كتب : عماد العذري
بطولة : سكارلت جوهانسن
إخراج : جوناثان غلايزر
قبل كل شيء : هذا ليس فيلماً للجميع ! يجب الإقرار بهذا قبل التفكير
بمشاهدة العمل أو قراءة أي شيءٍ عنه. حتى ضمن سياق فكرة (إما أن تحبه أو تكره)
لا يحافظ على معايير واضحة ، محبته وكراهيته ذاتها لها مدروجٌ مختلفٌ بين الناس أكثر من معظم الأعمال التي نشاهدها. ربما أعمال جوناثان غلايزر ثلاثتها ينطبق عليها الشيء ذاته : أحببته في Sexy Beast ، كرهته في Birth ، وراقني جداً عمله هنا
في Under the Skin !
غلايزر يحقق هنا فيلمه
الأول منذ عشرة أعوامٍ كاملة. بقيت رواية ميشيل فابر هاجسه طوال تلك المدة دون أن يمتلك
الظروف الملائمة لإنجازها كما يجب. في المسودة الأولى كان يخطط لتغيير خطوطها
العريضة من خلال شخصيتي زوجين من عالمٍ آخر يصلان إلى الأرض لإنجاز مهمةٍ أوكلت إليهم.
مع الوقت قرر غلايزر رفقة وولتر كامبل الذي شاركه كتابة النص إبقاء الشخصية
الأنثوية المحور للرواية كما هي ، ومنحها
الكثير من التعديلات الجوهرية ليقدم إقتباساً مختلفاً للعمل الأدبي .
في هذا الفيلم - الذي وُضع على أكثر من 270 من قوائم النقاد هذا
العام – يصوّر جوناثان غلايزر حكايةً عن امرأةٍ فاتنة ندرك منذ ظهورها الأول أنها
كائنٌ غريبٌ وصل إلى الأرض لتنفيذ مهمةٍ تتمثل في اغواء الآدميين من أجل الظفر بهم
وارسال احشائهم ولحومهم ودمائهم بطريقتها الخاصة إلى قومها ، حيث – كما يبدو – تكتسب
تلك الأشياء قيمةً أكبر مما هي عليه هنا .
يفتتح غلايزر فيلمه بصورةٍ ستجعل 2001 يقفز إلى ذهن المشاهد
مباشرةً مع صوت امرأةٍ يبدو بأنها تتعلم الأبجدية الأرضية. تلك المرأة نلتقيها وقد ارتدت جلداً نُسخ عن امرأةٍ أرضية اُنتشلت جثتها من مجرىً مائي. لفتراتٍ طويلةٍ
من الفيلم لن نستمع لأي حوار. غلايزر يثق بمشاهده جداً ويتيح له المساحة الكافية
لترتيب ما يشاهده في محاولةٍ ربما ستجعله يُدرك بمجرد انتهاء العمل أنه لم يشاهد
فيلماً (غامضاً) - بالرغم من مساحة الصمت فيه - بل شاهد فيلماً (غريباً) تماماً كما يريده غلايزر.
الحدث هنا ليس غامضاً ، ندرك من تكون شخصيته المحور منذ ظهورها الأول ، ونتعرف بسهولة على مهمتها ، ونفهم لماذا هي تقوم بها ، تماماً كما نفهم دور
الحارس الذي يراقب تحركاتها ويصحح أخطائها. كل شيءٍ يبدو تماماً كما هو عليه.
في أفلام هذا الثيم يكون السطح نمطياً وسهلاً ، ويكون الشيء القابل للحديث والجدل
كامناً تحت السطح على خلاف ما يحدث هنا. السطح هنا بحد ذاته يستدعي النقاش
بمقدار ما هو تحته ، وربما أكثر. هذا فيلمٌ (غريب) عن (الغرابة)
، هي روحه وعمقه ومحور حكايته وكينونة أبطاله ، وهي في الوقت ذاته
الطريقة التي سيروي من خلالها غرابتهم. جوناثان غلايزر يضع أمامه الصورة النمطية لأفلام هذا النوع
بكل تفاصيلها ، ثم يقوم بتغييرها جذرياً. غُرباء هذا الفيلم هم انعكاسٌ ربما لمحاولة توصيف الشيء غير المتخيّل بما يتناسب مع خيالنا ،
بمعنى أن انتماء الغرباء إلى بيولوجيةٍ مختلفة سيجعل من غير المنطقي علينا تخيلهم وفقاً لحدود بيولوجيتنا نحن ، عندها سينتمي الخيال لنا مهما كان واسعاً وخصباً.
