كتب : عماد العذري
بطولة : جاي هي سونغ ، لي سيونغ يون
، غون هايك هو
إخراج : كيم كاي دوك (2004)
ربما لا يكون في
الأمر نوعٌ من الإجحاف إذا ما اعتبرنا بأنه بين كل المخرجين الكوريين المعاصرين
وحده كيم كاي دوك هو من فرض بصمةً واضحةً ربما لا تخطئها العين في
جميع أعماله ، وهو بهذا يتفوق برأيي على نظرائه الأهم في السينما الكورية اليوم هونغ سانغ سو
و لي تشانغ دونغ و بارك شان ووك ، و بونغ جون هو.
وعلى الرغم من أن كيم كاي دوك
لم يستطع مضاهاة نجاحه الباهر في فيلمه Spring, Summer,
Fall, Winter, and Spring الذي حققه عام 2003 وقدم خمسة أعمالٍ لاحقة
أقل في قيمتها الفنية من فيلمه ذاك ، على خلاف بونغ جون هو مثلاً الذي
إنتقلت مسيرته من نجاحٍ لآخر بنسق تصاعدي ، إلا أن المتابع لأعمال الرجلين يدرك
تماماً بأن كيم كاي دوك منح جميع أعماله مذاقه الخاص ونكهته الإخراجية
المميزة وإيقاعه الذي لا تخطئه العين ، على خلاف التباين الواضح في النفس
الإخراجي والأدوات والإيقاع شهدته المسيرة القصيرة لمخرجMemories of a Murder و The Hostو Mother.
يقدم لنا كيم كاي دوك في
عمله السينمائي الحادي عشر قصة تاي سوك (يؤديه جاي هي سونغ الذي يبدو برأيي خياراً مثالياً في حال فكر
الآسيويون في تقديم عملٍ سينمائي عن كلاسيكية الأنيمي الشهيرة Akira) الشاب العشريني المتشرد والذي يعيش حياته متنقلاً بين المنازل التي تركها أصحابها لقضاء أعمالهم وأجازاتهم. يختبر ذلك من خلال إعلانات الوجبات السريعة التي يعلقها على مقابض أبوابهم ويعود بعد بضعة أيام ليميّز الأبواب التي لم تُفتح فيجد في تلك المنازل المأوى لبضعة
أيام. وعلى الرغم من تشرده هو ليس لصاً أو مجرماً. يقوم بتعويض أصحاب المنزل من
خلال القيام بالواجبات المنزلية ، فيغسل ملابسهم ويُصلح ما تعطّل من أدواتهم ! في
أحد أيام لا يوفّق تماماً في تقدير خلو أحد المنازل ، صن هوا زوجة صاحب
المنزل كانت جالسةً هناك تراقب ما يقوم به ، وعندما يفاجأ بها يندهش من الكدمات على وجهها نتيجة معاملتها من قبل زوجٍ سيء ، فيقرر أن ينقذها من
الجحيم الذي تعيشه.
لن يمر الكثير من
الوقت حتى ندرك أنه ليس فيلماً عن الحكاية بقدر ما هو فيلمٌ عن المشاعر. حكايته
حركاتٌ ثلاث تقليدية جداً. ما وراءها غنيٌ ومهم. من المثير مشاهدة فيلمٍ نابضٍ
وحيٍ بالأصوات إلا من صوت أبطاله. شخصيتا الفيلم الرئيسيتان صامتتان طوال أحداث
الفيلم بإستثناء كلمة واحدة تنطقها البطلة قبيل النهاية. هذا التفصيل في نص الفيلم وضعه كيم كاي دوك تحدياً صريحاً أمامه في العمل
أكثر وأكثر على فرض لغةٍ داخلية غنية للشخصيات تغني تماماً عن أي حوار ، بل أن
المشاهد لن يشعر بمجرد إنتهاء العمل بأنه كان بحاجةٍ أساساً لسماع صوت أي من بطليه
! صحيح أن شخصيات أفلام كيم كاي دوك عموماً هي شخصياتٌ قليلة الكلام إلا أن انعدام
الكلام لدى شخصيات هذا العمل يتحول إلى مسعىً بحد ذاته. كي دوك يدرك –
بسهولةٍ على ما يبدو – المسافة الفاصلة بين التعبير الشفهي واللا شفهي ويتمكن من اجتيازها من خلال جعل لغة
الجسد وسيلةً تعبيرية قويةً ونافذة في الصميم. وهذه الجزئية تحديداً هي ما تجعل
هذا العمل شديد الإلتصاق بالذاكرة ! ليس بالطريقة التي نتذكر بها تلك الأفلام التي
نحبها بصورتها المجملة فقط ، بل أننا نتذكر هذا الفيلم طويلاً بمعظم تفاصيله بعد
إنتهاءه !
