كتب : عماد العذري
بطولة : كريستوفر غيست ، مايكل ماكين ، هاري شيرر
إخراج : روب راينر
هذا هو الفيلم الوحيد على موقع imdb الشهير الذي يحصل على
تقييم من 11 بدلاً من 10 تكريماً لعبارته الشهيرة These go to eleven التي تحوّلت إلى مثلٍ
أمريكي واختزلت بالرغم من بساطتها الكثير مما يمكن قوله عن هذه الفرقة : بساطتها
وحماقتها وجهلها وزيفها واحساس السيطرة على الأمور الذي تحاول أن تكسو به
تصرفاتها .
وبالرغم من أن هذا التقييم الممنوح تكريميٌ وليس حقيقي ، إلا أنه
يليق في سياقه بواحدٍ من أفضل الكوميديات التي صنعت عن العمل الفني (أو الشوبيز كوميدي)
و من أفضل الكوميديات عموماً ، وهي كوميديا لا تستمد قيمتها من جودة ما تقدمه
فحسب ، بل من أهمية الأثر الذي خلفته وراءها في تشكيل الملامح المكتملة للموكومنتري. قبل هذا الفيلم كان الموكومنتري مجرد تجارب فرديةٍ حققها مخرجون أرادوا
توظيف لغة الفيلم الوثائقي في تقديم أعمالٍ روائيةٍ كوميدية ، أبرز هذه التجارب
كان عمل ريتشارد
ليستر A Hard Day's Night و فيلم وودي آلن Zelig . لكن تحوّل هذا الفيلم
الى ما يشبه الظاهرة المصغرة حال اطلاقه ساهم في تقديمه كقالبٍ – نصيٍ وإخراجي –
للعديد من الأعمال التي نهجت التوثيق لتقديم الكوميديا ، حتى أن كلمة موكومنتري
ذاتها ظهرت في أدبيات السينما لأول مرة على يد روب راينر في معرض حديثه عن
هذا الفيلم بعدما بقيت لسنوات حبيسة القواميس .
في الفيلم الذي كتب نصه وموسيقاه روب راينر وممثلوه الثلاثة
يتابع مخرجٌ يدعى مارتي دي بيرغي (تكريماً لمارتي و دي بالما و سبيلبيرغ)
فرقة روك بريطانية تدعى Spinal Tap تعود إلى الولايات
المتحدة بعد 15 عاماً على نجاحاتها.
يلاحق دي
بيرغي (الذي يقوم بدوره راينر نفسه) أعضائها الثلاثة الرئيسيين ديفيد سانت
هوبنز ونايغل تيفنل وديريك سمولز على مشارف اطلاق البومهم الجديد (شمّ القفاز)
، يسبر ماضيهم ونشأتهم ، يتأمل في تطلعاتهم الإنبعاثية ، ويراقب فيهم عن كثب
أسوأ ما يمكن أن يحصل لفرقة روك تحاول استعادة مجدٍ غابر : الغاء العروض ، والخلافات
، وسوء التقدير ، والمشاكل التقنية على المسرح ، وفقدان الدعم من الجميع .
من خلال تلك المراقبة يتقدم الحدث بشكلٍ مؤلم بقدر ما هو مضحك. نتأمل
في تمسكهم بالأمل ، وفي انقسامهم التدريجي على أنفسهم ، نلمح جهلهم النابع في
جزءٍ منه من ثقتهم المتبقية بشعبيتهم ، ونشعر بالأسى والسخرية في الوقت ذاته ونحن نشاهد سيلاً لا يتوقف على مدار ساعةٍ ونصف من العبث والعشوائية التي سيطرت
على حياتهم. في تلاحق هذه الأحداث جميعها تكمن جودة النص الذي كتبه الأربعة لهذا
الفيلم. يستثمر ممثلوه الثلاثة عملهم مطلع حياتهم الفنية في فرق روك مختلفة وقربهم الشديد من المهنة ليسخروا من تفاصيلها الصغيرة دون أن يحرروا تلك السخرية من
مذاق الأسى الذي يلتصق بها. هذا جميلٌ جداً وفعالٌ في جعل الفيلم قابلاً للمشاهدة والضحك مرةً تلو أخرى .
