كتب : عماد العذري
بطولة : برونو غانز ، أوتو زاندر ، بيتر فولك
إخراج : ڤيم ڤيندرز
أخرج ڤيم ڤيندرز هذا الفيلم بعد سبعة أعوامٍ قضاها في الولايات
المتحدة شكلت مرحلةً جوهريةً جداً من مسيرته. عندما أبصر النور أبهرَ البصر !
انهال الإحتفاء به من عشاق السينما حول العالم. أحبه الجمهور والنقاد على السواء. لامس
فيهم شيئاً قل ان اختبروه في عملٍ سينمائيٍ بهذه العظمة ، فيلم يأتي مرةً واحدةً
فقط في العمر كله !
في أجنحة الرغبة الذي كتبه ڤيندرز مع بيتر هاندكه
هناك دامييل و كاسييل ، ملاكان يحرسان مدينة برلين ، يتجولان فيها
ليلاً ونهاراً ، يستمعان لأفكار أناسها ، يتطفلان على حياتهم ، ويراقبان تفاصيل
يومياتهم ، وحدهم الأطفال من يستطيعون رؤيتهم ، تمضي أيامهم بهدوء لعصورٍ طويلةٍ
من الدهر ، طبعاً مع نزعة احتياجٍ من حينٍ لآخر للتفاعل مع ما يرونه ، عصور من
الحيادية القسرية حيث الألم والفرح لا يغير من واقع ما يرونه شيئاً ، حتى يجد دامييل نفسه
ذات يوم في سيركٍ متجول يراقب ماريون راقصة السيرك البهلوانية ويقع في حبها ويتخذ معها أخطر
قراراته !
يفتتح ڤيندرز فيلمه بقصيدة (عندما كان الطفل طفلاً) التي يبقى رنينها في أذن المشاهد
طويلاً بعد المشاهدة. مقدمةٌ فعالةٌ للحديث عن الثابت والمتغير الذي يتحراه النص
لاحقاً. الحركة الأولى من السيناريو طويلةٌ جداً ، تذكرني بنصوص مايكل باول وإيميرك بريسبيرغر
خصوصاً في The Red Shoes و Black Narcissus . وبالرغم من الوقت الذي تستهلكه في مراقبة الشخصيات دون تطوراتٍ حقيقية ، إلا أن النص لا يستغرق الكثير من الوقت لـ(يقدّم) لنا بطليه دامييل و كاسييل وزملائهم الأخرين الذين يملؤون سماء برلين. شخصيات ڤيندرز مخلوقاتٌ غير بشرية ، تكون شاهدةً كل يوم على كوكتيلٍ
لا ينضب من المشاعر الإنسانية والقرارات والخيبات والآمال والآلام وبالتأكيد المتع البسيطة التي لا يستطيعون اختبارها. يجرد ڤيندرز حكايته
من منظورها الإيماني ، لا يتكلم عن الخالق أو الدين أو ما قبل كل شيء أو ما بعد كل
شيء ، يتكلم فقط عن هؤلاء الملائكة كشهودٍ على كل شيء. هذا التفصيل يمنح الحكاية
دفعةً شاعريةً عظيمة لا تُخطىء المشاهد. مخلوقات ڤيندرز أزليةٌ
، كانت هناك قبل تشكل برلين ، قبل أن يجري النهر وتنمو الأشجار ويوجد البشر. وبالرغم من وحدة الغاية التي وجدوا لأجلها ، إلا أننا لا نحتاج للكثير من التفاصيل
لإدراك الفارق بين دامييل و كاسييل ، نظرة كاسييل المادية / الحسابية / التحليلية لما يراقبه ، ونظرة دامييل
الشاعرية / العاطفية / الحسية للشيء ذاته. نظرتان ترافقان المشاهد على مدار الحركة
الأولى من السيناريو لتفسر لاحقاً التحولات التي ستطرأ على بطلينا في الحركات
التالية. نظرة دامييل للحياة مبهجة ، يستمتع بإلتقاط تفاصيلها ، تغريه وتفتنه وتحرك رغباته. يسيّرُ الشعور بالإمتلاء و اللامحدودية حاجة دامييل
للمحدودية ، لأن يتخلى عن اكتماله وخلوده مقابل تجارب بسيطةٍ شاهدها ملايين
المرات عبر عصورٍ من المراقبة : أن يشرب القهوة ، ويُطعم القط ، أن ينزف ، ويلوث
يده بحبر الجريدة ، أن يرى العالم ملوناً ، ويتبادل العاطفة مع شخصٍ ما. كاسييل على
النقيض منه ، يحتفظ بذاكرة الحرب التي خيمت على المدينة فتستحوذ عليه المعاناة ويبدو بعيداً كل البعد عن رغبات دامييل وعاجزاً ربما حتى عن مجرد التفكير بها. نشعرُ بألمه ووحدته ، ونستشف الحاجز الذي يبقيه بعيداً عن مجاراة ولع دامييل بما يشاهد.
