كتب : عماد العذري
بطولة : سيسي سبيسك ، بيبر لوري
إخراج : برايان دي بالما
حقق برايان دي بالما
هذا الفيلم اقتباساً عن باكورة أعمال كاتب روايات الإثارة الشهير – لاحقاً – ستيفن كينغ
، كان هذا عاشر أفلامه بعد مسيرةٍ من النجاحات المتوسطة ، الإستقبال الذي حظي به
ثم نيله ترشيحين غير اعتياديين للأوسكار قياساً لصنفه صنعا اسم برايان دي بالما
، تماماً كما فعل Mean Streets و The Godfather و Jaws مع بقية اللحى .
جزءٌ من نجاح الفيلم
جاء بالصدفة ، لم يكن كينغ كاتباً مشهوراً و لم يقتبسه أحدٌ للسينما من قبل
، سيسي
سبيسك نفسها كان مرشحةً لدورٍ آخر بناءً على الصورة التي صنعتها في تحفة تيرنس ماليك
Badlands قبل عامين ، في موقع التصوير أصر زوجها مصمم الإنتاج – الشهير بعد
ذلك – جاك
فيسك على أن يجربها دي بالما في الدور الرئيسي ، منحها دي بالما الفرصة
ففعلت الأعاجيب على مدى 52 يوماً استهلكها تصوير الفيلم ، بعد ذلك أصبح اسم برايان دي بالما
و لغته السينمائية - التي لا تشبه شيئاً آخر – ماركةً مسجلةً في هوليوود .
نص لورانس كوهن
- الذي حل مكان كينغ الذي ترك السيناريو للتفرغ لروايةٍ جديدة - يحكي علينا حكايةً عن
كاري وايت
، المراهقة الخجولة ابنة السابعة عشرة التي تعيش حياةً دراسيةً معقدةً في مدرسةٍ
محليةٍ في نورث كارولينا ، تعاني في المدرسة من سخرية زميلاتها الدائمة بسبب ما
يشاع عن قدرتها الغريبة على تحريك الأشياء ، و تعاني في المنزل من تزمت و قسوة
والدتها المتعصبة دينياً ، الشيء الوحيد في حياتها الآن هو حفل التخرج المرتقب حيث
بوابتها لعالمٍ جديدٍ ينتظرها ، لكن حتى ذلك الشيء الجميل لا يكتمل أبداً .
القيمة التي اكتسبها
هذا الفيلم تقوم برأيي على ثلاثة عناصر : الخصوصية التي تعامل بها النص مع روايةٍ
خوارقيةٍ كتبها ستيفن كينغ ليستخرج منها لورانس كوهن شيئاً فريداً و مختلفاً يصبه في
قالب فيلمٍ عن عالم المراهقة و طلاب المدارس الثانوية ، و اللغة البصرية الفريدة
التي كثف بها برايان دي بالما كل ما جربه سابقاً في أفلامه التسعة ليصنع بصمته
البصرية العظيمة التي ستطبع كلاسيكياته اللاحقة ، و بالتأكيد سيسي سبيسك
.
