كتب : عماد العذري
بطولة : بول موني ، آن دفوراك
إخراج : هوارد هوكس ، ريتشارد روسن
بعيداً عن تباين القيمة الفنية لها ، أعشق كثيراً الأفلام التي تنتمي في
حكاياتها إلى متغيرات بيئتها الزمنية ، تتأثر بها وتستلهم روحها وتغازل في
الجمهور مشاعرهم تجاهها. وعندما شرع هوارد هوكس في العمل على فيلمه هذا كان في الواقع
يتفاعل مع الحقبة الزمنية التي ينتمي لها عندما ضرب قانون حظر الكحوليات روح الحياة الأمريكية في فترة الكساد الكبير وحوّل رجال العصابات وحكاياتهم مع رجال
الشرطة إلى ما يشبه الأساطير .
شخصياً أُكنّ معزةً خاصةً لأفلام حقبة الحظر تحديداً. تتنوع قصصها ومعالجاتها لكنها تبقى على اختلاف مستوياتها الأقرب إلى قلبي بين سائر أفلام
العصابات. كان هذا الفيلم أول محاولةٍ سينمائية عظيمةٍ للتعامل مع تلك الحقبة
بجديةٍ حقيقية. مع ذلك ، لم يكن محظوظاً بما فيه الكفاية لتحقيق الأسبقية ،
فالمشاكل التي تعرض لها مع الرقابة في فترة ما قبل الكود أخرت من اطلاقه عامين
كاملين. فرضت الرقابة عليه تغيير بعض المشاهد ، وإعادة النظر في الصورة البطولية
التي يقدم من خلالها رجل العصابة ، علاوةً طبعاً على مشاهد العنف غير المسبوقة
التي قدمها والنهاية (غير المحبذة) التي يعرضها لمجرمٍ يصمد حتى النهاية ! تلك
الإعتراضات اصطدمت بمنتجٍ شرسٍ مثل هوارد هيوز رفض التعاطي معها وحاول إطلاق الفيلم
خارج سلطة الرقابة أو في الولايات التي لا تخضع لها بشكلٍ كلي. لكنه في الأخير
كان مضطراً للتعامل مع الواقع المفروض عليه ، فأضيفت لوحة الإفتتاح (التوجيهية
الفجة) وأضيف مشهدٌ تلقينيٌ يناقش دور المواطن والحكومة في التصدي لرجال
العصابات ، وبالطبع أضيف العنوان الجانبي لإسم الفيلم The Shame of the Nation لتوضيح وجهة نظر صناع الفيلم في رجل العصابة. ذلك الشد والجذب
الذي ساهم في تأخير صدور الفيلم أتاح الفرصة لفيلمين آخرين تناولا المواضيع ذاتها
، The Public Enemy و Little Caesar ، للإطلاق عام 1931.
حصلت سينما العصابات خلال 18 شهراً فقط على ثلاثٍ من أشهر وأكثر كلاسيكياتها
نفوذاً. كان الأمر أشبه بالمتنفس الذي وجدته السينما الناطقة لمغازلة الجمهور من
خلال هذه المساحة التي يقدمها نوعٌ سينمائيٌ وليدٌ وجذاب آتٍ من رحم الحقبة التي يعيشونها. وهي مغازلةٌ كادت تصنع حقبةً ذهبيةً لهذا
النوع لولا كود هايز الذي أخضع المشهد السينمائي لشروطه ووقف حجر عثرة أمام هذه
الولادة المبهرة. بين تلك الكلاسيكيات الثلاث بقي فيلم هوكس هو الأعنف والأكثر
جرأة ، والأكثر قيمةً ونفوذاً أيضاً.
نص الفيلم الذي كتبه بن هكت – وآخرون - خلال 11 يوماً إقتباساً لرواية آرميتاج تريل
التي حملت الإسم ذاته يحكي حكاية طوني كامونتي ، رجل العصابة الإيطالية في شيكاغو والذي عرف بالوجه ذو الندبة. طموح طوني سرعان ما يقوده للإستيلاء على مناطق نفوذ
خصوم عصابته التي يقودها زعيمه جوني لوفو ، قبل أن ينتزع السيطرة من زعيمه ذاته ويبسط
نفوذه على سوق تجارة الكحوليات المحظور .
