كتب : عماد العذري
بطولة : إيتيان بيكير ، جان نيغروني
إخراج : كريس ماركر
بعد بضعة أعمالٍ وثائقية و عملٍ رسوميٍ قصير قرر كريس ماركر تقديم
عمله الروائي الأول و الذي أصبح مفخرته السينمائية لاحقاً. و بالرغم من أنه كان مشروع
فيلمٍ قصير إلا أن ذلك لم يتح له مع ذلك الحصول على الميزانية الكافية لإنتاجه. كل
ما حصل عليه كان كافياً لإستئجار كاميرا تصويرٍ سينمائيٍ لبضع ساعاتٍ فقط. التقط صورةً
متحركةً واحدة و قام بإنشاء بقية فيلمه بصورٍ التقطها بكاميرا فوتوغرافية. لكنه منح
السينما - بالرغم من ذلك - كلاسيكيةً تستحقها.
جاء الفيلم في ذروة الحرب الباردة
و في فترةٍ كانت فيها الموجة الفرنسية الجديدة حديث السينما في فرنسا. كان كريس ماركر يغرد
بمفرده بالرغم من علاقته الجيدة بمخرجي الموجة و اعتباره جزءاً مما عرف بـ (الضفة اليسرى)
رفقة آلن رينييه و آنييس فاردا و آخرين. مارس التجريب كثيراً و أطفأ ولعه السينمائي
– الذي جاء في الأساس من حسه الصحفي – من خلال وثائقياته الكثر التي جعلته ربما أبرز
مخرجي ما يعرف بـ (المقالة السينمائية) و التي تمزج التوثيق بالرؤية الشخصية مستثمرةً
التجريب السينمائي القائم على المونتاج .
في الفيلم يتتبع ماركر رجلاً مجهول الإسم يتحول إلى فأر تجارب في المستقبل القريب
بعد حربٍ عالميةٍ ثالثة. يخضع لعملياتٍ متكررةٍ في السفر عبر الزمن نحو الماضي و المستقبل
من أجل انقاذ الجنس البشري في الحاضر المظلم الذي يعيشه. لكن وقوعه في حب امرأةٍ غريبةٍ
شاهدها في ماضيه يجعل من التجربة شيئاً مختلفاً .
نص الفيلم فيه شيءٌ من روح كافكا ، التشاؤم و العبث و بعض العدمية. غير مهتمٍ في عمقه ببعد
الخيال العلمي و ان انتمى اليه تصنيفياً. لا يحاول تقديمه علمياً أو جعله منطقياً. نحن حتى لا نستوعب تماماً آلية السفر عبر الزمن التي يقدمها و التي تبدو ذهنيةً أكثر
من كونها جسدية كما هي عادة التعامل مع الفكرة. يقول شيئاً مهماً عن الذاكرة و قيمتها
في تكوين الإنسان ذاته. الذاكرة هنا هي خلاص بطلنا و موته في آن. هي ما يعيش بعد
كل شيء. هي الشيء الحقيقي الذي يبقى: غرفة نوم حقيقية ، أطفالٌ حقيقيون ، طيورٌ حقيقيةٌ
، قطط حقيقيةٌ ، مقابر حقيقية. الذكرى هنا هي صورةٌ حقيقيةٌ لشيءٍ حقيقيٍ يبقى معنا
و يشغل جزءاً من كياننا القائم على تسلسلٍ لا ينتهي من الذكريات. الذاكرة هي كل شيء
، مثل متحف الحيوانات القديمة الذي زاره مع امرأته. كل شيءٍ شاهده هناك كان حقيقياً
ذات يوم ، تماماً مثل تلك الصورة التي احتلت ذاكرته منذ طفولته و التي يبعثها من رمادها
في ختام الفيلم. هذه الحكاية بحد ذاتها تستطيع أن تفسر لنا مقدار التأثير الذي يمتلكه
الفيلم على عددٍ كبيرٍ من أفلام الخيال العلمي و على جميع الأفلام التي استلهمت فكرة
السفر عبر الزمن التي جاءت بعده. (الصورة / الذكرى) تكون على رصيف مطار أورلي في باريس قبل سنواتٍ
من اندلاع الحرب. صورةٌ من الطفولة لإمرأةٍ شاهدها بطلنا هناك. صورةٌ رفضت مغادرة
ذاكرته بعد كل تلك السنوات السوداء. لم يعد يعلم على وجه الدقة هل كانت صورةً حقيقيةً
