كتب : عماد العذري
بطولة : فيرنر
كراوس ، كونراد فايت ، فريدريتش فير
إخراج : روبرت فاينه
البعض يعتبر هذا الفيلم أول فيلم رعبٍ مكتمل الملامح على اعتبار أنهم
يرون في التجارب التي سبقته مغازلاتٍ لسينما الرعب دون أن تكون تأسيساً لصنفٍ
مكتمل الملامح و الطقوس ، و هو رأيٌ لا يمكنني أن أتفق معه أو أختلف ، ما أنا
واثقٌ منه هو أن هذا الفيلم متواضع التكلفة و الذي كان أحد مشاريع الكبير فريتس لانغ
هو واحدٌ من أعظم منجزات التعبيرية الألمانية و واحدٌ من علامات السينما الكبرى
و واحدٌ من أكثر الأفلام أهميةً و تأثيراً على الإطلاق .
في هذا الفيلم الذي ذهب
لاحقاً لروبرت
فاينه بعد إعتذار لانغ لإنشغاله بتصوير فيلمه The Spiders يصور لنا كارل ماير
و هانز
يانوفيتش حكايةً - إستلهمها الأخير من كابوسٍ راوده و من حادثةٍ كان شاهداً
عليها – بطلها الدكتور كاليغاري خبير التنويم المغناطيسي الذي يصل إلى بلدةٍ
ألمانيةٍ صغيرةٍ رفقة رجله سيزار الخاضع للتنويم و الذي يقدم كاليغاري
من خلاله عروضاً خاصةً في كرنفال البلدة ، عندما تبدأ بعض جرائم القتل في تعكير
الصفو .
عظمة هذا الفيلم تتفرع على محورين : الأول هو القفزة المهمة التي
حققها على مستوى السرد في فترةٍ لم تعتد السينما أن تقدم لجمهورها قصصاً بهذا
المستوى من التعقيد ، و الثاني هو المهرجان البصري الذي يحقق من خلاله فاينه أول
إرساءٍ عظيمٍ و مكتمل الملامح لطقوس التعبيرية الألمانية بصورةٍ منحتها النقلة
الحقيقية الأولى نحو عالم السينما الوليد و هي النقلة التي سرعان ما انعكست على كم
الأعمال العظيمة التي قدمتها هذه المدرسة خلال السنوات القليلة التي أعقبت هذا
الفيلم .
على المحور الأول سبق الفيلم زمنه بكثير ، قدم هذا العمل أول بنيةٍ سرديةٍ
تعتمد بشكل كاملٍ على الحكاية المؤطرة أو ما يعرف بالـ Frame Story حيث تقدم الحكاية
داخل حكايةٍ أخرى ، و هذه البنية استدعت بالتأكيد توظيفاً مختلفاً للفلاش باك
جعل هذا الفيلم أول من استخدمه بشكلٍ كلي لسرد حكايته بعدما كان مجرد أداةٍ متواضعة في
فيلمٍ أو فيلمين سبقوه لتقديمه ، الفلاش باك هنا هو الحكاية كلها و من خلالها تتحقق
بنية السرد القائمة على حكايةٍ تؤطر حكايةً أخرى ، فيلم فاينه أتاح للسينما – و لأول
مرة - إختبار المستوى الجمالي لهذه الأداة و المدى الذي يمكن أن تبلغه في أسر
الذاكرة و الإسترسال فيها كعنصر بالغ الفعالية سبقها إليه الأدب بكافة صنوفه ، هذا
التوظيف الذي يحدث على مستويين من السرد (قصة كاليغاري ثم قصة المدير
الذي سيتحوّل إلى كاليغاري) جعل من بنية الحكاية المؤطرة جزءاً لا يتجزأ من عمق الفيلم
، و مع أن ذلك حدث رغماً عن ماير و يانوفيتش و بناءً على مقترحٍ من لانغ
تمسك به فاينه
و أضافه إلى النص ، إلا أن ذلك التمسك حقق شيئاً إيجابياً للعمل ، منحه من ناحية
القدرة على تحقيق حالة الوهم و اللاواقع التي وظف من أجلها فاينه
رؤيته البصرية الفريدة جداً للحكاية ، و حقق من خلاله ربما أول ملامسةٍ فعالةٍ
لمفهوم (نسبية
الحقيقة) و إيصال شعورٍ يفتك بالمشاهد الذي لا يعلم على وجه الدقة حقيقة ما
جرى و هل ما جرى جرى فعلاً و هو المفهوم الذي تحوّل إلى ثيمٍ قصصيٍ على يد أكيرا كوراساوا
في Rashomon بعد ذلك بثلاثة عقود .