منذ لحظات الفيلم
الأولى يعمل نص لورانس كوهن بتكثيفٍ عالٍ على تجنب الإهتمام بالبعد الخوارقي الذي
تقوم عليه الرواية ، يخلصها من ذلك مؤقتاً و يرسل ذلك البعد – الذي سيحرك إثارة
الفيلم لاحقاً – إلى خلفية الحدث البعيدة ، كي يقوم بإستدعائه في اللحظات القليلة
المناسبة قبل أن يجعله محور كل شيء ، ليتحقق ذلك لنص لورانس كوهن دون أن يفقد
الحكاية جاذبيتها عليه أن يستبدل ذلك البعد بشيء جذابٍ و مختلف و غير اعتيادي ، و
هذا تماماً ما يحققه من خلال عمله على خلق صورةٍ مختلفةٍ لأفلام المدارس الثانوية
و أفلام المراهقين عموماً ، نظرةٌ دقيقةٌ على الشكل الذي كانت عليه هذه النوعية من
الأفلام منتصف السبعينيات يجعلنا ندرك قيمة الصورة التي قدمها هذا الفيلم لجمهوره
حينها ، النص يكشف عن وجهٍ مغايرٍ لطلاب المدارس الثانوية ، يذهب بنا الى عالمٍ
أصبح اعتيادياً جداً من بعده ، عالمٍ مختلفٍ بصورةٍ كليةٍ عن الصورة اللطيفة و
الطاهرة التي صورت المدارس قبله ، مدرسة برايان دي بالما هذه أشبه بمزيجٍ من السجن و
مستشفى الأمراض العقلية ، ما تقوم به الطالبات مختلفٌ جذرياً عن اللطافة و البراءة
التي اعتادت السينما قبلها أن تطبع بها صورة طلاب المدارس عموماً على قلتها في ذلك
الوقت ، النص يستثمر ذلك الجزء من رواية ستيفن كينغ ليلقي نظرة عن قرب على الشيء
الحقيقي الذي يحصل وراء أسوار المدارس : هناك جيدٌ و سيءٌ في كل شيء ، و المدرسة
الثانوية ليست استثناءً ، عمل كوهن على هذا الصعيد ساهم برأيي – رفقة أعمالٍ مهمةٍ
أخرى جاءت بعده – في توفيرٍ مادةٍ دسمةٍ للسينما أنتجت على إثر نجاح هذا الفيلم
سلسلةً لم تتوقف منذ ذلك الحين من أفلام المراهقين و أفلام المدارس الثانوية ،
مجرد استذكار الستينيات و مطلع السبعينيات ثم الطفرة التي حصلت في هذا النوع في
الثمانينيات ثم التسعينيات يجعلنا ندرك قيمة الأثر الذي خلفه فيلم برايان دي بالما
على هذا الصعيد .
أعمق من ذلك هناك
شخصيةٌ محور يعمل عليها النص بحذر ضمن البيئة التي أحاطها بها في تأسيسه ليحرر
عقدتها من مجرد الإرتباط بالعالم المجنون الذي تعيشه في المدرسة و يجعله جزءاً من
مشكلتها و ليس كل مشكلتها ، على خلاف شخصيات أفلامٍ أخرى تنتمي إلى هذا الصنف ،
بطلة برايان
دي بالما جميلة ، و خجولة ، و هادئة ، لا تثير المشاكل ، مشكلتها هي
طبيعتها التي مارست والدتها المتزمتة تجاهها كل أنواع الكبت و الإضطهاد لتجعلها
خطيئةً قائمةً بذاتها ، ماضي والدتها ، علاقتها العاطفية التي جعلتها تعتبر وجود
كاري في حياتها خطيئةً يجب التكفير عنها ، يتظافر ليصنع مع هستيريا الطالبات
تجاهها ككائنٍ غريب شيئاً لا يطاق ، حصارٌ مورس على مراهقةٍ لم ترتكب أي شيءٍ سوى
أن تكون على طبيعتها ، عندما تكتشف دماء الحيض لأول مرة في حمام المدرسة تمارس
الطالبات هواياتهن معها قبل أن تتعامل والدتها مع الدم كعلامةٍ للنجس ، و الدم
