كتب : عماد العذري
إخراج : جورج ميلييس
على مدار ستة عشر عاماً
حقق الساحر والمخرج الفرنسي الرائد جورج ميلييس قرابة ٥٠٠ فيلمٍ فُقد معظمها. كان هذا الفيلم أطولها
و أكثرها كلفة ، ولا نستطيع الجزم بأنه كان أفضلها. الثابت أنه ما يزال حتى يومنا
هذا المثال الأقدم الذي يسهل تذكره عند الحديث عن ولادة السينما الروائية بعد بضع سنواتٍ
من دهشة الاختراع وهوس التسجيل .
جورج ميلييس في هذا الفيلم تحديداً
كان يبدو و كأنما يمارس تحدياً مغايراً لأفلام الدقيقتين والثلاث دقائق التي اعتاد
على اخراجها. كان الساحر الفرنسي يحاول أن يرينا في تلك الحقبة المبكرة جداً نقاط
التواصل بين الصندوق السحري وهذا الوسيط الجديد. كان ذلك هاجسه أكثر من مجرد أن يحكي
حكاية. محاولة إخراج الجزء الذي لطالما فتن الناس في عروضه السحرية ليقدمه ويضعه
على شريطٍ سينمائي يشاهده الجميع. انتقل هنا من مرحلة تسجيل عروضه السحرية الى مرحلة
استخدام حيله السحرية ليحكي حكايةً عبر الوسيط الجديد. قيمة هذا التفصيل عظيمة ، لأنه
في مسعى ذلك فتح فضاءات أوسع أمام شيء كان ما يزال حتى تلك اللحظة مجرد (إختراع) ، ومع
ميلييس بدأ ذلك الإختراع يتحوّل إلى (فن).
مع ذلك ميلييس يحكي علينا
حكايةً كانت الأطول في عصرها. بطلها على ما يبدو عالمٌ بارزٌ في مؤسسةٍ لأبحاث الفلك
يعرض على زملائه فكرته عن السفر عبر الفضاء والهبوط على سطح القمر. فكرة لا يستسيغونها
لكن بعضهم - مع شرحه وتوضيحه - يتفهمها ويقرر المشاركة فيها. تأخذهم كبسولةٌ فضائيةٌ
تشبه الرصاصة عبر مدفعٍ عملاق إلى القمر ، وهناك يلتقون بطبيعته المختلفة وطقسه البارد
وسكانه البدائيين .
من أجل أن يحكي علينا
ميلييس حكايته البسيطة هذه - والتي دشنت صنف الخيال العلمي سينمائياً ونقلته
من أدب ويلز و فيرن إلى السينما - يعرض علينا أقدم نموذجٍ سينمائيٍ وصلنا لإستخدام
الديكور والخلفيات المتحركة وتصميمات الملابس والمؤثرات البصرية. أقدم مثالٍ سينمائي
باقٍ عن التفكير خارج الصندوق وعن الثورة البصرية. مؤثراته في معظمها كانت قائمةً
على الألعاب السحرية الأكثر بقاءاً في ذاكرة كل من وقف مشدوهاً أمام ساحر : حركة الساحر التي تؤدي
لإضافة شيءٍ أو إخفائه أو تغييره ، اعتمد في تنفيذها سينمائياً على تقنيات تقطيع
الفيلم لإقتصاص لحظة اضافة العنصر للمشهد ليبدو الجزءان على جانبيها لقطةً مستمرةً. البدعة التي كانت النواة الأكثر تأثيراً في فن المؤثرات البصرية عموماً : إضافة المؤثر ثم ازالة
ما يدل على تلك الإضافة. قفزةٌ بدأت عند ميلييس و لم تنتهِ عند
الـ Stop-Motion و الـ CGI
و الـ Motion Capture. كان ميلييس يفكّر بخيال
الساحر و هذا ما جعله يسبق عصره. أدرك كمّ السحر الكامن في الوسيط الجديد فاستثمره
حتى آخر رمق .
بين ألعابه السحرية العديدة
وضع الرجل شريطين سينمائيين فوق بعضهما ليجسد خيالات رواد الفضاء أثناء نومهم في القمر
، و استخدم خدعةً أخرى ليقدم النواة المبكرة للكلوز آب. لم تكن تقنية
التقريب قد أضيفت للكاميرا السينمائية التي كانت في تلك الحقبة ثقيلة جداً ليتم تحريكها. من أجل ذلك قام ميلييس بتحريك العنصر (وهو هنا رجلٌ يؤدي دور القمر) بإتجاه الكاميرا
عوضاً عن تحريك الكاميرا. أثناء تلك الحركة مارس لعبةً سحريةً أخرى كي يضع رصاصة في
عين القمر المتحرك ليخلق واحدةً من أكثر لوحات السينما شهرةً و أيقونية .
