كتب : عماد العذري
بطولة : جيرار ديبارديو ، آن بروشيه ، فانسان بيريز
إخراج : جون بول رابينو
ذاكرتي مع سيرانو دو بيرجيراك تعود إلى مرحلةٍ مبكرةٍ جداً من عمري عندما
قرأت ترجمة المنفلوطي - و التي حملت إسم (الشاعر) - لمسرحية إدمون روستان
التي كتبها أواخر القرن التاسع عشر مستلهماً الحياة المثيرة لشاعر القرن السابع
عشر سيرانو دو بيرجيراك ، بطولاته و حماسته و شعره ، و بالطبع حبه
الموءود لإبنة عمه الحسناء ، روكسان .
كان من الطبيعي لاحقاً أن يكون الإقتباس السينمائي للمسرحية هدفاً لي ، و
هذا ما حدث أولاً مع النسخة التي جعلت خوسيه فيرير – عام 1950 - أول ممثلٍ اسباني يفوز بالأوسكار ، ثم ثانياً مع نسخة جيرار ديبارديو هذه التي كانت الإنتاج الأضخم في تاريخ السينما الفرنسية
في حينه و التي توّجت لاحقاً بعشر جوائز سيزار .
الحكاية بالطبع عن سيرانو دو بيرجيراك ، الشاعر و الفارس الباريسي ، مالئ الدنيا
و شاغل الناس ببطولاته و مغامراته و أشعاره ، و الذي يعيش - بالرغم من رومانسية و
عذوبة شعره - بعيداً عن أي رومانسية مكتملة بسبب أنفه الكبير ، سيرانو يذوب
حباً في ابنة عمه روكسان ، لكنه لا يجرؤ على البوح لها بذلك بسبب شكله وخوفاً من
رد فعلٍ قد يقتل قربهما الطبيعي من بعضهما ، خصوصاً عندما يكتشف أنها واقعةٌ في حب
كريستيان ، المجنّد الجديد في وحدته العسكرية .
هذا الفيلم ينتمي إلى نوعيةٍ من الأعمال السينمائية التي لا نشاهدها بكثرة
و باتت نادرةً بالفعل ، الدراما الرومانسية ذات المسحة الكوميدية التي تنتمي إلى عصرٍ ولى ، و هو صنفٌ
يقوم في خطوطه العريضة على سبر تعقيدات الحب من خلال المفارقات الغريبة و التطورات
غير المتوقعة التي ينسجها ، يذكي في المشاهد الحماس للبطلين ، و لقصة الحب المعقدة
، بذات المقدار الذي يوفر لهم الحميمية المطلوبة تجاه حقبةٍ مضت ، صنفٌ قدّم
للسينما أفلاماً قليلةً مهمة لعل أعظمها هي توليفة الحب ، و المرأة ، و العمل
المسرحي التي حققها بعظمة جون مادن في Shakespeare
in Love .
النص يكثف مجهوده في منحيين يصنعان القيمة الحقيقية لهذه الحكاية : ثنائية
(الجمال الداخلي و الخارجي) التي تناولتها السينما عبر تاريخها
الطويل بأكثر من معالجة ، و تيمة (فاقد الشيء الذي يعطيه) التي تمنح قصة الحب هذه بعدها
التراجيدي المؤلم .
في المنحى الأول لن نشاهد شيئاً على غرار (الجميلة و الوحش) ، الثنائية
تبدو مختلفة بعض الشيء هنا ، هي تنبع في جوهرها من الطريقة التي يتقبل بها دو بيرجيراك
نفسه ، طوال الحكاية لن يكون هناك النفور المفترض أو التعامل المختلف مع الهيئة
الخارجية لسيرانو ، على العكس يسرف النص في الثلث الأول منه في تقديم
صورةٍ براقةٍ لسيرانو ، الشاعر الملهم و الفارس المقدام ، مغامراته تملأ باريس ، و
الجميع ينظر إليه بإحترامٍ يليق به ، الوحش هنا يبدو شيئاً مزروعاً في سيرانو وحده ،
و يبدو عائقاً ذاتياً غير حقيقي خلقه الرجل لنفسه و أعاقه ليس فقط عن رؤية نفسه
قادراً على البوح بحبه لروكسان ، بل عن رؤية نفسه يليق بأي امرأة ، هذا الشيء يحققه
النص بسلاسة تستحق التقدير ، على مدار الحكاية يخفف النص من تأثير شكل سيرانو على
طريقة تعامل الآخرين معه دون أن يلغيه ، و يزيد بالمقابل من أثر ذات سيرانو على
صورة الوحش فيه ، الأمر الذي يمنطق إلى حدٍ بعيد من انكسار روكسان أمام
عاطفة سيرانو عندما تعلم حقيقته في الختام ، مخففاً بوضوح من التأثير
المسرحي لحكاية حبٍ بين فتاةٍ حسناء و رجلٍ قبيح المنظر .