تتبعه خطيئة ، و الخطيئة أنثى في نظر الأم ، في روح النص هناك شكلٌ مختلفٌ من
الميلودراما ، ميلودراما ممزوجةٌ برعبٍ متحررٍ بشكلٍ كلي من صوره التقليدية و غير
مرتبطٍ في روحه بالجزء الخوارقي قدر ارتباطه بالطبيعة غير المروضة للإنسان ، لا
يجعلها النص إطلاقاً تبدو كميلودراما بالرغم من توفر أدواتها الأكثر بدائية :
شخصيةٌ أنثويةٌ في المركز ، و الكثير من النبذ و التطرف الأسري و الاجتماعي في
المحيط ، وسط كل ذلك تحصل كاري على متنفسها ، تنجذب تجاه تومي و
تشعر للمرة الأولى أن طبيعتها يمكن أن تجد لها متنفساً لدى شخصٍ لا يحاول ترويضها
أو السخرية منها ، يلتقط برايان دي بالما تومي في الصف ببلاغةٍ بصرية ، يضعه في
مركز الصورة و يجعل كاري على حوافها بعدما كانت محور كل شيءٍ مطلع الفيلم ، و ما أن تبدأ كاري بالشعور بأن حياتها بدأت تأخذ منحىً مختلفاً حتى تدرك أن الإنسان
لا يمكن إلا أن يكون نفسه ، النص يتحرى في حكايته المدى الذي يمكن أن يبلغه المرء
من خلال تجاهل طبيعته و إنكارها فقط من أجل أن يحيا حياةً طبيعية ، كاري
حاولت ذلك لسنوات ، كان أذى الناس اليومي لها شيئاً لا يطاق ، احتملته من أجل أن
تعيش حياةً طبيعية ، حتى و هي تعاقبهم لاحقاً كانت طبيعتها هي من تعاقبهم ، جانبها
الفج ، الغريزي ، الذي لطالما أنكرته و هربت منه ، و عقابها هنا يشمل الأبرياء و
المذنبين على السواء ، طاقةٌ سلبيةٌ لا تبقي و لا تذر ، و عندما ينتهي كل شيء ،
نراها تسير في ذهولٍ نحو منزلها ، تضع نفسها في الحمام ، ترتمي هناك لتغسل دماء
الحفلة ، كائنٌ آخر – بصرياً و ضمنياً – عن ذلك الذي عرفناه مطلع الفيلم .
دي بالما يتفهم كل ذلك في
النص ، من حسن حظه ربما انه وجد في النص المادة الخام الأكثر مثالية للتعبير عن
لغته السينمائية التي أصبحت علامةً مسجلةً بإسمه : الموسيقى ، السلوموشن ، الضوء
الأحمر ، الشاشات المقسومة ، ثنائية الحركة العرضية / الحركة الأمامية للكاميرا ،
الإكستريم كلوز آب ، الإضاءة خلف العنصر ، كل ذلك وجد طريقه ليطبع سينما دي بالما
مع Sisters و Phantom of the Opera أولاً قبل أن يجعله
هذا الفيلم بصمةً حقيقيةً للمعلم ، ذروة ذلك مشهد الحفلة ، أشهر حفلةٍ مدرسيةٍ
وضعها مخرجٌ على شريطٍ سينمائي و أكثرها خلوداً على الإطلاق ، المشهد الذي صوره دي بالما
في أسبوعين كاملين و تظافرت فيه جهوده و جهود مدير التصوير ماريو توزي
و المونتير
بول هيرش و الموسيقار بينو دوناغيو مع أداءٍ عظيم من سيسي سبيسك
لصناعة نتيجةٍ لا تنسى ، في هذا المشهد الذي يفرغ فيه دي بالما كل مفاتيح لغته
السينمائية دفعةً واحدة يرينا الرجل من خلال كمية الشحن النفسي الذي رافق بناء
الشخصية و نوعية المنزل / السجن الذي برع في تصويره مدعوماً بأداءٍ بارعٍ من بيبر لوري
- كحاضنةٍ لحياة كاري - كم الغضب و العنف الذي يمكن أن يقودنا إليه الوجه الآخر الذي
