كتب : عماد العذري
بطولة : سيلفيا باتاي ، جين ماركن ، جورج دارنو
إخراج : جان رُنوار
لك أن تتخيل فيلماً ذو بنيةٍ تقليديةٍ مؤلفةٍ من ثلاثة أجزاء (بداية و
وسط و نهاية) يُحذف جزئه الأوسط (الأطول والأكثر تعقيداً) بأكمله ، ويبقى
للمشاهد جزئاه الطرفيان فقط ، ومع ذلك تبدو النتيجة بهذا الجمال والعظمة ! أشياء
كهذه يفعلها فقط كبارٌ من طينة جان رُنوار .
الحكاية مقتبسةٌ عن قصةٍ قصيرة لغِي دو موباسان تدور أحداثها في عام
1860. مسيو
دوفو
رجلٌ باريسي ميسور يستأجر عربة توزيع الحليب ليذهب بعائلته في نزهةٍ في الريف
الفرنسي على ضفاف السين. يرغب دوفو وزوجته وأمها وابنته وخطيبها في قضاءٍ يومٍ
جميلٍ بعيداً عن ضوضاء المدينة والتزامات الحياة. يتوقفون بقرب مطعم السيد بولان
(يؤديه رُنوار
نفسه). يتناولون غدائهم ويستمتعون بيومهم ويسلّمون أنفسهم لفتنة الطبيعة التي
تحيط بهم من كل جانب كما يحيط بهم الشابان هنري و رودولف ونواياهما الغريبة .
الكلام عن الجزء الأوسط من الفيلم ما يزال مثيراً للجدل حتى يومنا هذا. يقول البعض أنه كان مشروع جان رُنوار منذ البداية وأنه كان سيتتبع حكاية هنرييتا
و هنري
على مدى 14 عاماً باعدت بين لقائيهما في الجزء الأول والثالث من الفيلم. يقول
آخرون أن ما شاهدناه في هذا الفيلم والذي لم يتجاوز الدقائق الأربعين هو ذاته ما
أراده رُنوار
منذ البداية ، و أن الحديث عن الجزء الأوسط جاء نتيجة ضغوط إنتاجيةٍ شديدة تعرض لها
بحكم التأثير المغري الذي يُمارسه الفيلم الطويل على الجمهور و هي ضغوطات لم يؤكدها
رُنوار
أو ينفيها. في الحالتين أصيب رُنوار حينها بعقمٍ فني أعاقه عن انجاز ذلك الجزء مما
دفع بالتأجيلات المتكررة لخلق خلافاتٍ بين رُنوار وبعض طاقم العمل ، قبل
أن يُساهم الطقس الماطر المستمر في تأجيل أي خطوة ، ثم تتدخل مشاريع رُنوار
اللاحقة وعراقيل الإنتاج في القضاء على فكرة انجاز الفيلم وإبقاء مادته المصورة
حبيسة العلب لعشرة أعوامٍ كاملة قرر بعدها منتجو الفيلم وبعض أصدقاء رُنوار
تحرير العمل بعدما وضعت الحرب أوزارها و إطلاقه بالصورة التي أنجزها رُنوار
في حينه .
ذلك الجزء الأوسط من الحكاية كان يُفترض أن يحمل عمق الفيلم كله. قصةٌ
معقدةٌ يستحقها المشاهد عن العلاقة العابرة التي لا تزول والذكرى التي تحكمُنا
لحظتُها و ظروفها للأبد. فكرته فاتنة ولا أستطيع أن أنكر أن رغبتي الخفية بوجوده
إستمرت معي في مشاهداتي الثلاث للفيلم. مهما كانت الحقيقة فما يحققه رُنوار
هنا هو شيءٌ عظيمٌ. عظمته لا تكمن في وجود جزءٍ أوسط أو غيابه ، وإنما في القدرة
التي يظهرها في الإنتقال بالحكاية مباشرةً من (الحدث) إلى (الأثر)
دون المرور بـ (العواقب) أو حتى التطرق لها بأي صورةٍ كانت والحصول على نتيجةٍ بمثل تلك
الفخامة. من الغريب أن هذا التفصيل تحديداً - وعلى خلاف ما يفترض بأن يصبح نقطة
ضعف - يمنح عنصر (الذاكرة) - الذي يقوم عليهِ الإنتقالُ من الجزء الأول إلى الثالث - فعاليةً
قصوى. لوحة الختام هنا أشبه بسطرٍ يقول لنا (ولم تفارقهم ذكرى تلك النزهة أبداً)! اللحظة الهامشية العابرة التي بالرغم من هامشيتها لا تُنسى ، والحادثة التي
تتحول إلى ماضٍ دون أن تمضي .