غرباء غلايزر يحاكوننا في الفيلم ، ليس على صعيد الشكل فحسب ، وإنما على صعيد أدواتهم وتقنياتهم : لغة ، وسيارة ، وملابس ، ودراجة نارية ، ومنزل ! معالجة غلايزر للحكاية التقليدية عنهم تعيد توصيف وتقديم (شكلٍ شاعريٍ)
متقبّل لكل شيءٍ يقومون به أكثر من التزامها تقديم ما يقومون به فعلاً ، وهنا ربما يكمن الحاجز المتشكل بين الفيلم والمشاهد. نحن نعشق انتماء عالم
الغرباء إلى خيالنا ، ذلك أمرٌ مشوقٌ بحد ذاته. غلايزر يجعل ذلك مختلفاً وغير تقليدي عندما يجعلهم ينتمون لنا نحن وليس إلى خيالنا ، قوانينهم وتصرفاتهم وطريقة
عملهم لا تختلف عنا : اغواء البطلة بشري ، تخفيها بيننا بشري ، طريقة تنقلها بشرية ،
اغراق الضحايا في بحر الظلمات بشري ، ذوبان أجسادهم وتحطيمها وارسالها تأخذ المفاهيم
البشرية ، الغزو ذاته هنا ليس تهديداً ، لذلك لا حاجة لتواصلهم معنا ، لا حاجة
لإظهار أنفسهم الينا ، الغزو هنا مصيري الطابع استخباراتي الشكل ، هدفه تحقيق
مهمّته بأقل الخسائر الممكنة وبالحد الأدنى من الأخطاء ! أبطال غلايزر يفهموننا ، لديهم
رجالٌ بدراجاتٍ ناريةٍ لإنقاذ مهماتهم ، يُدركون قسوتنا لو عرفنا بوجودهم لذلك هم
يأخذون هيئتنا ولا يحاولون اظهار طبيعتهم ! يتفهمون الجاذبية الأنثوية
فيستخدمونها للإيقاع بضحاياهم ! لا مراكب فضائيةٍ ولا مخلوقاتٍ برأسٍ متطاول
، لا إشارات ، لا حكوماتٍ تتدخل ، حتى موقع الحدث هو الريف الأسكتلندي وليس
الولايات المتحدة ! غلايزر يقدم معالجةً مختلفةً لثيم خيالٍ علميٍ
احتاج سابقاً للكثير من البهرجة البصرية والشطط التخيلي ليقدم بصورةٍ جذابةٍ
للمشاهد. هو ببساطة ليس فيلماً عن الأفكار - التقليدية في أفلام الغرباء – وليس
عن الصورة النمطية لـ(غرابة الإنسان) و (إنسانية الغريب). هو عن (الشكل)
الذي يُمكن من خلاله عرض تصورٍ لعالم الشخصيات
التي نراقبها مختلفٍ جذرياً عما اعتدناها في مثل هذه النوعية من الأعمال. عملية
المراقبة هنا غير مبتذلة ، ينفذها غلايزر بكاميراتٍ خفيةٍ قبل أن يُخبر ضحاياه أنه
يصور فيلماً ! جزءٌ من محاولات الشخصية المحور مع البشر تفشل ، وجزءٌ آخر ينجح ،
الجزء الذي يفشل لا يفشل بإبتذال ، والجزء الذي ينجح يحاط بمساحةٍ من الصمت تحترم
حس المشاهد الإستكشافي ولا تبتذل (الغاية) أو (الوسيلة) أو (العمق النفسي
للشخصية) ، والمراقبة تصبح مشوقةً بسبب ذلك. بطلته بالرغم من جمالها وجاذبيتها روبوتٌ حقيقي ، لا حاجة لأي مؤثراتٍ بصريةٍ تجعلها كذلك. هدف بطلة غلايزر اصطياد (الرجال) فقط ولذلك تشعر
بالرهبة عندما تجذبها مجموعةٌ من النساء للذهاب الى نادٍ ليلي حيث تراوغهم هناك وتعثر على فريسةٍ جديدة ، بينما لا تشعر بالخوف عندما يُهاجم بعض الشباب سيارتها !