ذكاء هذا العمل برأيي يكمن في أنه يأخذ حيزه الزمني في مرحلة ما بعد
الذروة الفنية ، على تخوم التلاشي. هذه المرحلة تكون أقسى عملياً من مرحلة الأفول
لأنها تلتقط فيهم شعور الخيبة والإنكار ومسحة الأمل المتبقية. تستخلص من
مطاردتهم أكثر اللحظات الإنسانية بعيداً عن ماكياج الشهرة (الذي يطغى في
الذروة الفنية) و رضا استذكار الماضي (الذي يستولي على مرحلة الأفول). نتأمل عالمهم - الصغير
أصلاً - ينهار تدريجياً من حولهم فتتعاطف معهم حتى وأنت تضحك على آلامهم.
كوميديا الفيلم حقيقية ، ليست مدعية أو متسولة. هو واحدٌ من أكثر الأفلام التي
جعلتني أضحك عندما شاهدته أول مرة قبل سنوات ثم أعدته قبل أسبوع. الكوميديا فيه –
مثل تطورات أي نصٍ ذكي – تأتي من مفصل الحدث ذاته و لا يضعها الكاتب فيه. تبحث
عنها وتلتقطها وتضحك سعيداً بها ثم تتأمل في سياقها العام شعور الأسى الذي تولده
ليس فقط تجاه هذه الفرقة ، بل تجاه كل صورةٍ جميلةٍ وبراقةٍ ينخرها الزيف والخواء والإدعاء والحماقة فيجعلها شيئاً مختلفاً تماماً .
وفي نفس الوقت الذي تبدو فيه تفاصيل حياتهم مثاراً للسخرية لا يخفي
العمل كمّ العاطفة الذي يؤطر علاقتهم بالموسيقى. هم قبل كل شيء يقومون بما يحبون
القيام به. هذه العاطفة هي منبع الحاجز الذي يبقيهم بعيداً عن الإحترافية والنضج
الفني ، لذلك لا يتيح النص لتلك العاطفة بالإستيلاء على الحكاية كي يحافظ على
التناقض الذي يستكشفه. يلامس حس التفلسف والبحث عن عمقٍ إفتراضيٍ لحياتهم ،
الشعور الذي يدّعونه على الدوام والذي لا يتيح لنا الفيلم الفرصة لإختبار تشكيكهم
فيه أو حتى مراجعته ! هذا عظيم ! دائماً ما يكون الخواء والعبث كامناً في
التفاصيل وليس في الصورة الكبيرة. عندما يكون في الصورة الكبيرة لا يستطيع أن
يهجو أو يسخر لأنه يخسر توقع الجمهور الذي تفقده الصورة (الأحادية / الكبيرة / الساخرة)
حماسه للإستكشاف والتأمل. لذلك لا يقترب النص من الصورة الكبيرة ، يتركهم كما يروق
لهم أن يبدوا للآخرين : فرقة ناجحةً ذات ماضي تزور الولايات المتحدة ! يكثف جهوده
فقط على سبر التفاصيل وجعلنا نسخر منها ، وهو توصيفٌ دقيقٌ لـ (الصورة الكبيرة)
القائمة دائماً على الكثير من التفاصيل المناقضة لها. لا وجود هنا للشرير والخيّر ، لكن هناك الحقيقي والزائف والمدّعي والهش والمتلوّن والضعيف. سردٌ
لا يقوم على حبكة أو حدث بل يقوم على تفاصيل ، لا يقوم على جمال اللوحة بل على القماش
الذي صنعت منه اللوحة !
