كتب : عماد العذري
بطولة : جيمس فوكس ، ميك جاغر
إخراج : دونالد كاميل ، نيكولاس روج (1970)
من النادر أن يقوم
أحد الأستوديوهات الكبيرة في هوليوود بإنتاجٍ فيلمٍ من هذا النوع ، في الواقع كانت
وورنر
براذرز تراهن في مغامرتها هذه أواخر الستينيات على إسم ميك جاغر
نجم الرولينغ
ستونز ، كانت تطمح من خلاله لشيءٍ يضاهي فيلم البيتلز A Hard Day Night في ذروة بريق موجة الشباب
الغاضب البريطانية .
وورنر براذرز صدمت بالنتيجة طبعاً
، كان فيلماً خارج توقعاتها و كانت مغامرتها ستكتمل لو استمرت في دعم الفيلم كي
يخرج للنور خصوصاً بعد الردود السلبية جداً التي تلقاها في عرضه الأولي ، لذلك بقي
حبيس أدراجها لعامين كاملين قبل أن يقرر مخرجه دونالد كاميل رفقة المونتير فرانك ماتزولا
إعادة تحريره بصورةٍ مختلفة ، كان نيكولاس روج قد ذهب وقتها لتصوير فيلمه الثاني
Walkabout ، النتيجة الجديدة احتاجت لتغيير إدارة وورنر براذرز بمجملها مطلع
السبعينيات كي يحصل على فرصة اطلاقه مع كثيرٍ من ردود الفعل السلبية ، بالرغم من
ذلك تكفلت مسيرة نيكولاس روج البراقة حتى منتصف الثمانينيات و انتحار دونالد كاميل
المباغت عام 1996 بإعادة هذا الفيلم للواجهة كعملٍ مهمٍ .
تشاز ، رجلٌ عصابةٍ
لندنية ، قاسٍ و عصبي و لا يرحم ، لكنه سرعان ما يصير نصير المشاهد عندما يصبح
مطارداً من قبل أفراد عصابته بعد تجاوزه حدود عمله ، يفر من عالمه ليجد نفسه في
عالم تيرنر
، مغني الروك المحاط بحسناوتيه فيربر و لوسي و بعالمٍ من المخدرات و عقاقير الهلوسة و
الجنس الجماعي و متاهة الغرائز و الرغبات المكبوتة ، بما فيها الرغبة الأم في
إدراك الذات .
من الصعب اليوم أن
تخطيء العين و هي تقرأ أسماء مخرجي الفيلم و تشاهده أن يغيب عنها إدراك أن دونالد كاميل
هو من يكتب النص هنا و أن نيكولاس روج هو من يدير العملية الاخراجية ، صحيح أن
الفضل في التصميم البديع للعالمين يعود لدونالد كاميل ، إلا أننا من اللقطة الأولى
نستطيع التماس كاميرا و فلسفة نيكولاس روج الاخراجية ، يفتتح الفيلم على طائرةٍ
تراقب سيارةً على الطريق العام ، سرعة الحدث ، و تتاليه ، و شريط الصوت ، و موسيقى
جاك نيتشه
، و تقطيع الفيلم الذي يحصل أحياناً على مستوى الإطار الواحد ، ثم صورة رجلٍ يمارس
الجنس و هو ينظر لنفسه في المرآة ، روج و كاميل يضعاننا مباشرةً في عالم بطلهما تشاز ،
يعيش حياةً فخمة ، يمارس الجنس بعنف ، و لا تخفي عنا الصورة مسحة النرجسية الواضحة
التي يؤكد عليها القطع المتكرر على المرايا المحيطة بتشاز قبل أن يشير إليها تيرنر
بشكلٍ مباشر لاحقاً ، الصورة تتآلف هنا من خلال الإنقسام ، إنقسام المكان إلى
قطعتين أو تقسيمه من خلال المرايا ، تشاز في أحد المشاهد ينظر – خارج سياق الحدث –
في مرآة رئيس عصابته ليتأكد من مظهره ، نرجسيته هذه كما يبدو انعكاسٌ معقد لطبيعة
عمله ولماذا يقوم بهذا العمل ، لاحقاً سنعرف أن عنوان الفيلم يأتي من طبيعة عمليات
