو عليه و لن نحصل على المشاعر المختلطة في الختام ؟!!
ما الذي أنتجته التجربة الحياتية (المحنة / الإنقلاب / نقطة التحول) فعلاً على
النتيجة التي نحصل عليها ؟! ، و هل قامت المشاعر الموجودة في مراكز التحكم الأخرى
التي نشاهدها (الأب ، الأم ، المدرّسة) برحلاتٍ مماثلة ؟!! ، عند الإرتداد للوراء
نجد أن المركز هو من قام بتغيير التجربة (أنانية و إقصائية جوي و تصنّع
بقية المشاعر لأدوارٍ ليست أدوارها) و ليست التجربة هي من قامت بتغيير المركز و
دفعته لذلك الفعل التشاركي في الختام ، و هو تفصيلٌ أعتقد بأن تبسيطية الفيلم هي
من ساهمت به في المقام الأول ، بعد المشاهدة فهمت مغزى كلام دوكتر المطول
عن محاولاته اليائسة صنع العقدة المنطقية المناسبة لحكايته ، دوكتر غلّف
هذا التعارض جيداً بإعتقادي ، إذا شعرت بوجوده فذلك أمرٌ طبيعي ، و إذا مرّ بسلامٍ
فهذا جيد !
أهم شيءٍ يؤكده هذا الفيلم بنظري هو طموح بيكسار ، أن القائمين
عليها بطموحهم وحده و بروح الفريق العظيمة التي يمتلكونها قادرون على استعادة
حيويتها بعيداً عن معضلتي السلاسل (مع Cars 2
و Monsters University)
أو الإنسلاخ عن الهوية (في Brave)
، فوكس و دريم ووركس عليهم النظر مطولاً في إنتاجاتهم الرسومية إذا ما
فكروا بمجاراتها أو اللحاق بها ، هنا دوكتر يحقق فعلاً واحداً من أفضل أفلام العام و أغناها و
أكثرها إشباعاً ، حبكته و تفاصيله و تصميمه و التحيات التي يرسلها من خلاله لأفلام
بيكسار الأخرى ، و بالتأكيد بيانو و جيتار مايكل جياكينو
التي تحفر بسهولة الثيم الموسيقي للفيلم في ذاكرتك ، زر البلوغ الذي نراه قرب
الختام ربما يكون إشارةً لجزءٍ آخر يشبع فضول عشاق هذا الفيلم ، هذا الفيلم ساعةٌ ونصف من
المتعة الخالصة ، و بالرغم من الصورة الموزاييكية للعواطف التي يرسمها كنتيجةٍ لصراع شخصياته الخمسة ، إلا أن (جوي) وحدها –
الموجودة في رأس كلٍ منا – هي من كانت تدير لوحة التحكم أثناء مشاهدتنا لهذا الفيلم
، و بمجرد انتهائه سترسل كرةً بلوريةً ذهبية إلى مركز ذاكرتنا الدائمة حيث
جزيرةٌ إسمها (بيكسار) .
التقييم
من 10 : 9
0 تعليقات:
إرسال تعليق