في العمق تستكشف
سينما كي دوك عموماً المساحات غير الإعتيادية من تمازج الحقيقي والمتخيّل. جميع أفلامه تفعل ذلك بصورةٍ أو بأخرى. أفلامه روحانيةٌ ذات مسحةٍ صوفية ،
وهذا الفيلم لا يشذ عن القاعدة ، لكنه لا يبدو تأملياً مثلها. يتجنب مساحة
التأمل المتاحة ويشغلها بنوعٍ من المحاكمة العقلية للحدث تتجنب التفسيرات الجاهزة
ولا يستطيع المشاهد أن يتجاهلها أو يقفز عليها. ربما هو أكثر أفلام كي دوك
استفزازاً لعقل المشاهد ، ومع ذلك تبدو النتيجة عاطفيةً جداً على عكس المتوقع !
هذه المزاوجة بين الحقيقة والخيال وبين الروحاني والعقلي
تتفاعل بنوعٍ من القسرية أحياناً إلى الدرجة التي تجعل معها النتيجة مشوشة أمام
المشاهد. كي دوك يترك في
مشاهده شعوراً محيراً مع عبارته الختامية عن كوننا لا نستطيع التمييز بين الواقع والحلم ، هل كان ما شاهدناه حلماً ؟ هل كان أحد البطلين نتاجاً لخيال الآخر ؟ لحاجة
الآخر ؟ أسئلةٌ كانت لتبدو مهمةً وفي الصميم لولا أن كي دوك يحاول على
مدار النصف الثاني من الفيلم دفع المشاهد بإتجاه تبني أحدى الفرضيتين (القصة الشبحية
تحديداً) بدلاً من الحيرة بينهما ! يُمارس نوعاً من الدفع تجاهها وكأنما يجبر
المشاهد على ما يريد. صمت شخصياته هنا بالرغم من بلاغته وتوظيفه سلاحٌ ذو حدين. عندما يخبرك في الختام عن صعوبة التمييز بين الخيال والحقيقة يجعلك تتساءل : هل
جعل هو ذلك شيئاً حقيقياً ؟! يبدو مثيراً للإستغراب مثلاً أن شاباً كبطله (يهتم) كثيراً
لغرباء لم يعرفهم فيغسل ثيابهم ويصلح ما كُسر من أدواتهم ، لا يجد لديه مساحةً صغيرةً
لإصلاح ما انكسر في هذه الفتاة ، هو يكتفي فقط بأن (يكون هناك) ! يكتفى
بـ (التواجد) إلى جوارها مما يدعم بصورةٍ فجة فكرة (الخيال) على
حساب (الواقع) ، لأن الواقع لا يفترض ذلك. كيم كاي دوك يعزز أيضاً الدفع باتجاه تلك الفرضية من خلال عزل شخصياته (كلامياً)
بصورةٍ قسرية أيضاً ، يُصبح صمتهم هدفاً لذاته وسط محيطٍ من الشخصيات (كثيرة
الكلام) ، قبل أن يوظف الاستعارة لدعم الفرضية البصرية/القصصية عندما يتحد الحبيبان على الميزان ويبلغ وزنهما صفراً! هذا
الدفع جعل السطر الختامي الذي يظهر على الشاشة في الختام شيئاً مباشراً وتفسيرياً
وفائضاً في الوقت ذاته ، لم يمنح من خلاله عمقاً أكبر لعلاقة الأرواح
التائهة تلك بحيث تعوّض نوعاً ما عن النمطية الواضحة لمثلث الحب في الفيلم ، ولم يستغنِ عنها بالمقابل.