جباية الأموال التي ينفذها تشاز لرئيسه ، كل عملية هي (أداءٌ) بالنسبة له ، يمزج
المخرجان بإرباك بين أداءات تشاز و محاكمةٍ يريد فيها المحامي الزج برئيس تشاز في
السجن قبل أن تتلاقى الحكايتان لاحقاً ، النصف الأول من الفيلم حيوي جداً إلى درجة
الإرباك ، يصنع لنا صورةً مختلفةً للعالم السفلي لمدينة لندن في الستينيات ، شيءٌ
مختلفٌ عما يمكن أن نشاهده في Blow-Up أو أعمال الموجة البريطانية ، نقطة التحول في الحكاية – سواءً على
مستوى الحدث أو العمق – هي مهمةٌ تأديب تريدها العصابة لجوي مادوك أحد المتعاملين
معها ، تشاز
يريدها لنفسه بينما يعترض رئيسه و يوكلها لسواه ، جوي مادوك كان الصديق المقرب لتشاز
ذات يوم ، و على ما يبدو فالعلاقة كانت أعقد من علاقة صديقين ببعضهما كما يلمح
رئيس العصابة ، للمرة الأولى في الفيلم نرى تشاز ضعيفاً و مشوشاً عند ذكر
ذلك ، ينكر عليه رئيسه الخلط الدائم بين عمله و عاطفته ، حتى عنفه يبدو مبالغاً به
قياساً لـ (الأداءات) المطلوبة منه ، نزعة سلوكية ارتدادية تجاه الماضي و محاولة
ظهورٍ بصورة الرجل الجلف الفظ الذي لا يرحم ، هذه التفاصيل تتسرب في الفيلم و لا
يبوح بها في حواراته كي يستثمرها لاحقاً و هذا شيءٌ من جماله .
عندما يظهر تيرنر
لأول مرة في النصف الأول - و لأسبابٍ إنتاجيةٍ على ما يبدو – يحدث ذلك بعد 25
دقيقة ، ربما أدرك كاميل أن الجمهور ذاهبٌ لمشاهدة ميك جاغر و لن ينتظر ساعةً
كاملةً كما يريد النص ، ماتزولا – في عملٍ مونتاجيٍ رائد و غير متوقع من
مونتيرٍ في فيلمه الأول – يظهر تيرنر للمرة الأولى في ذروة ضعف تشاز
أثناء تعذيبه في النصف الأول من قبل مادوك ، القطع في الفيلم مربك جداً قياساً
لعصره ، لكنه بليغٌ جداً في توقيته و قيمته التعبيرية ، يعطي اللقطة معانٍ أعمق
مما تبدو عليه ، أحد رجال مادوك يمازحه كي يمنح قبلة الحياة لتشاز
فيغضب ، تيرنر
يعود للظهور مجدداً – بلقطةٍ من الخلف – عندما ينتقم تشاز من مادوك ، ينتقم
من ماضيه و من علاقته بمادوك و يفر من عالمه إلى عالم تيرنر ،
بمجرد وصوله يعزل كاميل و روج عالم تيرنر بالكامل و هو شيءٌ مقدرٌ فعلاً و ليس
سهلاً قياساً لما شاهدنا في النصف الأول ، عالم تيرنر مكتوم ، فيه بلاطٌ مزخرف
، و مرايا ، و ستائر ، و شموع ، و ملابس شرقية و موسيقى شرقية ، كاميرا نيكولاس روج
عظيمةٌ كما سنعرفها لاحقاً ، حساسةٌ جداً هنا في التقاط التفاصيل التي قد تضيع مع
فلسفةٍ مونتاجيةٍ كهذه ، لكن روج يتجاوز ذلك من خلال خلق تباينٍ واضحٍ جداً للعين
بين العالمين ، في النصف الثاني تصبح الكاميرا أقرب للشخصيات و أكثر حميميةً و
استثماراً للإضاءة الخافتة ، نراها في حفلة الجنس الجماعية جزءاً من الحفلة ذاتها
، مرميةً على السرير تشاركهم رغباتهم ، معها يصبح مونتاج ماتزولا أكثر نعوماً و لقطاته
أكثر طولاً و تدفقاً ، أثر الرجل على كوانتن تارانتينو و غاي ريتشي لا يمكن انكاره .
