كتب : عماد العذري
بطولة : جون لينون
، بول مكارتني ، جورج هاريسون ، رينغو ستار
إخراج : ريتشارد
ليستر (1964)
عندما أُطلق هذا الفيلم كان محاولةً ذكية من منتجيه لإستغلال قوة البيتلز الضاربة في حينه ، وكان ضربةً إنتاجيةً عبقريةً في زمانها. محاولة القبض
على توهج الفريق الغنائي الأعظم في ذروة بداياتهم قبل أن يتحوّلوا إلى رمزٍ لجيلٍ
بأكمله. كان منتجوهم يريدون وضعهم على الشاشة الكبيرة دون قداسة ودون الهالة
المحيطة بهم. أن يضخوا في صورتهم على الشاشة ما قدموه للآخرين من خلال أغانيهم :
الشباب والروح والتمرد والجنون ، فحققوا فيلماً يُشبههم !
صوّر ريتشارد
ليستر الفيلم في 45 يوماً وبميزانيةٍ لم تتجاوز
نصف مليون دولار ثم أطلقه خلال أقل من 100 يومٍ من تصويره. أخرجه وقام بمونتاجه
مستثمراً ماضيه الجيد كمخرج إعلانات. وهو ماضٍ يخلق بصورةٍ أو بأخرى إحساساً
واضحاً لدى المشاهد بأن هذا الفيلم يروّج البيتلز ويقدّمهم لجمهورٍ أوسع أكثر من حقيقة أنه يستغلهم. وفي الواقع هو ينجح
على الصعيدين معاً .
الحكاية كتبها آلون أوين ، يطارد من خلالها البيتلز خلال استعدادهم لتصوير مجموعةٍ من أغانيهم لصالح التلفيزيون البريطاني. كوميدياه
تنبع في المقام الأول من حكاياه الجانبية. من خلالها يخلق النص شيئاً مختلفاً
يمزج من ناحيةٍ كوميديا الأخوة
ماركس حيث التوازي الحاصل بين علاقتهم ببعضهم
كإخوة والطرافة التي ينشرونها من حولهم على الشاشة ، ومن ناحيةٍ أخرى روح أفلام الموجة البريطانية في ذروة حركة الشباب الغاضب في الستينيات .
عنوان الفيلم جاء من تلاعب لفظيٍ لعضو الفرقة رينغو ستار في إحدى ليالي العمل الشاقة ، راق لجون لينون و بول مكارتني وسرعان ما أصبح عنواناً للفيلم والأغنية التي يفتتح بها ريتشارد ليستر فيلمه هذا على صورةٍ للفريق يهرب في الشارع من مجموعةٍ من معجبيه
(الحقيقيين في الواقع). لا نحتاج للكثير من الوقت لنشعر بالحميمية تجاههم ، وهي
حميميةٌ يستثمرها أوين جيداً وهو يصوغ حكاياته الجانبية ليصنع كوميديا الفيلم : مواقفهم في
القطار ، الإختلاف بين مديريهم شيك و نورم عن فارق الطول بينهما ، المفارقات المستمرة لمحاولة إبقاءهم ملتزمين بما
هو مقررٌ لهم ، والأهم محاولة إبقاء جد بول مكارتني بعيداً عن المشاكل! يعمد أحياناً إلى الكوميديا الجسدية ، وأحياناً إلى
التلاعب اللفظي ، وفي كثير من الأحيان إلى كوميديا الموقف. واللافت أن عملية
التآلف بين الحدث والحوار وعمق النص والشخصيات المكتوبة والأداءات المقدمة لها
تصنع هارموني من نوعية السهل الممتنع. أنت تستمتع جداً بما تراه دون أن تتمكن
تماماً من القبض على سبب تلك المتعة !
في العمق يجسد أوين في أبطاله صورة ثلاثية الأبعاد لـ (الشباب) ، الخلود والإحساس بعظمة الأبدية فيهم. أن ما هم عليه سيستمر للأبد.
صورةٌ لا تخطئها العين وهي تراقبهم ينشرون كل هذه الحياة من حولهم ويقدمون
لجمهورهم أغانٍ عاشت للأبد. رؤيتهم في حينهم ورؤية ما صاروا إليه لاحقاً تغني
ديمومة الفيلم. رؤية طفوليتهم وجنونهم ، ردودهم الساخرة على أسئلة الحفلة التي
أقيمت على شرفهم ، لينون وهو يعبث في الحمام ، مكارتني جالساً برفقة جده ، جورج يجد نفسه بالخطأ في وكالةٍ لتصميم ملابس المراهقين ، و رينغو يتجوّل في المدينة باحثاً عن (الحياة)! يحصلون على أنفسهم جداً على الشاشة : كاريزما لينون و جنون مكارتني ، الشخصية الهادئة في جورج والأليفة في رينغو ، والموهبة التمثيلية اللافتة التي يُظهرونها. أصعب الأدوار برأيي هي تلك التي يؤدي فيها الممثل (ذاته) من خلال نصٍ مكتوب!