علاوةً على ذلك، تطغى الكرتونية الواضحة على الهيئة الظاهرية للشخصيات ، وعلى بعض تفاصيل الحدث (التي
تحتاج لمنح عقلك اجازةً مؤقتة لتقبّلها) ، وعلى علاقة المثلث الأزلي أيضاً والتي تبدو إستهلاكية ونمطيةً جداً وتحمل مسحة الدراما التلفيزيونية. مشكلتها
ليست في الشعور الصريح بأنها لا تقدم أي جديد يستحق الذكر على المستوى السردي على
اعتبار أنه فيلمٌ ليس عن (الحكاية) أساساً ، بل في عجزها عن النفاذ في عمق علاقة
المثلث ببعضها بالرغم من كونه فيلماً عن المشاعر ! وهو تفصيلٌ يعيدنا للنقطة
السابقة حول الجبرية التي يحاول كي دوك أن يمارسها على مشاهدها تجاه ثنائية الحقيقي والمتخيّل .
مع ذلك لدى الفيلم
قدرة لافتة على البقاء في الذاكرة ! الغنى التعبيري النافذ للغة الجسد في الفيلم يعيش
طويلاً بعد انتهاء العرض. كي دوك يستخدم أدواته التقليدية : مزاوجة الطبيعة بالحياة
العصرية – العناصر في منتصف الكادر – تآلف الكاميرا مع الشخصيات وليس مراقبتها – النظر
للشخصيات من مستواها غالباً – وبالتأكيد التماثيل التي ينثرها و يروق له التقاطها
من حينٍ لآخر. هنا تحديداً يكثف كيم كاي دوك عمله على حركة الكاميرا (التي تبدو اضطرارية وكسولة) ويمنح مساحةً أكبر للكلوز آب - ربما أكثر من أي فيلمٍ آخر قدمه - في سبيل
إلتقاط التفاصيل المهمة في (الجسد) كوسيلةٍ تعبيرية عندما يغيب الكلام. مشاهدة نظرات تاي سوك المتحدية
وتصرفاته المجنونة أحياناً تُغني المشاهد عن أي حوارٍ يعرّف بشخصيته وتكفي
بمفردها للإقتناع بأن هذا الشخص يمكن أن يذهب إلى الجحيم في سبيل قناعاته لأنه
ببساطة ليس لديه ما يخسره. بالمقابل يضفي الإنكسار الداخلي والحزن المرتسم على
ملامح صن هوا مسحة جاذبيةٍ طاغية على أنوثة المرأة التي تبحث عمن
يحتويها ويشعر بها. نساء كي دوك دائماً لا تحتجن أبداً للكلمات لفرض جاذبيتهن الشديدة
على المشاهد والجسد أكثر من كافٍ لديهنّ لقول كل شيء. وهنا تبرز قيمة العمل الإخراجي لكاي دوك: قدرته على جعلنا نهتم ببطليه فعلاً ونقدر إحساسهما ببعضهما جداً ونفهم صوفيّة وجاذبية عالمهما على الرغم من الصمت الذي
يستعمره ، فيمنعنا – و لو لحظياً - من مجرد التفكير
بالإهتمام بأي شيٍ آخر في الفيلم. ربما لا يكون أفضل أعمال الرجل لكنها تجربةٌ
تستحق المشاهدة بالتأكيد .
التقييم من 10 : 7
0 تعليقات:
إرسال تعليق