في بنيته العامة يبدو العمل مثالاً سهل التذكر عن الإنطباعية
في السينما. يغازل رُنوار في بناء حكايته المدرسة الفنية التي انتمى
اليها والده التشكيلي أوغست رُنوار. لا يحكي لنا حكايةً تلامس العقل أو
تحكّمه ، و إنما يغازل فينا الأحاسيس البديهية التي يولّدها فينا التمازج الحاصل
بين (الحكاية
المسرودة) و (الطبيعة التي تؤطرها) و (الأثر) الذي نحصل عليه من تأمل
بطله الذي لم ينجح في علاقته السابقة وبطلته التي تكفي دموعها لإدراك صعوبة موقفٍ
تختبر فيه مشاعرها في مواجهة ارتباطٍ روتيني سيجمعها قريباً بشابٍ أخرق. رُنوار
كما الإنطباعيين يخاطب مشاعرنا فيما نرى. يبدو تدفق حكايته و كأنما يخبرنا أن
تحكيم العقل فيما نشاهده سيجعله سخيفاً ومبتذلاً في نظرنا. يجعل مشاعر الجمهور
هي الحكم على العلاقة التي يشاهدونها : قد تبدو لهم وضعاً جبرياً ، أو نزوة ، أو
عاطفة حقيقية ، أو خطأ عابراً ، أو مجرد لحظة تفريغ ، لا يهم ، هو تماماً كما
الإنطباعيين لا يهتم بما بين السطور وإنما يهتم فقط بالصورة الكبيرة التي نشاهدها ، تاركاً ما بين السطور لمشاهده وحده. وراء ما يجري في الغابة - على سبيل المثال – بين
هنرييتا
و هنري
هناك مزيجٌ فاتنٌ - متروكٌ ليكتمل في خيال المشاهد – من التوق ، والرغبة ، والعاطفة ، والخوف ، والحزن ، والألم ، والندم المسبق ! ما يهم رُنوار فقط هو الصورة الكبيرة
عن تلك اللحظة
العابرة التي كانت لتكون أبديةً لولا أننا أدركنا منذ بدايتها وبمجرد
حدوثها أنها لحظةٌ عابرة ، تماماً مثل النزهة ذاتها .
من أجل جعلنا نساير ما يريده يعتمد رُنوار أولاً على حسٍ كوميديٍ
طفيف يطعم به الحدث خصوصاً من خلال تصرفات السيدة دوفو أو من خلال ردود الفعل الخرقاء لأناتولي. هذه الكوميديا تسير بالحدث إلى بقعةٍ مختلفةٍ عن تلك التي سيصلها في الختام
عندما يتحول إلى ذكرى مؤلمة ، و كأنما (لا توقيت متوقع للذكرى التي تعيش معنا). ويعتمد
ثانياً على ملامسة ثنائية (العقل) و (القلب) التي تحكم الصراع بين (الحصول على
العاطفة) و (التفكير بالمسؤولية وتبعاتها) - مرةً من خلال حوار هنري و رودولف
أثناء تناول غدائهما في مطعم بولان ، و مرةً من خلال حوار هنرييتا و والدتها أثناء
النزهة - من أجل منح تفسيرٍ مقبول للكيفية التي يسير عليها الحدث لاحقاً. و يعتمد
ثالثاً - بعظمة - على الولع الذي يبديه تجاه التقاط الطبيعة ! هذا الفيلم
نزهةٌ حقيقيةٌ تليق بإسمه. صورته الشاعرية تمنحه تماماً مذاق الذكرى الذي ينشده.
مشاهد الطبيعة فيه وتمازج بطليه معها هو عمقه البصري الحقيقي. ابتداءًا عند الصورة التي
ينزلان فيها إلى القارب في بداية النزهة وصولاً إلى الصورة التي نراهما عليها في الختام
كلما تعمقوا في ذلك النهر وصولاً إلى عمق الطبيعة الفجة حيث كل ما نشاهده هناك
فطريٌ و غير مجملٍ أو مزيف ، تماماً كما هي المشاعر التي تطفو على السطح حينها .
رُنوار – الذي يساعده هنا جاك بيكير
و لوكينو
فيسكونتي – يثبت أي مخرجٍ عظيمٍ كان. إحساسنا البصري بالنزهة عظيم. إحساسنا
بالصباح ، بغداء هنري ورودولف ، بتبلد أناتولي ، بروح هنرييتا
، بزقزقة العصافير ، وترقرق الماء ! الرابط البصري الذي يصنعه رُنوار
معنا عظيم. رجله الأول في ذلك هو إبن شقيقه مدير التصوير كلود رُنوار.
كاميرا رُنوار
عمليةٌ وفعالة : ثابتةٌ وواسعة الكادرات في التقاط الطبيعة ، ومجنونةٌ وحيوية
وتعشق الكلوز آب في التقاط الشخصيات. لا شيء يُعبّر عن روح هنرييتا
أكثر من كاميرا رُنوار التي تنزلق معها على الأرجوحة وتحلق معها حيث تحلق في لقطةٍ شهيرةٍ حيّاها تلميذه ساتياجيت راي لاحقاً في Charulata. الكاميرا
- بالحس الإنطباعي الذي يسيّر عمل رُنوار هنا - مولعةٌ بالصورة الكبيرة ولا
تهتم للتفاصيل. نراها تلتقط بفضولٍ ودهشة فتنة الطبيعة أثناء رحلة النهر ، و
تقترب من وجوه الأبطال مع كل مرحلةٍ يقطعها القارب قبل أن تصل في الذروة إلى لقطةٍ
مقربةٍ جداً لوجه هنرييتا الذي يحتضن دمعتها الساقطة. رُنوار يجعل كل ما نراه معبراً
ومؤثراً مهما كانت ضآلة حجمه ، والتعبير الأخير على وجه سيلفيا باتاي
عندما تقوم هنرييتا بتوديع هنري في لقائها الثاني به بعد سنوات هو واحدٌ من أجمل
التعابير الأدائية التي شاهدتها في حياتي : العاطفة والذكرى واليأس والحزن والضيق والحيرة واللامبالاة ترتسم جميعها في ست ثوانٍ على وجهٍ بشري! رُنوار –
وبحكم الظروف الفنية والانتاجية لهذا الفيلم – يبرهن برأيي هنا عن قيمته العظيمة
كصانع أفلام أكثر ربما من عمليه العظيمين في Grand Illusion و The Rules of the Game . واحدٌ من أجمل
الأفلام القصيرة التي قد تشاهدها في حياتك .
التقييم من 10 : 9
0 تعليقات:
إرسال تعليق