حضور البيتلز هنا كوميديٌ فعلاً وهو شيءٌ يندر الحصول عليه مع مغنيين بمثل نجوميتهم.
لوهلة تشعر بأنهم كانوا ليشكلوا فريقاً كوميدياً عظيماً لو وجدوا النصوص التي
تناسبهم (بالرغم من ظهورهم فعلاً في أربعة أفلامٍ لاحقة). هم جيدون بمفردهم
كممثلين بعيداً عن إسم الفرقة التي صنعوها. والفيلم دون شك إستثمر ذلك ليلعب
دوراً هاماً في كسر الرهبة تجاههم. هم هنا ليسوا مجرد نزعة شبابٍ طائش تأثر بها
الملايين ، وإنما رسالةً مبطنةً على كونهم جيلاً مختلفاً في رؤيته وطريقة تعامله
مع الحياة. ونهج السينما ڤيريتيه الذي ينهجه ريتشارد ليستر هنا هو ربما الإستخدام
الأجمل في حينه منذ نظريات دزيغا فيرتوف و روبرت فلاهرتي. كاميراه تستكشف من خلال أبطاله تفاصيل
الحياة والعالم الذي يحيون فيه ويتمردون عليه. ترصدها وتواجهها وتقدمها
بصورةٍ مختلفة. كاميرا ليستر تتنقل جيئةً و ذهاباً بين واقعية الصورة و تعبيريتها. في احد
المشاهد يقرر مدير الفرقة بناءً على رغبة مخرج العرض ابقاء الفريق في غرفة الملابس
لنصف ساعة. تسير الكاميرا معهم في الممرات ، تخنق إطارهم البصري ، ثم تراقبهم وهم
يراوغون ليجدوا منفذاً للخارج ويفرّون إلى صورةٍ مجنونةٍ لأغنيتهم Can’t
Buy Me Love . في موضعٍ آخر يبدأ ليستر الأغنية من مراقبة شاشة المخرج في الفيلم (كنايةً عن الصورة التي
نعرفها عنهم) قبل أن ترتفع الكاميرا لنشاهدهم على طبيعتهم. يفعلها مجدداً في
أغنيةٍ أخرى إبتداءاً من كاميرا التصوير التلفيزيوني. الصورة هي انعكاسٌ بصريٌ
لهم. تعدد زوايا اللقطات في كل مشهد والنفس اللاهث الذي يصنعه المونتاج (المتأثر
بشكلٍ بديهي بالموجة الفرنسية التي كانت تعيش ذروتها في حينه) ، قطعه المتناوب اللامنهجي بين لقطةٍ ثابتة ولقطةٍ متحركة ، بين لقطةٍ واسعة أو متوسطة وكلوز آب ، بين لقطةٍ من
الأسفل وأخرى من الأعلى ، ثم محاولة ترقيص الصورة مع كل أغنية ، كل ذلك ينتج
فيلماً يشبه أبطاله : حيوي ومبهج ومجنون وشاب ومتجدد ، حتى وهو يتجاوز الخمسين من عمره
الآن .
ثم هناك الروح العظيمة لأغانيهم على الشاشة. أغانيهم هي العمق الحقيقي في
هذا العمل لأنها كانت بالغة التعبير عنهم و بالغة التأثير في الآخرين. مشاهدة
الفريق الغنائي الأعظم على الإطلاق يغني مجموعةً من أجمل أغانيه على الإطلاق في
فيلمٍ سينمائيٍ من ساعةٍ و نصف ، ذلك وحده قد يكون مرضياً للكثيرين. يمكن الجزم
لو أن كل فريقٍ غنائيٍ حصل على فيلمٍ كهذا لعاش للأبد. الفيلم قادرٌ على إحياء
روح البيتلز
في أجيالٍ كثيرةٍ لم تعاصرهم ، و ربما لم تفكر حتى بالإستماع لهم. في كل
عصر هناك فيلمٌ يحقق النقلة الشعورية للإحساس بالفرق بينه و بين العصر الذي سبقه.
النقلة التي يمكن لأجيالٍ لاحقة أن تفهمها عندما تشاهده. هذا ما يفعله هذا الفيلم
لعصره. و بالرغم من أنه يتناول فرقةً تحولت إلى رمزٍ لعصرها إلا أنه فيلمٌ صالحٌ
لكل العصور .
التقييم
من 10 : 9
0 تعليقات:
إرسال تعليق