كتب : عماد العذري
بطولة : كلارك غيبل ، كلوديت كولبير
إخراج : فرانك كابرا
عندما يتذكر المهتمون هذا الفيلم يتذكرون أهميته و قيمته و أثره
البالغ في ترسيخ السكروبول كوميدي (أو سينما الحماقات و التهريج) التي كان أول من
وضع الملامح المكتملة لها استناداً لعمليةٍ تراكميةٍ بدأت بكوميديات فجر السينما
الأول و استندت في خطوطها العريضة لملاهي ويليام شكسبير التي تأثرت بصورةٍ أو
بأخرى بالأدب الإغريقي القديم !
طريقٌ طويل مرت به الكوميديا حتى ظهور السكروبول كوميدي
على شاشة السينما ، و بالرغم من هذا الطريق الطويل إلا أن الشرارة التي جعلت هذه
النوعية من الأعمال واقعاً ملموساً ملأ الشاشة الهوليوودية لعقدين من الزمان كان
الكساد الكبير الذي ضرب أميركا في الثلاثينيات ، في تلك الحقبة من المعاناة
المادية لشرائح واسعةٍ من الشعب عانت السينما كثيراً من أجل جلب المشاهدين إلى دور
العرض ، كان على الستوديوهات أن تفكر خارج الصندوق ، و لم يكن انسب لذلك من
الكوميديا ، كانت الكوميديا على مدار العصور وسيلةً مثاليةً لينسى الشارع همومه ،
أو يضحك عليها ، السكروبول حررت الكوميديا حتى من ذلك ، و بالرغم من أن ملامحها بدأت
في التشكل مطلع الثلاثينيات إلا أنها تدين لهذا الفيلم تحديداً بتحولها إلى نوعٍ
سينمائيٍ مكتمل الأركان و الملامح .
نص الفيلم كتبه فرانك كابرا و روبرت ريسكن عن قصةٍ قصيرةٍ لصموئيل هوبكنز آدامز ،
يحكي حكايةً عن إيلي أندروز ، الفتاة المدللة و إبنة أحد أثرياء أميركا التي توشك على
الزواج رغماً عنه من طيارٍ وصوليٍ وسيم ، لمنعها من ذلك يحتجزها والدها على متن
يخته لكنها تفر منه سباحةً و تأخذ أول حافلةٍ إلى نيويورك للقاء حبيبها ، في
الحافلة تتقاسم المقعد – بعد جدالٍ طويل – مع مراسلٍ صحفيٍ يدعى بيتر وارن
سرعان ما يكتشف حقيقتها ليعقد معها صفقته الصحفية الأهم .
الحكاية بحد ذاتها كافيةٌ لتفسير قولنا أن السكروبول تدين لهذا الفيلم ، كابرا
وضع في هذا العمل اسس نوعٍ مختلفٍ تماماً من الكوميديا قائمٍ في حكايته المحور على
علاقة إمرأةٍ برجل خارج السياق التقليدي للقصة العاطفية ، تقوم هذه العلاقة على
تحدي المفهوم السائد للذكورة فتشبع بعددٍ من المشاحنات و التحديات و الخدع و روح
الدعابة على طول الخط ، محرك هذه العلاقة يقوم في أغلب الحالات على زواجٍ تم / سيتم
/ لم يتم / لن يتم ، على هامش الحكاية المحورية هناك شخصياتٌ ثانويةٌ تشبه
شخصيات الأفلام النوار تحرّك إثارة الحدث كلما فترت ، و هناك الكثير من المفارقات
الغريبة و سوء الفهم و التلاعب اللفظي و بديهة الرد ، و بالتأكيد رشةٌ من النقد
المجتمعي هدفه مغازلة الجمهور الراغب بتوجيه بعض الإنتقادات لحياة الطبقة الغنية ،
كابرا جمع كل ذلك و وضعه في فيلمٍ حوّله فوزه بالأوسكارات الخمسة الرئيسية – الأول
بين ثلاثة أفلامٍ فعلتها – إلى نوعٍ سينمائيٍ قائمٍ بذاته سرعان ما قدم للسينما
كلاسيكيات My Man Godfrey و The Philadelphia Story و Bringing Up Baby و His Girl Friday ، و مع ذلك لا أميل
لإعتبار هذا الفيلم أعظم أفلام النوع كما يرى البعض ، برأيي أن السكروبول
كوميدي بقدر ما دان له بالإنطلاقة إلا أنه استفاد كثيراً من اعمال مخرجين
كثر تعاقبوا على النوع و أغنوه ، تدفق الحكاية معهم أصبح أفضل و أكثر تكثيفاً و
تخلصاً من الثانويات ، زاد التركيز على مواطن القوة مثل سرعة البديهة الحوارية و
الغنى بالتفاصيل التي تُترك للمشاهد لإلتقاطها ، و خفف من نقاط الضعف كفتور
الإيقاع أو سير الحدث كما ينتظره الجمهور .