في غمار التفاصيل
نلحظ التباين الجسدي الواضح بين فتاتي تيرنر ، و الطريقة التي يدير تيرنر
بها عالمه ، تؤكد الصورة على الثنائية الجنسية لدى الشخصيات دون الحاجة لكلمات ، أحياناً
يستخدم كاميل
و روج
الرمزية الواضحة للإشارة لذلك (مقابس كهربائية ، سكاكين) ، حتى الطفلة التي تقوم
بالخدمة مع والدتها في المنزل تبدو أقرب إلى الشكل الذكوري ، أكثر ما يثيرني هنا
في النقلة البصرية البديعة بين النصفين أن الفيلم بقدر ما يهدف في الأساس لجعل
موضوع الازدواج و انقسام الشخصية محوراً له بقدر ما يحقق ذلك بصرياً بصورةٍ عمليةٍ
صارخة و ربما هي أكثر ما يثير المشاهد سواءً أحب الفيلم أم لا ، الفيلم مشطورٌ
جداً ، جزءه الأول قطعةٌ تنتمي بشدة الى عالم العصابات ، نصفه الثاني رحلةٌ في
عالم الهلوسة و الادمان يلقي فيه البطل نظرةً على الجزء المرفوض منه ، عندما يلتقي
تشاز
بتيرنر
لأول مرة يحدث ذلك في (منتصف) الفيلم تماماً ، في احدى اللقطات ينصّف روج
الكادر و يضعهما على جانبي ستار ، يوغل في رسم حدود ما يجمعهما و يفرقهما ، كلا
الشخصين كان (يؤدي) ، و كلاهما أفسد (أداءاته) ، أحدهما يواجه الواقع ، و آخر يهرب
منه ، تيرنر
أكثر إدراكاً لذاته و أقل إدراكاً لواقعه ، تنسّك و عاش على ذكرى (شيطانه)
الذي فقده ، تشاز أقل إدراكاً لذاته لكنه أكثر ادراكاً لواقعه ، كلاهما وجد في
الآخر الشيء الذي يكمله ، و الذي هو أيضاً : الشيء الذي يخافه ، فيربر
تقول ذلك صراحةً لتيرنر ، تيرنر تصالح مع ثنائيته الجنسية و ينكر ذلك على تشاز
لكنه ربما في الوقت ذاته يحسده على قدرته على التعامل مع واقعه ، مع ذلك قوة تشاز
ظاهرية ، هو في الأخير مجرد هارب ، عمل لسنوات على (إخافة) الآخرين ، و أصبح الآن
مطارداً بخوفه .
عندما يتناول تشاز فطر
الهلوسة يحاول تيرنر استكشاف ذلك الجزء المختبىء في تشاز ، الشيء الغير مريح هنا
تحديداً أن كاميل و روج يحولان (التعقيد) في ثنائية الشخصية / الجنس هذه إلى هدفٍ
لذاته في الوقت الذي يكون المراد منها واضحاً ، و ربما يكون التعقيد هنا و الصورة
غير المريحة (وهي هدفٌ كما يقول كاميل ذاته) وسيلةً لتغليف الإنسيابية الناقصة (جداً)
في إنغمار تشاز في عالم تيرنر ، من خلالها يخدران المشاهد كيلا يشعر بنقصها ، هذا
التعقيد يقوم على محاولة استغلال تيرنر لحالة تشاز بعد معرفته بتاريخه و بإضطراره للبقاء في
منزله بإنتظار جواز سفره ، لكنه في الوقت ذاته يعتمد على المباشرة في طرح تساؤلاته
الوجودية حوارياً ، و المباشرة قد لا تكون شيئاً مرضياً في أعمالٍ تتناول البحث عن
الذات و استكشافها ، الإنقسام هنا صارخ ، و هو لا يحتاج لأي شكلٍ من أشكال
المباشرة في الحوار أو التعقيد في الحدث التي ينهجها كاميل ، بعضها يفلح (مثل قصة حسن الصبّاح
مؤسس فرقة
الحشاشين أو أغنية ميك جاغر التي نسمعها من أذن تشاز عندما يضع تيرنر
نفسه في عالمه) ، لكن معظمها يصبح فائضاً و تلقينياً و كأنما لا يثق بالصورة وحدها
لخلق ذلك العمق عن رجلٍ يتمسك بماضيه و يتصالح مع طبيعته و آخر يهرب من ماضيه و
ينكر طبيعته ، في النهاية يحرر النص العلاقة من بعدها الهلوسي من خلال علاقتين
جنسيتين سويتين ، يقتل تشاز تيرنر عندما يشك بوشايته ، و يذهب إلى ماضيه رفقة
زملائه في العصابة ، تلتقطه الكاميرا في السيارة على هيئة تيرنر هذه المرة .
مشكلة هذا الفيلم أنه
بقدر ما يحاول تحقيق شيءٍ صعبٍ جداً لا يسلك أسهل الطرق لتحقيقه ، لكنه بالمقابل يظهر
لنا كم كان البريطانيون في ذروة عصر الموجة البريطانية في الستينيات قادرين على
التجريب و المغامرة عندما لم تكن سينما هوليوود قادرةً على إيجاد هويةٍ حقيقيةٍ
لها .
التقييم من 10 : 8
0 تعليقات:
إرسال تعليق