هذه المقارنة تبلغ منتهاها في مشهدين عظيمين يراقب فيهما ڤيندرز بطليه شاهدين
على المسافة الفاصلة بين الحياة والموت. في المشهد الأول نشعر بعذابات كاسييل الذي
لم يستطع منع أحدهم من الإنتحار. يرسلنا تسلسلٌ مونتاجيٌ في تلاحقٍ بصريٍ مجنون
لنلامس ردة الفعل العنيفة في دواخل كاسييل بعدما سقط الرجل أمامه من شاهق عاجزاً عن أن يمد له
يد العون ويخفف من ألمه. في المشهد الثاني يغوص بنا ڤيندرز – بعبقريةٍ – في عمق النظرة الشاعرية التي يحملها دامييل للحياة. حادث اصطدام يودي بحياة سائق. ينطلق دامييل الى
الموقع. تبدأ الكاميرا اللقطة من الجهة المعاكسة للسير ثم تسير على الخط المنصف
حتى تصل إلى موقع المصاب في الجهة الأخرى. تدفق الكاميرا المدروس وحركتها يولّدان
شعور الحركة التدفقية للملاك كما تفعل في أرجاء الفيلم كله. خلال هذه اللقطة
تتبادر إلى مسامعنا الهمسات الأخيرة التي يُحدّث بها المصاب نفسه. مجرد همساتٍ
مبعثرة لإنسانٍ معلقٍ بين الحياة والموت. يأخذ دامييل موقعه وراء
الرجل المحتضر ، وتراقبهم الكاميرا – عاجزةً – بحركةٍ بندوليةٍ من اليمين إلى
اليسار معطيةً تكويناً بصرياً مختلفاً مع كل حركة في إنعكاسٍ فعالٍ لإنسانٍ معلقٍ –
في لحظاته الأخيرة – بين عالمي الحياة والموت. كل حركةٍ للكاميرا تأخذ وقعاً
مختلفاً. في الحركة الأولى (نحو اليمين) يحاول دامييل مساندة المصاب
من خلال توجيهه نحو تكثيف مشاعره
الحياتية في تلك اللحظة الخاطفة التي تسبق موته. نستمع لدامييل يهمس شعراً
في أذنه رغبةً في التخفيف عنه. في الحركة الثانية (نحو اليسار) يبدأ الرجل
بمشاركة دامييل همساته. في الحركة الثالثة (مجدداً نحو اليمين) يصمت دامييل ويستمر الرجل منفرداً في سرد ذكرياته ، خطابٌ لحبيبةٍ كان يتمنى لو أسعفه الوقت
لتصحيح خطئه معها ، واستذكارٌ لكل ما مر : الأماكن ، والأشخاص ، واللحظات ، والتفاصيل. لحظة الألم التي نستمع فيها لكل ما يراود الإنسان قبل الإغماضة الأخيرة. ثم في الحركة الرابعة (مجدداً نحو اليسار) يتسلم موقع دامييل من يبدو بأنه
أحد أقارب الرجل. يغادر دامييل بعدما أصبح همس الرجل / ذكرياته / ما بقي له في أمتار حياته الأخيرة أقوى
صوتاً مما سمعناه لحظة حضور دامييل إلى الموقع. هذا المشهد العبقري يضرب في صميم شخصية دامييل :
إيجابيتها وعاطفتها وشاعرية نظرتها للحياة وقدرتها – على خلاف الفعل
الإرتدادي لدى كاسييل تجاه مشهد الإنتحار – على استخلاص الجمال والشاعرية من
صميم الألم ، استنطاق بهجات الحياة على مشارف أولى دقائق الموت !
