كتب : عماد العذري
بطولة : جون ميلز ، ألك غينيس
، أنتوني واغر
إخراج : ديفيد لين
على مدار تاريخ السينما كان الأدب هو المعضلة
الأبرز ، المزايا التي وفرها كوسيط واستطاع من خلالها التعاملَ مع الجمهور في الموضع ذاته
الذي عجزت السينما عن التعامل معه ، لذلك أصبح من الملفت الحصول على اقتباسٍ سينمائيٍ
جيد لعملٍ أدبيٍ مهم ، ميزة الإقتباسات العظيمة أنها قادرة على إثبات قيمتها بمفردها
حتى لعشاق العمل الأدبي مهما كان كلاسيكياً و معروفاً ، هذا الفيلم يفعل ذلك .
على مدار ستة أسابيع صوّر ديفيد لين خامس
أفلامه مباشرةً بعد النجاح الكبير لرائعته Brief Encounter مقتبساً كلاسيكية تشارلز ديكنز أو على وجه
الدقة مقتبساً المسرحية الناجحة المقتبسة عنها و التي لاقت رواجاً كبيراً عند عرضها
في بريطانيا في تلك الفترة ، و هو توجهٌ يبدو غريباً اليوم بالنظر لحقيقة أن ديفيد لين كان
بعيداً كل البعد عن الأدب الديكنزي طوال حياته الخاصة ، غرابةٌ تزداد عندما يتبع الرجل
نجاحه في هذا الفيلم بنجاحٍ آخر مع ديكنز في Oliver Twist بعد عامين ، الشيء الوحيد غير
المستغرب هنا أن ديفيد لين كان عظيماً في النصف الأول - أيضاً - من مسيرته التي انحرفت في
نصفها الثاني نحو تقديم الملاحم السينمائية الفخمة التي ارتبطت بإسمه حتى اليوم .
الحكاية – كما يعرفها قراء العمل الأدبي – تأخذ
منظور الراوي ، بيب ، فتى من أسرةٍ متواضعةٍ تعيش في روتشستر ، يحظى بيب في
طفولته برعاية أرملةٍ غامضةٍ تدعى السيدة هافيشام و سرعان ما يقع بحب ربيبتها الجميلة إستيلا التي لا
توليه اهتماماً ، في سن الرابعة عشرة يعود بيب إلى عائلته ليتعلم الحدادة قبل أن ينتقل إلى لندن – بمكرمةٍ
من شخصٍ مجهول – لينال العلم و المعرفة و يصبح جنتلماناً .
قيمة هذا الإقتباس أنه يعيد تشكيل الصورة التي يفترض
أننا شكلناها للرواية ، ليس على صعيد السرد أو الحدث و إنما على صعيد الشكل و التكثيف
، يرسل منظور الراوي إلى الخلفية حتى لا يكاد المشاهد يشعر بوجوده ، و
يخفف من حدة الطابع الديكنزي للسرد و القائم دائماً على العاطفة و الميلودراما و حيث
يتحرك الحدث أحياناً بناءً على مصادفاتٍ غريبة و تفاصيل عابرة ، لا يزيل النص هذه الجزئية
لكنها لا تعود صارخةً كما هي لدى ديكنز ، و في الوقت ذاته هو يضع النقد المجتمعي المعتاد في أدب
ديكنز في الخلفية البعيدة للحدث و يكثف عمله على دراسة التغيرات
التي تصيب شخصية بيب المنتقلة من تواضع المنشأ و بساطة الريف إلى بريق المستقبل
و أضواء المدينة موازنةً فيها بين إرث الأول و أثر الثاني .