أم شيئاً ابتدعه عقله رداً على كل ما شاهده. كل ما يتذكره هو وجهها و صراخ الناس على
رصيف المطار عندما شاهدوا أمامهم رجلاً مقتولاً. بطلنا يدرك في ختام الفيلم عندما
يقرر الإنتقال إلى الماضي – للبقاء بجوار المرأة التي أحب و التي لم تفارق صورتها ذاكرته
لسنوات – أن ذلك الرجل المقتول على الرصيف كان هو. قتل من قبل رجال الحاضر الذين جندوه
لمهمتهم العلمية. قتل في ذات اللحظة التي لم تفارق ذاكرته : وجه امرأة و هدير طائرات
و صراخ جموع و رجلٌ يهوي على الأرض. الحكاية متاهةٌ تأثرت بها معظم الأفلام التي تناولت
السفر عبر الزمن بعده. السفر الجسدي فيها يمنحها تعقيد ما عُرف بـ (معضلة الجد) والذي تناولته بعظمة أفلامٌ لاحقة مثل The
Terminator و Looper حيث ينتهي وجود البطل (بطريقةٍ أو بأخرى) في زمنٍ يسبق الزمن الذي وصل إليه فعلاً. و السفر الذهني فيها – و هي صورةٌ
واردةٌ مع عدم وجود دليلٍ ملموس على انتقالٍ جسدي - يجعله و كأنما يموت في ذاكرته!
قتلٌ لـ (الذكرى / الكينونة) كمدخلٍ لقتل الجسد ، قتلٌ للصورة الوحيدة التي
بقيت له ، و التي هي في الوقت ذاته صورة القتل ذاته !
و بالرغم من الاثر البالغ الذي خلفته الحكاية ورائها على صنف الخيال العلمي
كله. إلا أن العمل قائمٌ على المعالجة الاخراجية لكريس ماركر في المقام الأول. النص الذي كتبه لا يكاد يكون شيئاً ذا
قيمةٍ على الورق. ماركر يخرج منه أعظم ما فيه. يجرب ، لكنه ينتج عملاً من أسرع الأعمال
التجريبية ردماً للهوة بينه و الجمهور. يغمرك بالحكاية و الجو و النبرة لدرجةٍ تنسيك
في الواقع أنك تشاهد – على مدار 28 دقيقة كاملة – ألبوم صور ! ، لقطةٌ متحركةٌ واحدة
لإمرأةٍ تستيقظ من النوم ، لا حوار حقيقي ، همساتٌ متناثرة بالألمانية و الفرنسية ،
و صوت راوي ، هذا كل ما احتاجه كريس ماركر ليصنع كلاسيكية. إحساسنا بالمراحل الزمنية الثلاث عظيم
و يفوق ما يمكن الحصول عليه بأدواتٍ كهذه. الحاضر مؤلم ، كابوسي ، مخنوق ، شيءٌ قادمٌ
من حقبة المقاومة ابان حكومة فيشي. و المستقبل يبدو قادماً من فانتازيات ما وراء المجرة. و الماضي حالمٌ ، منسل ، فيه كل ما نحب، و احساس اليوم الأخير فيه حقيقيٌ جداً و يصل
كما يراد له. الصورة التي يقدمها لنا ماركر تحكم احساسنا بذاكرة البطل ذاتها و رحلتها الإدراكية. سوداوية
الحاضر و جمود المستقبل يدفعانه – بصرياً – لإدراك قيمة الماضي الذي جذبه من خلال صورةٍ
حفرها في ذاكرته. مسألة الصور هنا و بالرغم من أنها حُكمت بالظروف الإنتاجية إلا أن
ماركر جعلها تضرب في صميم عمق الحكاية عن الذاكرة التي تقوم على
(صور). التعبير هنا عن المعنى من خلال صورٍ غير متصلةٍ بصرياً يجعله
يستفز عقل المشاهد لملء فراغات الإتساق البصري بين صورةٍ و أخرى لتشكيل المعنى المطلوب. شيءٌ مشابهٌ لتجربة بطله ذاتها حيث استفزاز العقل و الذاكرة لجعل (مجموعةٍ من الصور)
(تجربةً حقيقية ذات معنى). كان سيرجي إيزنشتين ليكون
سعيداً جداً لو امتد به العمر ليشاهده .
التقييم من 10 : 10
0 تعليقات:
إرسال تعليق