في المنحى الثاني يستثمر النص بصورةٍ جيدةٍ أحياناً ، غير متزنةٍ في أحيانٍ
أخرى تيمة المسرحية الشهيرة عن الرجل الذي يقدّم لغيره ما عجز عن تقديمه لذاته ،
فاقد الشيء الذي يعطيه ، سيرانو الذي عجز هنا عن كسب حب ابنة عمه روكسان بسبب
مظهره ، فيسرق قلبها بأشعاره التي يقدمها على لسان محبوبها كريستيان ،
يبدو هذا لوهلة انتصاراً مهماً لروح سيرانو الذي يشعر ربما بالرضا عندما تفتن كلماته قلب من يحب ، روميو كان يقف
تحت شرفة جولييت ليعبر عن حبه وليس عن حب غيره ، بينما سيرانو - أسيراً
لعاطفته الهائلة لروكسان – يحقق لها السعادة التي تحب في سماع الكلام الذي تحب
من الشخص الذي تحب ، لكنه في في الوقت الذي كان يمنحها تلك السعادة كان ينتصر
لكلماته و لشعره ، كان يشعر إلى اي حدٍ هو قادرٌ على الظفر بها لو علمت ، كل
رسالةٍ كانت تمده بالمزيد من التحدي نحو رسالةٍ أخرى ، كان يحاول من خلال الرسائل
التي لا تمثله التعويض عن الوجه الذي يمثله ، مرتدياً الزي الذي يحبه ، زي الفارس
الشاعر ، يضرب عمق النص في صميم الحب ، البحث عن سعادة الآخر ، الهوس تجاه سعادة
الآخر ، حتى و إن كانت من خلال طرفٍ ثالث ، أن يفعل كل هذا دون أن يدرك المحبوب
شيئاً ، لكن هذا سرعان ما يصنع الوتر التراجيدي للحكاية : اكتشاف سيرانو مقدار
ما ضربت أشعاره روح روكسان و عقلها ، مقدار ما أسرت رقة كلماتها فؤادها و أسرت
لبها ، شعورٌ هو مزيجٌ من الضعف و العجز و الإستياء ، القدرة على الإنجاز من خلال
الآخر ما عجز عن انجازه من خلال ذاته ، قيمة روحه و كلماته في أسر محبوبته من خلال
جسد شخصٍ آخر ، مقاربة كوميدية / تراجيدية لخلطة الحب السرية التي تمزج الكيان المادي
للمحبوب بالكيان الروحي له .