مشاعرها انعكاسٌ واضحٌ للمهمة التي جاءت من أجلها ، نفهمها ونتقبلها بصورتها
البشرية المجردة دون أي حاجةٍ لخيالٍ لطالما استفزته السينما في هذه النوعية من الأفلام. مهمتها
الإغوائية لا تأخذ الشكل (الشرير) بالرغم من نتائجها وغاياتها التي يقدمها لنا غلايزر في
مشهدٍ صامتٍ لأجسادٍ سابحةٍ تفرغ من محتوياتها التي ترسل بإتجاه العالم الآخر. الإحساس
بالمهمة ينجح – بفضل أداءٍ ممتازٍ وغير مقدرٍ كما يجب من سكارلت جوهانسن – في
توليد تلك المشاعر والتصورات ، قبل أن تبدأ الشخصية في ملامسة التحول الحقيقي في مشهد الشاطئ. بروبوتيةٍ كاملةٍ تجسدها جوهانسن في الشخصية تحاول اغواءٍ رجلٍ تلتقيه
هناك ، وعندما يشهدان حادثة غرقٍ أمامهما يحاول الرجل التدخل في عملية الإنقاذ
فيفشل بينما جوهانسن تقف هناك تراقب ما يجري بجمودٍ – غير مصطنع – وتحاول بمجرد
أن يعود الرجل منهكاً ومرمياً على الشاطيء أن تسحبه ، ليس لتنقذه وإنما لتقضي
عليه ! تترك الغرقى هناك على الشاطيء حيث صورة طفلٍ صغيرٍ يصرخ وحيداً حتى
حلول المساء تبدو مؤثرةً فعلاً. ذلك لا يؤثر في بطلة غلايزر ،
لكن شيئاً ما يلامسها وهي تجد دم بائع الزهور على يدها أو تستمع على الراديو
لحكاية العائلة التي غرقت على الشاطيء. حتى في استعاراته لا يذهب غلايزر خارج الحدود البشرية لتعاملنا مع الاستعارات. يستخدم (العينين) – كما كانت دائماً –
كإستعارةٍ أدبيةٍ و منفذٍ أزليٍ نحو (الروح). في المشاهد التالية يكثف عمله على
عيني بطلته وبريقهما الواضح في الشمس ، يخبرها أحد ضحاياها عن (عينيها)
، قبل أن يتركهما غلايزر وحدهما ليواجها تأنيب قائد المهمة في مشهدٍ صامتٍ. تبدو عينا
البطلة منفذاً هنا لروحها ووسيلةً لكشف مقدار التغير الذي أصابها مع الوقت. لا
يفعل قائد المهمة أكثر من التحديق فيهما ليكشف خفوت بريقهما. لاحقاً تتعثر المرأة
وتسقط في الشارع ويحتويها البشر قبل أن يمنحنا غلايزر اللحظة التي يتلاشى فيها
بريق عينيها نحو السواد البشري. إستعارة العينين هنا فعالةٌ جداً. العالم من
عيني الغريب – الذي يرتدي جلدنا في الواقع – عالمٌ مجردٌ جداً ، مختلفٌ عما نراه. بطلته لا
ترى في الرجل ذي التشوّه الخلقي شيئاً شاذاً أو مختلفاً. لا تحاول حتى أن تتصنع ذلك أو تدعيه بل على العكس تعتبر يديه جميلتين. نرى من خلال عينيها شهوانية
الرجال الذين قابلتهم مراراً ، وشهامة رجلٍ آواها في منزله فمنحته جسدها ، ووحشية رجلٍ في غابة بدى لنا لوهلةٍ شخصاً يحب المساعدة. عين الغريب حساسة ، بينما عيوننا فقدت تلك الحساسية. مشهد البطلة مع الرجل ذي التشوّه الخلقي واحدٌ من أجمل
مشاهد العام ، يضع غلايزر من خلاله مشاهده على الجوهر الحقيقي لمعنى أن يكون الشيء (الغريب) (غريباً) ! في هذا المشهد لقاءٌ - وجهاً لوجه –
بين أغرب
شكلٍ بشري ، وأكثر أشكال الغريب بشريةً (في جسد واحدةٍ من أكثر
الممثلات جاذبيةً في زماننا) ! لا يشعران بالغرابة سوى في داخلهما وليس تجاه
بعضهما ، البشري الغريب لم يعتد من أبناء جلدته أن يعاملوه بلطف ، والغريب البشري يجد في هذا الكائن المتخفي شيئاً مختلفاً عن كل من التقتهم ، هو منبوذٌ وخجولٌ ولم
يمارس الجنس يوماً ، نشاهدها تتعرى بشكلٍ كليٍ من أجله كما لم تفعل مع أحدٍ قبله !
في ذلك اللقاء تحديداً ، وعندما ترسله الى مصيره في بحر السواد ، تقف لوهلةٍ أمام
نفسها في مشهدٍ بمذاق ديفيد لينش حيث الألوان الصارخة والإضاءة الخافتة ،
تواجه المرآة التي نرى فيها لأول مرة صورتها الحقيقية ، وعلى خلاف كل ما فعلته نشعر لأول مرة بما تحت الجلد ، نشعر بأن هذا التجسّد الروبوتي (ينظر في المرآة) وكأنما يراجع نفسه. تدرك البطلة في هذا المشهد – لأول
مرة – أن (عينيها) لم تعودا كما السابق ، في ختام تلك المتوالية يحرر (الغريب البشري)
(البشري
الغريب) وينطلق الى حيث لا مزيد من ذلك !