علاوةً على ذلك و في سياق السبق الزمني الذي يحققه الفيلم على صعيد بنيته
السردية يقدم هذا العمل ربما أول صورةٍ حقيقيةٍ مكتملة لمفهوم الـ Twist-End حيث ينتهي العمل
السينمائي بمفاجأةٍ أو صدمةٍ أو تحولٍ غير متوقعٍ أو غير منطقي ، و هي صورةٍ تفوق
جداً ما كان الجمهور البسيط يمكن أن ينتظره من شاشة السينما في العقود الأولى لهذا
الفن ، و هو هنا – بعد قرابة مائة عام – يتجاوز المفهوم المبهر – و الذي نعشقه – للتويست إند
، لا يقدّمه فاينه هنا للمتعة الخالصة بل لجعله يعيش و يؤثر و يضرب في صميم عمق
الحكاية عن أوهام العقل الباطن التي استقاها الكاتبان من روح التعبيرية
الألمانية كحركةٍ فنيةٍ قامت في الأساس نتيجة شعور الخيبة و المرارة و
الإنكسار لدى الشعب الألماني عقب الحرب العالمية الأولى كما يقول زيغفريد كراكاور
في كتابه الشهير From Caligari to Hitler و كرد فعلٍ ربما على الإنطباعية ، قامت الإنطباعية على تفسير الواقع الخارجي
للفنان من خلال إنطباعاته و أحاسيسه الداخلية ، بينما جاءت التعبيرية
لتعبّر عن دواخل الفنان من خلال عالمه الخارجي و انفعالاته الظاهرة ، فقدّمت
العاطفة على العقل ، و الوسيلة على الغاية ، و الرمزية على الحرفية ، و قامت
بإلغاء التفسير
الذاتي للمشاعر من خلال تكثيف الشكل الخارجي للمشاعر (بصرياً / صوتياً /
أدائياً) في منحىً واضحٍ لا يحتمل الحياد ، و هذا ربما ما يفسّر النجاح الذي حظيت
به التعبيرية
في فجر السينما عندما كان الوسيط الفني الوليد يفتقد لأحد أكثر عناصره قدرةً على
تأطير تلك المشاعر (الحوار) ، هذه العناصر التي قامت عليها التعبيرية
الألمانية كثفها كاتبا النص ماير و يانوفيتش من أجل تقديم صورةٍ
مختلفةٍ لألمانيا الجريحة من ناحية ، و من أجل التعبير عن توجههم المناهض للسلطة
ممثلةً في حكومة فايمار القائمة حينها و هو ما جعل كراكاور في كتابه يميل لإعتبار
كاليغاري
استعارةً ضمنيةً لتلك الحكومة من خلال سلطويتها و تأثيرها الجارف و النتائج الكارثية التي خلفتها
ورائها و التلاعب بالروح الذي سيطرت به على الآخرين كطريقٍ ممهدٍ لصعود الرايخ الثالث
بعد 13 عاماً ، من هذا المنظور يمكن تفهم وجهة نظر كتاب السيناريو في اعتراضهم على
فكرة الحكاية
المؤطرة و التويست إند التي قللت بشكلٍ واضحٍ من قيمة توجهاتهم السياسية
المضمّنة في الفيلم و صوّرت البطل في الختام مجرد شخصيةٍ مجنونة ، و هي ضريبةٌ
ربما كان لا بد منها مقابل القفزة السردية العظيمة التي حققها النص بفن كتابة
السيناريو .