في العمق ترتكز المشاحنات التي يقدمها نص كابرا و ريسكن هنا لأبعادٍ
نفسية : الإعتقاد المستمر بأننا على صواب / حس الإضطهاد الذي نعانيه من الآخرين في
قراراتنا المصيرية / أزلية التمسك بالرأي الآتية من اعتقادنا الدائم أننا نعرف كل
شيء عن أي شيء / و بالتأكيد الفجوة غير المدركة بين العقل و العاطفة ، الفيلم
يستند في مشاحنات حكايته لتلك الابعاد سردياً ، لكنه لا يقدم معالجةً لها كأفكار
تستحق البناء عليها ، و بالرغم من أن ذلك يفقده ميزة الحصول على (نصٍ ثانويٍ) قوي
يجعله أغنى و أكثر ديمومة لكنه يجنبه الإضرار بطبيعته ككوميديا رومانسية ، و هذا
بحد ذاته اصبح شبيهاً بالقالب الذي استمرت عليه السكروبول كوميدي من بعده ،
النص يكثف تلك المشاحنات لصناعة سلسلةٍ متواليةٍ من المفارقات تغني كوميديته بصورةٍ
فعالةٍ و من الصعوبة جداً إنكارها ، يقر كابرا هنا بشكل واضح أنه ليس مخرجاً
نخبوياً و لا يحب أن يتخلى عن المفهوم التقليدي للحكاية الشعبية في عصره – بالرغم
من أنه فعل ذلك بعظمة في It's a Wonderful Life – لذلك لا يُحمّل
حكايته أكبر مما يستطيع – و ليس أكبر مما تحتمل – يترك الكوميديا تتسيد الموقف ،
يغازل ولع الجمهور برؤية نسخةٍ معاصرةٍ من (ترويض الشرسة) خصوصاً عندما لا
تنتمي تلك الشرسة للطبقة التي طحنها الكساد الكبير ، و لا يتوانى عن نثر تلميحاتٍ
واضحةٍ عن الجوع و تقلص فرص العمل و التباين الطبقي ليؤكد صورته كفيلمٍ ينتمي
لحقبته .
و بالرغم من فعالية ذلك إلا أن النص يعاني من مشكلةٍ في الإنجذاب
العاطفي الذي يحكم شخصيتيه ، و الذي لا يكون متسقاً تماماً مع إيقاع الحكاية ،
فيأتي مندفعاً و غير مؤقتٍ بصورةٍ دقيقة ، لذلك لا تروقني الكيفية التي يحصل بها اعتراف
إيلي
بحبها لبيتر
و أجدها خارج السياق ، علاوةً على أن تلك الجزئية تكتمل بأن تسير الحكاية كما
يريدها المشاهد تماماً فتتخلى إيلي عن زواجها في اللحظة الأخيرة ، و هو تفصيلٌ
تحول إلى ما يشبه التقليد لدى أفلام هذا النوع ، لكن نخبتها استطاعت أن تجعله
منطقياً و مبرراً بصورةٍ أفضل عندما يحدث .
خفة الحكاية على هذا الصعيد يعوضها العمل الإخراجي لكابرا الذي عانى
مشاكل عديدة كانت ستزيد لو لم يطلق الفيلم قبل خمسة أشهرٍ فقط على قانون هايز ، رُفِض
الدوران الرئيسيان في الفيلم من قبل عددٍ كبيرٍ من نجوم هوليوود حينها مما دفع كولومبيا
بيكتشرز لإستعارة كلارك غيبل من MGM و كلوديت كولبير
من بارامونت
، كلا النجمين لم يكونا راضيين عن النص ، و لم يكونا راضيين عن بعضهما البعض ، بل
أن كولبير
اعتبرته لاحقاً أسوأ فيلم قامت ببطولته و حزمت حقائبها للسفر في اجازةٍ يوم حفل
الأوسكار لدرجةٍ دفعت القيمين على الحفل لإحضارها بحقيبتها من محطة القطار لتتسلم
جائزتها ، ربما هي أسوأ الظروف الممكنة لتنتج عملاً كوميدياً ، لكن كابرا فعل ، صحيح
أن الرجل لا يقدم الجديد مطلقاً على صعيد التكنيك الإخراجي – و لا يمكن وصف أي سكروبول كوميدي
بأنها فعلت – لكنه يعوّض ذلك من خلال إخراج افضل ما لدى غيبل و كولبير ،
ساير غطرستهم و نجوميتهم و نفورهم من بعضهم و استغلها لصالح حكايته عن شخصين
متنافرين ، يكفي ان تعلم انه ابتكر (أسوار أريحا) مثلاً للإلتفاف على رفض كولبير
خلع ملابسها في المشهد ! ، كابرا تفهّم بشكلٍ ممتاز كاريزما بطليه و جاذبيتهم
فجعلهم مرجع الإهتمام عندما يفتر الحدث ، تلك الكاريزما هي من تجعل الحكاية تسير
بسلاسة عندما لا تكون كذلك على الورق ، تدفعها بلطف نحو الأمام و دون شعورٍ
بالإبتذال حتى عند الشعور بخفة الحكاية ، هذا برأيي هو ما جعل كوميديا الفيلم
مقاومةً للزمن ، دائماً يتغيّر ما يضحك الناس بمرور الزمن و هذا ما يجعل الكوميديا
أكثر الأصناف صعوبةً في القدرة على الصمود ، كوميديا هذا الفيلم صمدت بقوة و بلغت
عامها الثمانين الآن ، من السخرية و العبث – في سكروبول كوميدي تقوم على
السخرية و العبث – أن هذا الفيلم كان عملاً سينمائياً مفضلاً لديكتاتورين مثل هتلر و ستالين !
التقييم من 10 : 8.5
0 تعليقات:
إرسال تعليق