في رحلة الهروب تقود البطلة سيارتها إلى حيث لا تدري. مجدداً يستخدم غلايزر الشكل الأبسط للإستعارات البشرية عندما يوقفها في (الضباب الكثيف) ، لا ترى شيئاً
ورائه ، إما أن تتابع أو تعود ، و في كلا الخيارين لا تدرك أنها ستدفع ثمن تلك المشاعر التي وجدتها. تتدرج حكاية غلايزر على مدار كل ذلك من الغرائبية المطلقة في تأمل بطلته (هويتها وهدفها ومكان
وقوفها من الخير والشر) نحو المأساوية الصريحة في الختام. في الوقت ذاته غلايزر لا
يجرد تدفق حكايته من نمطه التخديري الذي يجعل من الصعوبة التنبؤ بتتابعاتها. على
طول الخط تبقى الغريزة البشرية هي المحرك الوحيد لكل ما يجري : وسيلة تحقيق الهدف
في البداية ، وصورة الجاذبية الذي يضخها في بطلته قبل أن يجعل تلك (الجاذبية)
(تنجذب)
للعالم المغري الذي وضعت فيه ، ودافع التآلف مع بشريٍ في تتابعات الذروة ، وانقلاب الصياد
إلى طريدة في مشهد الختام العظيم. الغريزة حركت كل شيء. طوال ذلك تتدرج سكارلت جوهانسن
بإمتيازٍ في دورٍ غير بشريٍ آخر مع دورها في فيلم سبايك جونز Her في العام ذاته ، ومع الكلام
الذي أثير حول نسخةٍ سينمائيةٍ مرتقبةٍ من Ghost in the Shell يبدو أن هذه الأدوار راقت
لها فعلاً ! مثلما حدث في Her ، تؤدي جوهانسن مجدداً حكاية بينوكيو : الغريب ينجذب مجدداً
للعالم الذي وضع فيه ، ويجد في نفسه الرغبة في الإنتماء إليه ! لكن على خلاف دورها
هناك ، شخصيتها هنا لا تعتمد على الحوار ، عملها مكثفٌ جداً على لغة جسدٍ مدروسةٍ وفعالة : ردود فعلها الجامدة ، طريقة تعاملها مع جسدها ، اللطافة المصطنعة ، تعاملها
الغريب مع ما ترتديه وكيف تسير به ، تجسيد دقيق و غير مقدر برأيي لـ (الغريب ذو الجسد
البشري الذي يريد أن يبدو فعلاً كبشري)! طوال الوقت يستحوذ عليها شعور الإستغراب
أكثر من شعور التفاجؤ لأن المفاجأة أكثر بشريةً من الغرابة ، والشخصية ليست بشرية
لتشعر بالمفاجأة ! أمرٌ من السهل تلمّسه وهي تراقب الأسواق والبشر ، وهي تشاهد التلفاز أو
تستمع للموسيقى ، أو في مشهدها تنظر لجسدها في المرآة، أو في ردة فعلها العظيمة عندما
تكتشف أنها لا تمتلك مهبلاً ! في هذه المرحلة تحديداً تعرض بدقة تآلف (الغرابة)
و (المفاجأة)
وهو تآلفٌ بشريٌ لم نعتده في الشخصية فيما سبق ، تبدو تماماً وكأنما نسيت أن تحصل على
مهبلٍ عندما قررت أن تلبس هذا الجسد ! واحدٌ من أقل أداءات 2014 المهمة تقديراً .
قبل الختام، هذا أكثر أفلام 2014 التي خلفت مشاهد عالقةً
بذاكرتي. إلى جوارها عملٌ موسيقىٌ ذو شخصية من الشابة ميكا ليفي ، وهارموني بصري صوتي عظيم. الفيلم مودٌ مختلف ، صورته تجعل من الصعوبة تخيل أصله
الأدبي لمن لم يقرئه ، ووراء الصورة كلامٌ مهمٌ عن (الغرابة)
كسمةٍ بشرية ترتدي جلودنا ، وعن الشيء الموجود في الداخل. كانت تحت
جلدٍ بشريٍ في البداية ، وأصبحت تحت جلدٍ بشريٍ آخر في الختام عندما خلع الغريب
جلده ! الفيلم العظيم برأيي هو ليس ذلك الذي يمتلك صوتاً قوياً ليصرخ به في وجهك ،
الفيلم العظيم هو الذي يمتلك نبرة صوتٍ مميزةٍ للغاية لدرجة أنه من المستحيل أن
تنساها. هذا الفيلم فعل بي ذلك !
التقييم من 10 : 9
0 تعليقات:
إرسال تعليق