على المحور الثاني كان العمل سابقاً لعصره بقصه شريط التعبيرية
الألمانية سينمائياً و هو الباب الذي فتح على عاصفةٍ من الكلاسيكيات
السينمائية التي لم تكتفِ بأن جاءت من رحم البيئة الزمانية و المكانية و الظرفية
لها – كأي حركةٍ أو مدرسةٍ أدبيةٍ أو فنية – بل سرعان ما حققت مدّاً عالمياً أثر
كثيراً على السينما الأوروبية و بلغ منتهى تأثيرها في تشكيل الثيم البصري للفيلم النوار
، كثّف فاينه
مبادىء التعبيرية من خلال خلقه لعالمٍ مختلفٍ بالكامل على صعيد بنيته البصرية ،
عالم لا يشبه عالمنا مطلقاً ، و هو تفصيلٌ لم تقارعه فيه أهم الإنجازات السينمائية
للتعبيرية الألمانية لاحقاً ، كان هذا العمل أول توظيف حقيقيٍ مكتملٍ لـ (الصورة)
في التعبير عن مضمون الحكاية و عمقها ، قبله كانت الصورة وسيلةً لسرد الحكاية، إستخدم فاينه بشكلٍ مكثف الـ Iris
Shot لخلق إحساسٍ حقيقيٍ بالذكرى
و مذاقٍ بصريٍ مختلف لمن يطل من خلال الصندوق السحري على عالمٍ غريبٍ لا
يعرفه ، أدرك مبكراً قيمة الكلوز آب كنعصرٍ فعال في التقاط التفاصيل يغني
بصورةٍ بديهية الطقوس البصرية للتعبيرية القائمة على تكثيف الماديات و المحسوسات ،
ثم خلق ذلك العالم الغريب من خلال أفكار المصمم هيرمان وورم الذي
استخدم مواقع تصويرٍ مصممةٍ بالكامل و عدداً وافراً من اللوحات الحائطية لتوليد
شعور الإبحار في المتاهة العقلية للراوي و الذي يزيد بصورةٍ أو بأخرى من تعقيد
حكايته ، رسم الضوء و الظلال على الأرضيات و الخلفيات ، صمم الأشجار و الجدران و
النوافذ و الطرقات بصورةٍ يكثف ميلانُها و حديةُ حوافها من الإحساس بالمتاهة ، و
مزج ذلك مع طبيعة شخصياته و مستوى الاضاءة عليها كإنعكاس للحالة النفسية المتولدة ، شخصية جين على
سبيل المثال هي البعد الرومانسي للحكاية و التي تُكسر من أجلها الشروط البصرية
التي تحكم العمل ، وجودها في الحكاية ناعمٌ جداً كما هو حال منزلها لطيف التصميم و
اللون الوردي الذي يختص بها وحدها على خلاف ألوان الفيلم التقليدية في النسخة المصبوغة (السيبيا و الأزرق التقليديين لتفسير إضاءة المشهد أو إعتامه)، ماكياج سيزار بالمقابل يضع الكثير من
السواد حول عينيه للتعبير عن فترة نومه الطويلة ، لا تحاول الكاميرا التقاطه في
لقطاتٍ مقربة كتعبيرٍ عن ابتعاد النص عن محاولة الإقتراب منه نفسياً لأنه ليس عمق
الحكاية ، سيزار ليس وحش فرانكنشتين ، هو كابوس صنعه كاليغاري من خلال التلاعب
بطبيعته ، مشكلته مع كاليغاري كانت (العبث بطبيعته) ، بينما وحش فرانكنشتين كان وحشاً بطبيعته ،
مشكلته مع الدكتور فرانكنشتين هي (وجوده) بحد ذاته ، لذلك تأخذ قصة فرانكنشتين منحىً أكثر
انسانية و يأسر الوحش اهتمامنا هناك ، بينما يستولي الصانع ذاته على الحكاية هنا ،
هذا التفصيل يغذَّى بصرياً بصورةٍ مسرفة ، تستلذ الصورة بإلتقاط كاليغاري
، حركته البطيئة المتدحرجة ، خبثه ، نظرات عينيه ، ضحكته ، بينما لا يبقى في
ذاكرتنا من سيزار سوى الصورة الكابوسية له برداءه الأسود و جسمه الرفيع .
هذا فيلمٌ عظيمٌ و ثوريٌ و سابقٌ لزمانه ، في ساعةٍ و ربع قدم للسينما (الحكاية
المؤطرة) و (السرد من خلال الفلاش باك) و (التويست إند) و استخدم تخمة الصورة و
حديتها للتعبير عن مضمون الحكاية بدلاً من مجرد سردها ، نجاحه كان بالغ الأثر على طقوس فيلم النوار ،
تماماً كما كان بالغ الأهمية على طابورٍ من صناع السينما تأثروا به و استلهموا
عناصر عظمته ، إبتداءً عند مورناو و إنتهاءً عند تيم بيرتن .
التقييم من 10 : 10
0 تعليقات:
إرسال تعليق