أعظم ما في هذا الإقتباس هو تخلصه المدروس من الحبكات
الثانوية دون أن يقطع صلاتها بالحكاية الرئيسية مخلفاً فراغاتٍ تهز قيمته ، هذا فعال
بطريقةٍ لن يقدرها سوى قراء العمل الأدبي ، لذلك لن ترى من شخصيات هافيشام و إستيلا و ماغويتش و هربرت و جو و المحامي جاغرز
سوى الجزء الذي يغذي محور السرد السينمائي (بيب) ، العمل في جوهره
هو عن العلاقات الفطرية التي شكلناها ، نمت و كبرت معنا و كانت دائماً هناك في كل منعطفٍ
من حياتنا ، لا يفقد لين امساكه بهذه الجزئية أبداً ، تبقى محور مراقبته لبيب منذ البداية
و حتى الختام و من خلالها يرتبط بجو و هربرت و إستيلا و هافيشام ، كل ذلك يحركه الماضي دائماً ، تشعر بأن الماضي هو شخصيةٌ
إضافيةٌ في الفيلم منذ اللحظة الأولى لبيب في المقبرة ، يمنح لين للمشهد فعاليةً اضافية
من خلال الجو القوطي الذي يضفيه عليه ، لا يجعل المشاهد – خصوصاً ذلك الغريب عن الرواية
– يشعر بأنه مشهدٌ عابر أو افتتاحي ، الماضي هو روح العمل ككل ، لا يتورع عن التدخل
في جميع مفاصل حياتنا : علاقة بيب بماغويتش ، علاقة بيب بهافيشام و إستيلا ، مبارزة الأيدي التي تحولت إلى علاقةٍ صداقةٍ طويلةٍ بين
بيب و هربرت ، و حتى علاقة المجرمين ببعضهما ، وحدها علاقة بيب بزوج شقيقته
جو من كانت تحتاج لعنايةٍ خاصةٍ من النص ، حتى من منظور المشاهد
العادي الذي لم يقرأ العمل الأدبي تبدو العلاقة منقوصةً القيمة ، تلامس بخجل الأثر
الذي ولدته رعاية جو الطويلة لبيب و التطورات التي رافقت علاقتهما على مدار سنوات .
في العمق يقدم هذا الإقتباس في بيب شخصيةً حقيقيةً
من لحمٍ و دم ، فيها صدق الريف و نبل الإنسان الذي أنقذ محتاجاً ذات يوم و في الوقت
ذاته الرغبة المعجونة بالطموح تجاه أن يصبح سيداً محترماً له قيمته في المجتمع ، النص
يتعامل كما ارادت الرواية أن تتعامل مع روح بيب ، رحلتها الموزاييكية
، إيجابيتها الدائمة ، احساسها الذي لا يتوقف تجاه إستيلا ، و المكانة التي
تحتلها لدى السيدة هافيشام بكل جنونها و غموضها ، (من ناحية) هو يوظف
ذلك ليخدم قيمة الماضي في تشكيل الشخصية – أي شخصية – و الأثر الذي يخلفه
ارتباطنا الدائم به ، و معنى أن نمنح الماضي قيمةً تفوق وجوده كذكرى ، فيسيّر حاضرنا
و يستولي عليه ، و المشهد العظيم لفتح ستائر المنزل هو خلاصة الحكاية على هذا الصعيد
: نهاية عالمٍ بكامله استولى على منزل هافيشام لسنواتٍ طوال ، و
(من ناحيةٍ أخرى) يجيد التقاط التطورات التي طرأت على شخصية بيب بعناية و يقدمها
بشكلٍ جيد ، بيب يتغير تدريجياً تجاه ماضيه لكن دون رعونة لأنه فتى طيب في جوهره
، ينظر النص بعمق في شخصية بيب كما أراد العمل الأدبي أن يخبرنا : بيب لم يكن يحتاج
لهذه الرحلة الطويلة نحو المدينة ليصبح رجلاً و جنتلماناً ، لأنه رجلٌ منذ البداية
، ندرك منذ المشهد الإفتتاحي أنه شخصٌ يمكن الإعتماد عليه ، ربما يفتقد للمظهر الملائم
، لا يمارس سلوكيات السادة ، لا يمتلك المال الكافي للإنفاق على كل ذلك ، لكن النبل
يجري في دمه ، شكّل الماضي كل أوجه حياته ، لكنه بقي بيب الذي عرفناه في البداية
.