أمام كل تلك الحيل السحرية
هناك حكايةٌ يبقى من المقدّر فيها جداً نوعية الخيال الذي تقدمه عندما نتذكر هنا أن
الرجل حقق هذا الفيلم قبل قرابة سبعة عقود من هبوط الإنسان على سطح القمر. خيال الحكاية
تجسيد بصري لما راود ويلز و فيرن من قبله. كبسولة الفضاء هنا ليست سوى رصاصة ، وهي تصل إلى
القمر بواسطة مدفع ، و تصيب القمر في عينه ! رواد الفضاء يتجولون دون بزات فضاء ، ويصادفون سكاناً هم بطبيعة الحال أشرارٌ يجب تفاديهم ، ثم بالتأكيد يعودون بنجاحٍ الى
الديار ! خيال الحكاية كان بالغ الأثر على كل أفلام الفضاء التي جاءت بعده. ملامسةٌ
سابقةٌ جداً لعصرها لأحد أكثر خيالات البشر تردداً و تكراراً : الإبحار في الفضاء و
هتك أستاره. مرةً تلو أخرى وأنا أشاهد هذا الفيلم - ذي الـ ١٣ دقيقة - أجد من الظلم
التعامل المعتاد معه كفيلمٍ صامت ، بالمعنى التأريخي المحدود للكلمة. ذلك يحجّم كثيراً من قيمته. هذا الفيلم يسبق زمنياً
ذروة تلك الحقبة و يسبق كل ما عرفناه عنها. هو يسبق فيلماً مثل Nosferatu بقرابة عقدين ، و فيلماً
مثل City Lights بقرابة ثلاثة عقود ! كانت
تلك الأفلام الصامتة قد قبضت على مفاتيح الصنعة السينمائية القائمة اليوم ، بينما انتمى
هذا العمل الرائد إلى مرحلة (ما قبل السينما) ان جاز وصفها بذلك. (اللاصناعة) و
(اللا منتج) و (اللا نجم). يقول ميلييس (الصعوبة الأعظم في تقديم أفكاري أجبرتني في بعض الأحيان على لعب الدور
الرئيسي في أفلامي ، فكنتُ (نجماً) دون أن أعرف ، لم يكن المصطلح قد ولد بعد). كان فيلماً سابقاً للمصطلحات و لمفردات السينما. أمورٌ بدأت تتضح شيئاً فشيئاً مع
أعمال الرائد الفرنسي لوي فوياد والأمريكيين دي دبليو غريفيث و إدوين إس بورتر الذين يدينون لميلييس بالكثير .
من البديهي الإعتراف هنا
أن ميلييس لم يستطع أن يحرر الوسيط الجديد كلياً من مرجعيته المسرحية. لم يكن هناك إيقاعٌ مكتمل أو تدفقٌ سردي حقيقي. مجرد لوحاتٍ تعمل مرصوفةً وراء بعضها
البعض. لكن حجم التجريب الذي مارسه على هذا الصعيد كان طاغياً. لم يستخدم حتى Intertitles
ليشرح لنا شيئاً - كما فعل غريفيث بصورةٍ مبالغٍ بها بعد أكثر من عقد - و مع ذلك يصلنا كل
شيءٍ في الحكاية. كان (فناناً) عندما كانت السينما مجرّد (إختراع). كان يعرف - بحس
الساحر - ما الذي يحب أن يشاهده الجمهور في صندوقه السحري هذا. لهذا كان ناجحاً و مؤثراً
و كان الناس يقصدون عروضه بالآلاف. فيلمه هذا عرض على مسرح الأولمبيا الشهير
في باريس لعدة أشهر ، لكنه اختفى مع اعتزال ميلييس قبل أن
يعاد اكتشافه أواخر الثلاثينيات. من الجميل أن سكورسيزي كان يحمل كل
ذلك الحب تجاه ميلييس و هو يقدّم لنا Hugo قبل بضعة أعوام. أعاد لفت أنظار عشاق السينما تجاه أقدم الأسماء التي
يجب تذكرها عند الحديث عن نشأة السينما الروائية ، قبل فوياد و بورتر و غريفيث .
التقييم
من 10 : 9
0 تعليقات:
إرسال تعليق