كتب : عماد العذري
بطولة : آنا ماريا مارينكا ، لورا فاسيليو
، فلاد إيفانوف
إخراج : كريستيان مونجيو (2007)
فيلمان من أفلام كريستيان مونجيو
الروائية الطويلة - الأربعة حتى الآن – أصبح من السهل الإشارة اليها ضمن أهم الأركان
التي شكّلت عقد ما عرف ضمنياً بالموجة الرومانية الجديدة لوصف أعمال مخرجي رومانيا الشباب في
الألفية الجديدة و التي جمعها تناول إنعكاسات حقبة الحكم الشيوعي لرومانيا و ما
بعدها ، و التأثيرات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية التي خلفتها حتى يومنا
هذا ، اعتماداً على المينيماليزم ، و على صورةٍ تقوم على الكثير من الزهد البصري ،
و الكاميرا المحمولة ، و اللقطات الطويلة ، و بعض الكابوسية .
تلك الموجة – لو سلمنا
بتردد المسمّى – لم تكن توجّهاً متفقاً عليه ، لم تكن حركة تمردٍ سينمائية كما فعلت
نظيرتها الفرنسية أواخر الخمسينيات و أوائل الستينيات ، و لم تكن مجموعةً من القوانين
البصرية القصصية كما حدث مع الدوغما في التسعينيات ، مسمى الموجة ذاته - ان جاز اصلاً - جاء
أساساً بعد قرابة عقدٍ من تلك الأعمال المتقاربة الروح ، و ربما هي تدين بشدة بهذا
التآلف و البروز الى مهرجان كان السينمائي الدولي الذي يكاد يكرّم كل فيلمٍ مهمٍ منها
بجائزةٍ مهمةٍ في احدى دوراته ، فعلها أولاً مع The Death of Mr.
Lăzărescu في 2005 ، و 12:08 East of Bucharest
في 2006 ، و California Dreamin في 2007 ، و Police, Adjective في 2009 ، و Beyond the Hills
في 2012 ، و ربما شذ برلين عن القاعدة
عندما منح Child's Pose جائزته الكبرى عام
2013 ، دائماً ما يقال أن كل عقدٍ سينمائي أو تيار أو موجة أو مدرسة أو حركة تبدأ رحلةً
غريزيةً نحو الانحسار مع تحقيقها كلاسيكيةً أو اثنتين ربما تبلغ معها مستوىً معيناً
من الاشباع ، هذه المجموعة من الأعمال وصلت ذروتها مع كلاسيكية مونجيو هذه التي
كرمها كان أيضاً بسعفته الذهبية عام 2007 .
نص مونجيو هنا يراقب
أوتيليا و غابيتا ، صديقتان تقطنان في غرفةٍ في سكن الطالبات الملحق بإحدى
جامعات رومانيا ، تجدان نفسيهما ذات يوم أمام أكبر تحدٍ في حياتهما : حمل غابيتا و محاولة
اجراء عملية اجهاضٍ لا تشرعها حكومة الديكتاتور نيكولاي تشاوشيسكو ، و
لا خياراتٍ متاحةٍ أمامهما الآن سوى اللجوء للسيد بيبي لتنفيذ المهمة المحظورة
في أحد الفنادق المتواضعة .