لطالما أنكرناه ، دي بالما يحب أن يرينا ذلك على الشاشة كي يحفره في ذاكرتنا بدلاً من
الإعتماد على شعورٍ نشكله تجاهه ، يبدأ المشهد بالكثير من الرومانسية ، الإضاءة
تنير وجه كاري
، تراقص تومي
، تدور الكاميرا حولهما كثيراً ، ينهضان عندما يتوجان ملكاً و ملكة ، يسيران
بالسلوموشن ، قبل أن ينقلب كل شيء ، مزاوجة دي بالما بين ذهول كاري
بدماء الحيض مطلع الفيلم و ذهولها بدماء الخنزير التي أفسدت فرحتها في الذروة
فعالةٌ جداً ، الدم مجدداً كمدخلٍ للخطيئة ، الدم – و لا شيء سواه – هو استفزازها
الحقيقي ، الدم على خشبة المسرح ، كاميرا توزي و مونتاج هيرش تحت إدارة دي بالما
يعبران دائماً عن حالة كاري ، يخنق الكادر و يحرره بما يتناسب معها ، دائماً
لا يوجد لدى دي بالما شيءٌ خارج الكادر ، مفاتيح إثارته كلها موضوعةٌ أمام مشاهده
، لا يستفز خيال المشاهد بل يتجاوب مع احتياجاته طالما أنه هو من وفر المادة الخام
لتلك الإثارة ، عندما يتأرجح دلو الدم فوق مسرح كاري لا تنتظر شيئاً من دي بالما
سوى أن يوقعه فوق رأسها مهما تأخر ذلك ، يغير ايقاع شريط الصوت كليةً للتعبير عن
الحد الفاصل بين الجريمة و العقاب ، يقسم دي بالما الشاشة و يحرك قطعةً فوق أخرى في بلاغةٌ
بصريةٌ حقيقية و كأنما هو نفسه لا يعلم على وجه الدقة أيهما سيثيرنا أكثر : ما تفعله
كاري
بالآخرين ، أم الملامح التي ترتسم على وجهها أثناء قيامها بذلك ، بالنتيجة كلا
القسمين يقولان الكثير ، سيسي سبيسك طوال العمل انعزلت بشكلٍ كلي عن بقية
الطاقم كي تأسر شعور العزلة الذي تعيشه كاري ، و في المشهد أصرت على أن تكون دماء الخنزير حقيقية ، دي بالما رفض ذلك بقوة ، مع
ذلك نامت سبيسك
بملابسها المدماة لثلاثة أيامٍ أثناء تصوير تلك المتوالية ، سبيسك
إنتقلت بكاري
في مشهدٍ واحد من الكائن اللطيف البريء الذي نتعاطف معه جميعاً ، إلى الوحش الذي
لا يعرف هو ذاته إلى أين يمضي ، ذات الجمال ، ذات البراءة ، مرة بسحنة الوداعة ، و
مرةً بسحنة الغضب ، عندما تقف هناك لتعاقبهم ، تضفي على كاري جلالاً و هيبةً لا يمكن
وصفها ، مغمورةً برهبةٍ لا يستطيع المشاهد تجاهلها ، واحدٌ من ندرةٍ من الأدوار
التي رشحت لجائزة أوسكار في صنفٍ كهذا .
رعب هذا الفيلم رعبٌ
أصيلٌ ، تشاهده و تستمتع به كل مرة و تدرك مع تتالي مشاهداتك السينمائية أنه لا
يشبه أي شيءٍ آخر جاء قبله ، ربما يبدو طبيعياً من أجل ذلك أن يكون واحداً من
مفضلات كوانتن
تارانتينو العشرة ، نجاح الفيلم هو من صنع شهرة ستيفن كينغ و ليس العكس ،
اليوم أصبح واحداً من أفضل ما اقتبس عن أدب الرجل رفقة The Shining و The Shawshank
Redemption
، كلاسيكيةٌ عظيمة عن حجم الوحش الذي يخلقه القمع العاطفي الشعوري
للإنسان ، و عن عبثية الهروب من طبيعتنا مهما اعتقدنا أننا نجحنا في ذلك .
التقييم من 10 : 9
0 تعليقات:
إرسال تعليق