النص - كعادة نصوص هوكس - هو توليفٌ مدروس من الحبكة والدراسة السلوكية معاً ، كلاهما مهمٌ جداً
للآخر . دراسة شخصية كامونتي سلوكياً تنطلق في الأساس من تطورات الحبكة
التي تستلهم في الواقع – و بشكلٍ واضح – حياة آل كابوني ذاته وملحمة الصعود
المجنونة لرجل العصابات الشهير الذي أعجب كثيراً بفيلم هوكس هذا. و هي دراسةٌ حذرةٌ
ومتأنية ولا تحاول أن تطغى ولو قليلاً على جاذبية الحبكة للمشاهد كعادة
كلاسيكيات هوكس دائماً. كامونتي - منذ تعرفنا الأول عليه في غرفة التحقيقات - شخصيةٌ هلامية ، مريبةٌ ومرتابة ويُشع الطموح من عينيها. ما هو أهم من الطموح فيها هي نبرة الثقة
التي تتكلم بها وحالة اللامبالاة والإزدراء التي تسيطر على تعاملها مع كل ما
يحيط بها. تفاصيلٌ تحكم الشكل الظاهري للشخصية. كامونتي بدأ حياته كحارسٍ شخصي
لزعيم العصابات بيغ لوي. يقتله مطلع الفيلم لصالح جوني لوفو الذي يصبح كامونتي
بعدها قائداً لعملياته الميدانية. شخصية كامونتي تبدأ بالتعبير عن أفكارها المجنونة
التي استحوذت عليها للسيطرة على سوق تجارة الكحوليات الرائج حينها ، لكن أفكارها التوسعية تنصدم - منطقياً - بالطريقة الحذرة التي يدير بها جوني لوفو
أعماله. لذلك يبحث كامونتي عن مساحةٍ فارغةٍ تجعل تلك الأفكار قابلةً
للتنفيذ كي يفرض أمراً واقعاً على زعيمه. مفهومه للقوة نابعٌ من صميم معناها : زعيم العصابة لا يجب أن يكون مسالماً ، ذلك يتعارض مع طبيعة شخصيته كزعيم عصابة ، لأن عمل العصابة العنيف يستلزم العنف وعدم احترام المنافس كيلا تتحول المسألة إلى
لعبةٍ رياضية ! كامونتي يعتبر زعيمه جوني لوفو A Soft Guy ، و الطريقة الوحيدة
برأيه لجعله يتخلى عن موقفه هي فرض الأمر الواقع عليه ووضعه في موقع المواجهة مع
خصومه الشماليين ، ثم ما أن يتحقق ذلك وتدين المناطق الشمالية لكامونتي
حتى يجد نفسه في مواجهةٍ - منطقية - مع زعيمه جوني لوفو يحسمها بالطريقة
الوحيدة التي يفهمها ، تماماً كما فعل مع زعيمه السابق بيغ لوي
.
في عمقه يهتم النص بالتفاصيل الشخصية لكامونتي. كامونتي
الذي يقدمه النص إنسانٌ بسيطٌ جداً ومعقّدٌ جداً في آن. نكون شاهدين على بساطة تعامله مع
سكرتيره الساذج ، وزياراته المتكررة لمنزل والدته ، نراه على وشك تفويت ضربةٍ
حاسمةٍ لخصومه بسبب رغبته حضور الفصل الأخير من مسرحية ، لكننا نشهد بالمقابل هوسه
بالقوة الذي لا حدود له. ولعه هنا بإبقاء نفسه محصناً – بالرجال أو بالنوافذ
الحديدية – لا تخطئه العين. نظرة النشوة التي تبدو في عينيه و هو يشعر برهبة
الآخرين تجاهه. ارتياده المطاعم والمقاهي مع كتيبةٍ تحرسه. القمصان الحريرية
التي يستبدلها كل يوم. علاقته الهوسية بشقيقته. وجاذبيته لدى النساء اللاتي يشتريهن بأمواله كما اشترى بوبي فتاة زعيمه السابق التي قدمها له واصفاً إياها بـ (الفتاة باهظة
الثمن) ! هوكس يقدم لنا نموذجاً مخيفاً من خلال سلبية كامونتي الفاتنة. حياته – بكل
سلبياتها – تسير كالحلم ، كل شيءٌ موجودٌ على أطراف أصابعه ولا شيء يمكن أن يقف
في طريقه. ما نراه في كامونتي هو نموذجٌ لصورة الحلم الأمريكي الذي أشع بقوة في حقبة
الحظر وشاهدناه من مسافاتٍ مختلفةٍ في كافة أفلام النوع اللاحقة ، إبتداءً عند The Public Enemy وانتهاءً عند Lawless مروراً طبعاً بـ The Godfather و Once Upon a Time in
America
. دائماً استحوذت صورة الحلم الأمريكي على خلفية الصورة ، تماماً مثل
لوحة The World is Yours الإعلانية التي لطالما فتنت كامونتي هنا .