ثنائية دامييل و كاسييل يجعلها ڤيندرز مقياساً لشخصياته الأخرى. ملائكةٌ يملئون فضاء برلين.
تجثم المدينة المقسّمة تحتهم ولا يعنيهم انقسامها في شيء. وجودهم يلغي جدارها
التاريخي. يقفون هناك شاهدين على جمالها ، ينهلون منها – من خلال عملٍ بصريٍ /
صوتيٍ عظيم - الحب والرثاء والسخرية والأمل. الروحانية التي نعيشها في مراقبة
تلك الكائنات لسكان برلين تتمازج مع المدينة التي تستعيد روحها – قبل بضعة أعوامٍ
فقط على سقوط جدارها – تتجول فيها الكاميرا لتجعلها شخصيةً من شخصيات الفيلم. نرى
ماضيها وحاضرها ، شوارعها وأزقتها ومعالمها الرئيسية من خلال عيون ملائكتها الحارسين
الذين يبعث وجودهم على الطمأنينة لكنه لا يغير من الواقع. نراهم ونشعر بوجودهم
في كل مكان. بعضهم موجودٌ في أماكن أحبها ، وبعضهم إلى جوار أشخاصٍ يحبهم. بيتر فولك
الذي يقوم هنا بأداء شخصيته الحقيقية هو واحدٌ منهم. الممثل الأميركي القادم إلى مدينة
الملائكة لإنجاز عملٍ فني قبل أن يكشف لدامييل و كاسييل حقيقته التي تفتن الأول ولا تؤثر في الثاني !
فتنة دامييل تأتي من خلال ماريون ، راقصة الألعاب البهلوانية في السيرك التي لا سقف
لطموحها. يحاول نص ڤيندرز وهاندكه خلق ثنائية تناقضٍ مدروسة بين دامييل (الخالد الذي
يريد أن يصبح بشرياً) ، و ماريون (البشرية التي تريد أن تصبح خالدة) كتمهيدٍ لعاطفةٍ
ستجمعهما. مع ذلك فالنص لا يوجد ماريون فقط من أجل منح بعدٍ عاطفيٍ مقحمٍ للحكاية. ماريون هي
جزءٌ من مراقبتنا لدامييل ، هي إنسانٌ قبل كل شيء ! الفوكسة عليها تختبر ما يريد
النص تحريه في تلك الكائنات البشرية التي تثير فضول دامييل : طموح
الإنسان وقسوة الحياة ، أحلامها المعلقة بالسماء ، إحباطها ، ونزواتها ، وقلقها ، وموزاييك العواطف التي تستولي عليها. شخصيةٌ مثاليةٌ للدراسة. كوكبٌ معزولٌ مثل
مجموعة الكواكب البشرية التي تتجول الملائكة بجوارها كل يوم. لكلٍ منهم حكاية.
نراهم هناك في الطائرة ، وفي البيوت ، وفي القطار ، وفي سيارة الإسعاف ، وفي المكتبة.
يأكلون ويشربون ويتحدثون ، يقرأون ويكتبون ، يشعرون بالفخر والنشوة والألم والإحباط ، يجدون ما يدفعهم للإستمرارية فيتعلقون بأمل ، أو لا يجدون فينتحرون ! ماريون هي فقط
الجزء البشري الذي حول شغف عصورٍ متراكمةٍ في صدر دامييل إلى حقيقة.