بالمقابل ، و بأخلاق الفرسان ذاتها ، لا يظهر كريستيان بمظهر الرجل
المستغِل ، هو نفسه يتمرد على الحال ، ربما يشعر بالقرف من نفسه ، بالقرف من عجز
روحه عن الإرتقاء إلى قيمة وسامته لدى روكسان ، هذا يغني الحكاية و يدعم جديته في ظل مسحة الهزل التي
تكسو الحدث أحياناً ، و الفيلم يقف في تقديم ذلك على شفا اهتزازٍ بسيط بين أن يكون
عملاً رومانسياً عظيماً أو كوميديا مبتذلة ، و رابينو يبقيه بإتزان
في الموقع الأول إلى حدٍ بعيد ، يحاول ألا يسمح لأي بعدٍ كوميديٍ للحكاية أن
يتمادى أكثر من اللازم ، و أجمل ما فعله النص على هذا الصعيد هو صناعته لعالمٍ
جذاب لسيرانو بعيداً عن روكسان ، و بالتالي تحصين العمل ككل من محورية قصةٍ حبٍ غير مكتملةٍ
فيه ، يحدث هذا من خلال تطعيم محور الحكاية - عن قصة حبٍ بين شاعرٍ ذو أنفٍ ضخم و
إبنة عمه الحسناء التي تحب شخصاً آخر - بالكثير من الأحداث الثانوية الممتلئة ،
منذ المشاهد الإفتتاحي لسيرانو في المسرح ، مروراً بحادثة قتاله لمائة رجل ، وصولاً
إلى مرحلة ذهابه إلى الحرب ، دائماً هناك أحداث ثانويةٌ تستحوذ على الصورة لمنحها
توازنها الدرامي ، و هي أحداثٌ سخر لها رابينو فخامةً بصريةً لا تخطئها العين ، يعيد تشكيل ملامح
الحقبة الزمنية لباريس القرن السابع عشر ، و يمنح كل حدثٍ ثانويٍ الإيقاع الملائم
الذي يجعله يبدو مفصلياً ، و هو مسعى بالرغم من وضوحه إلا أنه يقع أحياناً فريسةً
للهزل الذي يخل من ايقاع الحدث ، و أحياناً أخرى فريسةً لمسرحية الأصل الأدبي التي
لا يستطيع رابينو التجرد منها تماماً خصوصاً في مشاهد المواجهات الثنائية
، دون إغفال الإحساس المحدود بالزمن الذي لا يتمكن رابينو من ضبطه كما
يجب حارماً العمل من ملحميةٍ تليق بسنوات أحداثه الطوال .
مع ذلك تتفوق اللحظات الرومانسية على كل شيء ، مشاهد روكسان مع سيرانو
معمولةٌ فعلاً ، كأنها مختلفة الإيقاع و خارجةٌ عن كل شيءٍ آخر يحيط بها ، مشاهدة سيرانو يناجي روكسان أسفل
شرفتها منتحلاً شخصية كريستيان ، و مشاهدة رجلٍ يستحوذ على قلب امرأةٍ تقف أمامه دون
أن تدري و دون أن يتمكن من اخبارها بذلك ، كل شيءٍ بين سيرانو و روكسان يبدو
مختلف الإيقاع و هو شيءٌ يضرب في صميم شخصية سيرانو ، الفارس
المغوار و المجادل الحذق ، و التي تتحول إلى شيءٍ مفرط العذوبة عندما يتعلق الأمر بروكسان ، هذا
التفصيل يدعمه أداءٌ صلب من جيرار ديبارديو (الذي نال هنا جائزة أفضل ممثل في كان ، كما فاز
بالسيزار و رشح للأوسكار) ، ديبارديو عظيمٌ في الدور أكثر مما قد يبدو لوهلة ، يستحوذ على
الشاشة تماماً و يجعل كل شيءٍ يدور في فلك سيرانو إلى الدرجة التي قد يجعل بها الحدث ثانوياً بالمقارنة
مع ما يقوم به هو ، ثم – و بإنسيابية مدهشة - يروض كاريزماه و انفعالاته و ثورانه
المستمر عندما تحين لحظة الحب ، فيستحيل كائناً مختلفاً و راهباً في محراب روكسان في
أداءٍ مدروس من ممثلٍ كبير .
شخصياً أفضل هذه النسخة كثيراً على نسخة خوسيه فيرير ، بهجةٌ
شعريةٌ و بصريةٌ محترمة ، موزاييك من حقبةٍ جميلةٍ كان فيها للحب و الشعر و
الفروسية و البطولة قيمةٌ مختلفةٌ ، و مثالٌ يستحق التقدير و التنويه للإقتباس
الأدبي اللائق ، كل شيءٍ يصل في مكانه بالرغم من صعوبة تحقيق التوازن فيه : الدراما
، و الرومانس ، و تطور الحكاية ، و الكوميديا ، و الشعر ، و بالتأكيد الكثير من جيرار ديبارديو
.
التقييم
من 10 : 8.5
0 تعليقات:
إرسال تعليق