لا أقل من قيمة النص تأتي قيمة أبطال الفيلم الثلاثة الذين يحملون على
عاتقهم – اكثر من التفاصيل التقنية للفيلم الوثائقي – مسؤولية جعل هذه الفرقة تبدو
حقيقية. يذوب الممثلون الثلاثة تماماً في الأدوار لدرجةٍ تجعل من الصعب على
المشاهد العادي فصلهم عن شخصياتهم ، هذا إذا سلّم اساساً بفكرة أنهم يؤدون أدواراً
! وجودهم وحضورهم وعفويتهم تصنع علاقةً وديةً جداً بين المشاهد والشخصية وهذا
يضرب في عمق التفسير المنطقي لشعبية هذه الفرقة وحضورها وقربها من القلب. هم يجذبونك
كأنك جزءٌ من جمهورهم. ساهم في ذلك عملهم في الأساس على خطوطٍ عريضةٍ للسيناريو و
ارتجالهم معظم حوارات الفيلم و بلهجةٍ بريطانيةٍ مميزة (هي ليست لهجتهم في الواقع)
، الأمر الذي زاد من حميمية الشخصيات وحقيقيتها وكوميديتها ، وجعل رد الفعل يبدو
من صميم الشخصية التي لا يقدمها النص أساساً كشخصيةٍ مكتوبة وإنما كشيءٍ حقيقيٍ
موضوعٍ تحت المجهر .
ذلك الإرتجال – الذي أصبح بفضل الفيلم جزءاً لا يتجزأ من فن الموكومنتري
– يدعمه روب
راينر بعملٍ إيقاعيٍ ممتاز على الكاميرا المحمولة والمونتاج أصبح هو الآخر
قالباً جاهزاً للموكومنتري. صوّر روب راينر عشرات الساعات قبل أن يدخل غرفة المونتاج وهذا ما جعل تكثيف العمق المطلوب للعمل صعباً للغاية. حتى اليوم ما زال هناك نسخٌ
شعبيةٌ يتداولها محبو الفيلم تفوق مدتها الساعات الأربع. روبرت لايتن في غرفة
المونتاج يزيل فائض التصوير – القائم في الأساس على الإرتجال – ليجعل من هذه
الساعة والنصف شيئاً ذو قيمة. طريقته في القطع من مشهدٍ لآخر تجسّد النكتة
حرفياً و أصبحت اليوم اشبه بطقسٍ من طقوس الموكومنتري. القطع الفوري بمجرد إنتهاء
الكلام وبالتالي إعطاء شعور الصدى في عقل المشاهد الذي يبتسم مع بدء المشهد
التالي على الطرفة التي سمعها في نهاية المشهد السابق ! تجسيدٌ بصري للحظة الصمت
الفاصلة بين سماع النكتة – إرسالها إلى الدماغ – ثم إعطاء الأمر بالضحك !
من المنطقي تفهّم الحديث المطول الذي رافق اطلاق هذا الفيلم عن
الإسقاطات التي قدمها لحياة عددٍ من نجوم الروك والنابع من استلهامه في سخريته
لبعض المفارقات الغريبة في مسيرتهم ، هذا اثباتٌ برأيي على براعته. الخطوط التي
يمسك بها في توثيقه وتلك التي يرسلها تعمل على إشراكنا في ماضيهم بالمقدار الذي
يحب ، وهذا ربما نقدٌ ذاتيٌ للأفلام الوثائقية عموماً وقدرتها على توجيه المشاهد
كما تحب. ماضيهم يوجّه درامياً ونعرف عنه ما يغني تقدم الحدث ويجعلنا نهتم به
فقط. كل هذا يتم في المساحة المشتركة بينهم وبين أي فرق روك اخرى : الحياة
الصاخبة ، و ولع الوقوف على المسرح ، ونسبية النجاح ، ونقاط القيمة السوقية التي
تزيد و تنخفض بسبب غلاف ألبوم أو مجسّم غريب يوضع على مسرح !
التقييم من 10 : 10
0 تعليقات:
إرسال تعليق