قيمة نص مونجيو تقوم أولاً
على حالة تفاعل بديعة فعلاً بين اثارة الحكاية بصورتها المجردة و الخلفية السياسية
الاقتصادية الاجتماعية للأعوام الأخيرة في حقبة تشاوشيسكو ، اثارة الحكاية
هنا قادرة على القيام بمفردها بعيداً عن تلك الخلفية و ربما مع أي خلفيةٍ اخرى ، مع
ذلك يجعلها مونجيو هنا وثيقة الارتباط بحقبتها الزمنية ، و يجعلها تتفاعل بنعومة
نادرة مع تفاصيل تلك الحقبة و كأنما يجعل كابوس الاجهاض هنا مرتبطاً برومانيا الثمانينيات
دون سواها ، و في العموم من النادر - على مدار تاريخ السينما كله - استثمار الجانب
المثير من الحكاية في التفاعل مع الاطار السياسي الاجتماعي الاقتصادي المؤطر لها ،
اما أن يطغى احدهما على الآخر ، أو يؤثر وجودهما سلباً على بعضهما ، مع مونجيو لا يحدث
ذلك ابداً ، بمجرد أن تنتهي من المشاهدة ستلتصق اثارة عملية الاجهاض غير الشرعية بذاكرتك
بقدر ما ستفعل رومانيا تشاوشيسكو ، ليتحقق له ذلك يبني مونجيو الأبعاد الدرامية
للحكاية و مفاتيح اثارتها على تلك الخلفية السياسية الاجتماعية الاقتصادية و لا يجعلها
مجرد اطارٍ لها ، يفعل ذلك بأقل كميةٍ من التفاصيل ، عملية الاجهاض هنا مثيرة و مقلقة
و تبعث على الرعب لأن (النظام السياسي) يجرمها ، و لأن النظام السياسي يجرمها فـ (التركيبة المجتمعية)
سرعان ما ستوفر وسيلة الهروب من قيد النظام السياسي و ستخلق من يقوم بتلك العملية بصورةٍ
غير شرعية ، و بالتالي فإن عدم الشرعية و صورة المتحكّم التي يظهرها السيد بيبي (كترجمةٍ
لحالة الاضطرار التي تعيشها الفتاتان) ستجعل من شروطه اطاراً و محركاً لتلك الاثارة
، بيبي هذا لا يريد المغامرة بحياته من أجل 3000 لي ، كل ما يريده
هو مضاجعة الفتاتين ، و لتتخلص الفتاتان من هذا الثمن الشنيع يعرضان 5000 لي و هو رقمٌ
لا تملكانه في الأساس ، وحتى ان وافق بيبي على اجراء العملية عند توفر ذلك المبلغ فإنه سينقل العملية
(كما يشير عمر الجنين في عنوان الفيلم) من جريمة الاجهاض الى جريمة القتل وفق القانون
الروماني ، و الدفع بالتقسيط مرفوضٌ لدى بيبي الذي لن يقوم بمطاردة فتاتين لا يعرفهما لتدفعا ثمن عمليةٍ
يجرمها القانون أصلاً ، وراء ذلك كله صورةٌ لـ (المنظومة الاقتصادية)
التي تحكم ذلك المجتمع و القائمة - كما يبدو لنا منذ بداية الفيلم حتى نهايته - على
السوق السوداء (أيضاً كوسيلة هروب من قيد النظام السياسي) و بالتالي سيغدو البحث عن
حجزٍ فندقٍ آمن (محددٍ بالإسم) ، و شراء السجائر الاجنبية و دفعها كرشاوي مهماتٍ حقيقية
أمام بطلتنا أوتيليا ، مونجيو - بعبقرية - يجعل كل تفاصيل اثارته وثيقة الارتباط بالبيئة
الزمانية المكانية التي تحيط بها ، و يتخلص من مأزق طغيان أحدهما على الآخر أو تأثير
أحدهما سلباً على الآخر من خلال تجنبه جعل عملية الاجهاض - تقنياً - هدفاً لإثارته
، هو بقدر ما يهتم بتفاصيلها و التحضير لها يجعلها ألطف ما في الكابوس و الجزء
الذي لا يُرى منه ، لا يحاكمه و لا يناقش مشروعيته و لا يكترث لعملية تنفيذه ذاتها
، لا يبتذلها لإثارة المشاهد أو التلاعب بأعصابه (و أستذكر مشهداً مماثلاً لم يستطع