منجز هوكس الإخراجي - بالرغم من جمالية
الدراسة التي يحققها على الورق - يبدو أعظم من الورق. ترجمته البصرية لصعود وهبوط كامونتي منجزٌ إخراجي عظيم بالقياس للصنف الوليد الذي يتعامل معه و شروط الإنتاج التي جعلته
ينتهي من تصويره خلال ثلاثة أشهر دون توقفٍ ولو ليومٍ واحد. صورة هوكس دائماً حية ومتجددة وتأويلية. يفتتح فيلمه هذا بواحدة من أجمل الإفتتاحيات في تاريخ السينما ، لقطةٌ طويلة
مدتها خمس دقائق تبدأ من عمود الإنارة في الشارع وتستخدم التراكنغ لتتوازى مع
حركة مالك المطعم عبر واجهة مطعمه قبل أن تصل إلى حوارٍ على طاولة يديره الزعيم لويس كاستيللو
، نستمع للحوار قبل أن نصل إلى رجلٍ غامض يطلق النار على بيغ لوي مع حرف X يرتسم على الحائط. افتتاحيةٌ عظيمةٌ ومغريةٌ جداً للمشاهد لتوقع ما يمكن أن ينتظره في هذا
الفيلم. هوكس
يقدم هنا مشاهد عنفٍ حقيقية يخدم صورتها توظيفٌ ممتاز لنوعية الكادرات وطول اللقطة ضمن المساحة الضيقة لصناعة فيلم
عصاباتٍ تستحوذ المشاهد الليلية على معظم حيزه الزمني. لا أبالغ في هذا السياق
اذا اعتبرته أكثر فيلمٍ هوليووديٍ أثر على تطور الفيلم النوار لاحقاً. كاميرا لي غارمرز فعالةٌ وذكيةٌ جداً في استثمارها تأثر هوكس بالتعبيريين لتقديم شيءٍ مختلف بنكهةٍ هوليووديةٍ طازجة. هوكس – كما هو الحدث
ذاته - ينقل العنف إلى الشوارع. تصويره لمشاهد العنف فيها يجعل من النتيجة شيئاً
لا يشبه أي شيءٍ آخر جاءنا من تلك الفترة. مطاردات سيارات ، ورصاصٌ متطاير ، وتصفياتٌ جسديةٌ عنيفةٌ منفذةٌ بجودةٍ تتقدم عصرها ، دون ان ننسى اللمسة الإيحائية
التي يستخدمها هوكس للتعبير عن تطور الحالة من حينٍ لآخر : البيرة المتدفقة – على
سبيل المثال – في المصب المفتوح كنايةً عن (رواج تجارتهم) ، وأوراق
الروزنامة التي تتطاير بواسطة سلاحٍ رشاش كنايةً عن (ايامٍ من العنف) ، والمشهد
الشهير لإغتيال توم غافني والقطعة الخشبية الأخيرة التي تقاوم السقوط أمام كرة
البولينغ قبل أن تنحني في النهاية ، وبالتأكيد حرف X (الرمز التقليدي للجثة في
الأعراف الجنائية) والذي يرتسم بصورةٍ أو بأخرى مع كل جريمة قتل تحدث في الفيلم.
هوكس
– الذي يجرد فيلمه من الموسيقى التصويرية التي كان يحتاجها بشدة – عظيمٌ بالمجمل على
صعيد الصورة والإيقاع كما هو عظيمٌ أيضاً على صعيد استخراج أفضل ما يمكن من بطله بول موني
الذي ينجح هنا في جعل كامونتي جذاباً للمشاهد. أداؤه عظيمٌ وغير مستنسخ في
حقبته بالرغم من لهجته الإيطالية المدعية. نبرة صوت موني وحركة يديه ونظرات
عينيه ولغة جسده الساخرة ثم لحظاته الإندفاعية المجنونة ، كلها مقّوماتٌ منحت عمقاً
إضافياً للتطور السلوكي للشخصية خصوصاً في محاولة تفسير الهوس الجنوني الذي يستحوذ
على كامونتي تجاه شقيقته وهو هوسٌ قد يجعل من العلاقة ذاتها شيئاً مريباً للمشاهد ويحتمل أكثر من معنى كعادة سينما هوكس. موني يجعل من علاقة كامونتي بشقيقته الجزء البشري
الوحيد المنسل وسط قسوة الرجل وعنفه ، مبرراً بالتالي انعكاس ذلك العنف على ذلك
الجزء البشري الوحيد. هذا ينجح من طرفه بالرغم من أنه لا ينجح تماماً من طرف آن دفوراك
التي تؤدي دور شقيقته تشيسكا. إنكسارها الممتزج بعبثها يصل للمشاهد لكنه
يفلت منها عندما تنقسم على نفسها عقب مقتل زوجها وإنضمامها الى شقيقها عوضاً عن
قتله بالرغم من أن ذلك قد يبدو مبرراً على الورق. ذلك الإنقسام يبدو مصطنعاً مع آن دفوراك
كما كان انحناء هوارد هيوز للرقابة - من خلال اللوحة الإفتتاحية والمشهد الخطابي عن
دور الإعلام – مزعجين لي كمشاهدٍ أحب ما شاهده في الفيلم .
معهد الفيلم
الأميركي وضع هذا الفيلم سادساً على قائمة أعظم أفلام العصابات ، و جان لوك غودار
اختار هذا الفيلم عام 1963 كأفضل عملٍ هوليووديٍ ناطق ، متفوقاً على Vertigo و The Searchers . بعيداً عن اتفاقك
أو اختلافك مع غودار لن تستطيع انكار الأثر الواضح الذي أحدثه هذا الفيلم في الطقوس
البصرية لفيلم النوار بصورةٍ يتوازى بها مع فيلم فريتس لانغ M ولا يتفوق بها عليه أي
فيلمٍ هوليووديٍ آخر. عندما تنظر اليوم لدراسته السلوكية وانتمائه الزمني وعنفه
وتطورات حكايته لا تملك إلا أن تقر بأسبقيته الواضحة وأثره السينمائي العظيم .
التقييم من 10 : 9
0 تعليقات:
إرسال تعليق