جزءٌ مما جذب دامييل إليها مفهوم : الجمال والوحدة والتوق ورهافة الحس واليوميات
المعلقة بين السماء والأرض في عروض السيرك. هي تشبهه إلى حدٍ ما ! ما يتبقى بعد
ذلك يبقيه النص غامضاً غموض الحب ذاته. ڤيندرز يتأمل في عبثية توصيف الحب : التقاطعات التي تجمع العين والأذن والروح
والظروف والزمان والمكان والتي لا تشبه مثيلتها لدى أي شخصٍ آخر. دامييل كان هناك
لعصور ، راقب ملايين الفتيات في برلين ، لكن ماريون وحدها - كيانها الذي لا يشبه في التقاطعات السابقة أي
كيانٍ آخر - هو ما أجبره على عيش التجربة ! وفي الواقع : هذا هو الحب ! ولادته هنا هي سبرٌ فاتنٌ في المدة التي ينتقل فيها الكائن من حالة المراقبة إلى
حالة المشاركة. مثل عامل الهاتف المتنصت الذي يقرر التصرف أخيراً تجاه أمورٍ لا
يعلمها سواه ! ملامسةٌ عبقرية لعمق تحولاتنا وقراراتنا المصيرية ، تلك التي لا
تحكمها الظروف ، أو الزمان ، أو السعادة ، أو الرضا ، يحكمها فقط أزمةٌ تظهر بين
العقل والقلب فتنفجر لتعصف بكليهما !
هذا العمل أصيلٌ إلى درجةٍ تشعر معها أنه قطعةٌ من الأدب العالمي ! وڤيندرز (في
وجود كلير دوني كمساعدةٍ له) يقفز بأصالة الحكاية وأبعاد شخصياتها
إلى الذروة في فيلمٍ فائق العظمة. حالة التوق التي تستولي على دامييل يملأ
بها ڤيندرز الشاشة. تشعر بأنها كائنٌ حيٌ مكتمل الملامح يستولي
على كل ما نراه : نظرات عيني برونو غانز ، ونبرة صوته ، وهمسات البشر التي تستحوذ على شريط
الصوت ، والحاجز البصري الفاتن بين الأبيض والأسود والملون (مع مسحة خفيفةٍ من السيبيا تمت إزالتها في نسخٍ أحدث) والذي يبقي عالم دامييل مفصولاً بحدة عن عالم من يراقبهم وبالتالي يبرر الرغبة
التي تستحوذ عليه بمرور الوقت تجاه ألوان الحياة. توظيفٌ بالرغم من أنه سبقه إليه
في المساحة ذاتها عمل مايكل باول العظيم في A Matter of Life and
Death إلا أن هنري ألكان في إدارة التصوير يجعله يبدو وكأنما هو ابتكاره
الخاص. المصور الأسطوري الذي عمل مع ويليام وايلر و آبل غانس و جان كوكتو يحلق عالياً - حرفياً - من خلال ادارةٍ فخمةٍ للمشاهد الجوية. حركة الكاميرا بإتجاه المنازل ، صعودها ونزولها ، وحركتها بين الجموع ، ومستوى
الرأس الذي تحافظ عليه في المشاهد الداخلية لتعطينا احساس المراقبة والتجوال ، ومشهد المكتبة العظيم والحركة التدفقية التي تأسر حركة الملاك وتذكرنا بالمنجز
التصويري العظيم لألكان مع كوكتو في La Belle et la Bête . متعةٌ فائقةٌ للبصر ونشوةٌ سينمائيةٌ لا نعيشها كل يوم !
ينتهي هذا الفيلم أولاً بعبارة To Be Continued التي بدت غريبةً وشاعريةً ربما لبضع سنوات قبل أن يحولها ڤيندرز الى
حقيقة من خلال فيلمٍ آخر حمل اسم Farewell, So Close منحه جائزة لجنة التحكيم الكبرى في كان عام 1993 ، وثانياً بإهداءٍ جميلٍ من ڤيندرز إلى الملائكة الذين كانوا بيننا ، يخص منهم ياسوجيرو و فرانسوا و أندريه ،
الثلة التي جعلت لـ(حياتنا) معنى أجمل ، هذا الفيلم إحتفاءٌ عظيمٌ بالحياة ، بكل ما
فيها ، كل ما قدرناه و كل ما لم نكترث له ، بهجاتها العابرة ، وتفاصيلها العظيمة
، ورغباتها البسيطة ، وملذاتها الأبسط. نظرةٌ في عمق المدروج الإنساني لحب
الحياة : بين ذلك الذي يقدر كل ما فيها فيستطيع أن يعيشه ، وذلك الذي يعجز عن خلق
تواصلٍ معها فتلفظه أو يلفظها ، لا فرق !
التقييم من 10 : 10
0 تعليقات:
إرسال تعليق