أن يتجنب ذلك فيPlemya
العام الماضي) ، هذا التفصيل عظيم
لأنه ينقل الاثارة التي تدير الحدث من مرحلة ما قبل العملية الى ما بعدها كي يتيح للمرحلتين
التفاعل مع الخلفية السياسية الاجتماعية الاقتصادية لرومانيا تشاوشيسكو ، مونجيو يدرك جيداً
ما يريد و يسير نحوه دون اثارةٍ رخيصة او استفزاز لمشاعر المشاهد ، المشهد العظيم للسيد
بيبي و هو يفاوضهم في غرفة الفندق (مع اداء مرعب من فلاد ايفانوف
و لقطةٍ طويلةٍ من أربع دقائق) يبدو اكثر كابوسيةً من عملية الاجهاض ذاتها ، رومانيا القابعة
في الخلفية هي رعب الحكاية ، براعة توظيف المينيماليزم - التي تذكرني هنا بأعمال التايواني
هاو تشاو تشن - تجعل من هذه المنظومة الديكتاتورية (المصغّرة) شيئاً
كابوسياً بحق حتى و ان اعتبرنا ذلك التوظيف - كحال بقية افلام الموجة - محاولةً متأخرة
لإلقاء نظرةٍ في إنعكاسات حقبة تشاوشيسكو اذا ما قارناها بتفاعل السينما الألمانية أو الايطالية
أو حتى الروسية مع الحقب المظلمة لبلدانها ، رومانيا مونجيو تصلنا عبر المشاهد
الداخلية (مزدحمة الكادر طبيعية الإضاءة) و في أقل مساحةٍ بصريةٍ ممكنة للمشاهد الخارجية
(الباهتة بصرياً) ، محاولة خلق انعكاس بصري لمخلفات منظومةٍ شيوعية لا تختلف عن نظيراتها
في بولندا أو تشيكوسلوفاكيا أو المجر ، ربما مع مسحةٍ بصريةٍ أكثر قتامة ، و تقشفٍ
بصري ملموس في المساحات و الألوان و الأصوات أيضاً .
و بالرغم من القيمة المجردة
لكل ذلك ، الا أن شخصيات مونجيو برأيي هي ما تجعل هذا الفيلم عظيماً ، بنائها و طريقة تفاعلها
مع محيطها فتنة حقيقية تخدمها دون شك صورةٌ عظيمة تخلقها كاميرا و ميزانسين كريستيان مونجيو
، نلتقي بطلتيه أولاً في سكن الطالبات الذي يكاد ينطق على الشاشة ، يتسرب للمشاهد من
كل مساحةٍ صغيرةٍ في الكادر و دون استنزاف الكثير من الورق مستغلاً عملاً بارعاً من
مدير التصوير أوليغ موتو و كاميرا محمولة قليلة الاهتزاز (لا يبتذل قيمتها كوسيلة
و يتخلى عنها عندما لا يحتاج اليها) و لقطاتٍ طويلةٍ ترافق بطلته و يستثمرها لخلق الاحساس
الهدف بالورطة و الحصار و يقطع بعيداً عنها عندما نشعر بأنها أصبحت هدفاً لذاتها ،
نبدأ مع لقطة متوسطة لحوض أسماك لا تلبث الكاميرا أن تسحب الى الخلف لتعرفنا على غابيتا أولاً ثم
على أوتيليا ، عندما يتسع الكادر لنرى الغرفة بأكملها ندرك أن عالمهم
بأكمله ليس أكثر اتساعاً من حوض الأسماك ذاك ، عشر دقائق كافية - قصصياً و بصرياً
- لتعرض كل شيء ، الملفت هنا أن مونجيو لا يعتمد كثيراً على الحوار ليجعل هذا الجزء من الحكاية
بارزاً للمشاهد ، يعطي الصورة مساحتها الكافية للتعبير ، لندرك من خلال تصرفات بطلتيه
أن شيئاً ما مهماً يجب أن يتم الليلة ، و عندما يلجأ للحوار يقدمه بكل جماليات و تدفق
حوارات سينما شرق أوروبا ، حواراته طبيعيةٌ جداً خالية من الانفعالات و المنعطفات التي
تحاول تبرير تدفق الحدث ، هي تعزز تدفق الحدث و تنعكس - بشكل بديهي - على طبيعية أداءات
أبطاله ، ثم بعد ذلك يتسرب الينا احساس ملموس من (اللا أمان) يوحد شخصياته