بذات العناية التي أدرك بها النص روح العمل الأدبي
يثبت ديفيد لين أنه مخرجٌ كبير وهو يسيّره ، ينجز هنا برأيي أفضل اقتباسٍ سينمائيٍ شاهدته للرواية و واحداً من أفضل الإقتباسات السينمائية عموماً ، يتحرك مع ديكنز في الأبعاد
الثلاثة (الزمانية و المكانية و النفسية) لشخصيته الرئيسية ، لا يحاول السير عكس المشترك
الذي تولّد في ذهن قارئ العمل الأدبي ، يدرك خصوبة الخيال الذي سيستقبل العمل المقروء
في ذهن كل متلقي فلا يتحداه ، يمسك بالشيء المشترك فقط ، ينجز بفضل العمل المقدر لمدير
التصوير غاي غرين و مدير الإخراج الفني جون برايان – و كلاهما
كرّم بالأوسكار – الحاضنة البصرية القادرة على جعل الأجواء و التطورات تبدو مألوفةً للقارئ (و هي ذات الجزئية
التي أقدرها أيضاً في فيلم جاك كونواي A
Tale of Two Cities)
، يمكن أن أستثني من ذلك مشهد المقبرة الإفتتاحي و مشاهد الذروة في قصر هافيشام التي تبدو
قطعةً من فيلم رعبٍ قوطي لأسبابٍ دراميةٍ جلية تخدم قيمة الاقتباس و تتفوق على ورق
الرواية .
يمكنني أن أضيف لمأخذي على الفيلم بخصوص علاقة
بيب و جو مأخذاً آخر يتعلق بالكاستنغ ، جون ميلز الذي من الصعب
الإلتفاف على حقيقة أنه كان في الأربعين و هو يؤدي دور بيب في التاسعة عشرة ، جودة
أداءه لا تلغي أن مظهره بحد ذاته يجعل الشخصية تبدو أكثر نضجاً مما يفترض خصوصاً و
أن النضوج بحد ذاته هو ركنٌ أساسيٌ في رحلتها الموزاييكية ، مشكلةٌ أخرى مع فاليري هوبسن التي
يُضرُّ بها أن تلعب الدور ذاته الذي لعبته جيان سيمونز في النصف الأول من الفيلم ، هوبسن – التي تؤدي
دور والدة استيلا كذلك – لا تستطيع منحنا ذات الأبعاد التي وضعتها سيمونز في شخصية
استيلا ، جيان سيمونز اختيار موفقٌ جداً من لين في الدور ، جمالها
و عجرفتها تبقيان معنا تماماً كما بقيت مع بيب و تطغى على صورة استيلا الكبيرة ، نفهم من خلال سيمونز لماذا أحبها بيب و تمسك بحبها
طوال تلك السنوات ، مثل سيمونز يملأ فرانسيس سوليفان دور المحامي جاغرز تماماً ، كتلةٌ من الصرامة و العملية مع ملمح قلبٍ
طيب يخفيه وراء الصورة ، مشهده وهو يحكي لبيب الحقيقة باقٍ معي على الدوام.
عام 1999 وضع معهد الفيلم البريطاني BFI هذا الفيلم خامساً ضمن أعظم
الأفلام البريطانية عبر العصور ، ثم في المرتبة الرابعة عشرة في استفتاءه اللاحق عام
2004 ، البعض يعتبر أن ديفيد لين بعد نجاح Oliver Twist كان يمكن أن يصبح بالنسبة لتشارلز ديكنز
ما كانه لورانس أوليفييه بالنسبة لويليام شكسبير ، لكن
ديفيد لين لم يستمر في ذلك المنحى و فضل البحث عن تحدياتٍ جديدة
تثبت عظمته الإخراجية ، وجدها بعد سنوات في الملاحم السينمائية التي صنعت عظمة شراكته
الطويلة – التي بدأت هنا – مع ممثله الأثير ، السير أليك غينيس .
التقييم من 10 : 9
0 تعليقات:
إرسال تعليق