و ينبع من صميم علاقتها ببيئتها وليس من ذواتها ، لا تبدو أي شخصيةٍ هنا مريضةً أو
مختلة - حتى شخصية المجهض بيبي - بقدر ما هي نتاج تفاعل ظروفها مع بيئتها ، (اللا أمان) ينعكس
بصرياً من خلال اختيار نص مونجيو لمسارح احداثه : السكن الجامعي و الفندق و منزل آدي ، جميعها
أماكن (مؤقتة) بالنسبة لبطلته أوتيليا ، هذا اللا أمان هو ما يبرر تماهي أوتيليا مع المهمة
الكابوسية بالرغم من ثقلها ، تبدو بطلة مونجيو و كأنما اعتادت على عالمٍ تحكمه هذه المنظومة ، مونجيو لا يقدم
فيها شخصيةً (مقاومة) و هذا أعمق ما فيها ، لا يجعل مونجيو من الخلفية السياسية
و الاجتماعية و الاقتصادية مبرراً لجعل أوتيليا تقف على النقيض منها ، أوتيليا بقدر ما هي تعاني
من تلك المنظومة بقدر ما هي تتماهى معها و تتعامل بأساليبها ، و في الوقت ذاته لا يجعل
من ذلك سبباً لتجريد شخصيته من حقيقيتها ، هي بكل الأحوال يجب أن تدفع ثمن تلك المنظومة
من خلال ذلك التماهي ، تقدم جسدها كي تخرج صديقتها من مأزقها ، هذا يمنح للفيلم مسحة
فيمنيزم غير مبتذلة اطلاقاً ، شعور أوتيليا بالقرف مما يجري
ينطق دون الحاجة لكلمات ، معها يراودنا سؤالٌ بديهي : لماذا أوتيليا هي من يساعد و
ليس صديق غابيتا الذي تسبب بحملها ؟ ، سؤالٌ تطرحه أوتيليا لاحقاً
على صديقها آدي و لا تحصل على اجابةٍ واضحة ، أو أرادت ربما الا تحصل على اجابةٍ
واضحة !! ، مونجيو بقدر ما يظهر مظلومية المرأة في حكايته لا يذهب بسلوك الرجل
أبعد من الفطرة الانسانية المتباينة بين رجلٍ و آخر ، آدي يخبرها أنه سيتكفل
بالأمر فيما لو حصل أو سيتزوجها ، لكن أوتيليا التي تزعجها فكرة زواجه منها مضطراً تجد في ذلك نظرةً فوقيةً
لمنشأها الريفي ، مسحة الفيمنيزم تلك لا يبتذلها مونجيو لأنه يمنعها من
أن تنجرف أولاً في فخ الميلودراما (بفضل شخصيةٍ واثقةٍ وصلبة بناها في اوتيليا و جعلها
أداء آنا ماريا مارينكا شيئاً حقيقياً جداً) ، و من أن تطغى ثانياً على
حقيقة أن شخصياته (رجالاً و نساءاً) هم بالنتيجة ضحايا لمنظومةٍ هو لا يهاجمها بقدر
ما هو ما يصرخ في وجه الجمود الذي اصابها وجعل شخصياته تعتاد عليها ، لا يهمه هنا مقدار
فسادها بقدر ما هو مدى اعتياد شخصياته على ذلك الفساد ، هي تعرف الخطأ و تمارسه و لم
تعد المحاكمة الشعورية لديها شيئاً مهماً ، تفصيل يجعله مونجيو بارزاً بوضوح في
السبع الدقائق الفاتنة للكاميرا الثابتة على مائدة عائلة آدي عندما يسرد من خلال
مقارنات الحضور قديم و جديد منظومة تشاوشيسكو ، حيث احساس التغيير القادم الذي لا يعلم أحدٌ عنه شيئاً .
في مشاهدةٍ ثالثة يوم
أمس : هذا فيلمٌ عظيم ، عندما ينتهي كل شيء هناك نفحةٌ من (الألم الذي لا يمكن
التعبير عنه ، لأنه لن يحصل على فرصته من الإحتفاء) ترتسم على وجه أوتيليا ،
ألمٌ نضطر لتجاوزه لأنه لن يؤثر بأحد ، تعايشها مع ما جرى هو الحكاية كلها ، شيءٌ
لا يبدو نوعاً من الحكمة ، لأنه ليس خياراً في الأساس ، ألم رومانيا تشاوشيسكو .
التقييم من 10 : 10
0 تعليقات:
إرسال تعليق