كتب : عماد العذري
بطولة : جان سيرفيه ، كارل مينر ،
روبرت مانويل
إخراج : جولز داسن
يقول فرانسوا تروفو (عن واحدةٍ من أسوأ
روايات الجريمة التي قرأتها على الإطلاق ، صنع جولز داسن أفضل فيلم جريمةٍ شاهدته
على الإطلاق) ، تبدو هذه العبارة أبسط جزءٍ من معادلة
الظروف التي رافقت عمل جولز داسن على أول أفلامه خارج الولايات المتحدة التي غادرها بعد معاناةٍ مريرةٍ مع قائمة
المكارثية السوداء .
قبل هذا الفيلم بخمس سنواتٍ كاملة كان آخر أعمال جولز داسن لستوديو هوليوودي ، Night and the City ، و مع تحول عمله في هوليوود إلى جحيمٍ حقيقي
بوضع اسمه على القائمة السوداء ، أصبح خيار الرحيل خارج أميركا فعالاً أمام داسن الذي سرعان ما حققه دون أن ينال ما كان يأمله ، استمرت الضغوط الأمريكية
على كافة أسماء القائمة السوداء التي غادرت البلاد ، الأمر الذي أعاق داسن من الحصول على فرصةٍ إخراجيةٍ حقيقيةٍ في فرنسا لأكثر من ثلاثة أعوام ،
لكن الأمور أحياناً تسير بطريقةٍ مختلفةٍ عن أي خططٍ أو نوايا ، كان جولز داسن يكره هذه الرواية التي قيل حينها بأنها جاهزةٌ لتكون عمل جان بيير ميلفيل المقبل ، لكن كاتب الرواية أوغست لو بريتون ومنتجيها اقترحوا – بمباركةٍ من ميلفيل نفسه – اسم جولز داسن ليقوم بإخراجها ، ربما – كما قيل – لتجنب نارٍ عنصريةٍ على وشك الإشتعال
في حال تناول مخرجٍ فرنسيٍ لشخصية مجرمين من أصولٍ عربية كما تحكي الرواية في
الأساس مقترحين أن يقوم داسن بإخراجها بشخصياتٍ أمريكيةٍ و مذاقٍ أمريكي ،
جولز داسن لم يحبذ الفكرة علاوةً على كونه يمقت الرواية ، لكنه كان يبحث عن عمل ، أعاد
داسن صياغة العمل الأدبي كليةً مقدماً شخصياتٍ
فرنسيةٍ إعتيادية وسط تفاؤلٍ حذرٍ حول أولى تجارب الرجل في أوروبا ، ميزانية
الفيلم كانت شديدة التواضع ، و ظروف العمل كانت سيئة ، و أبطال العمل جاءوا جميعهم
من الظل ، لكن داسن صنع من كل تلك الظروف السوداء مفاجأةً حقيقية ، نال الفيلم إستقبالاً
نقدياً و جماهيرياً ملفتاً ، كسر القضبان الموضوعة على أسماء القائمة السوداء لأول
مرة ، و منح جائزة أفضل إخراج من مهرجان كان في أولى دورات السعفة الذهبية ، و حقق ما يميل الكثيرون لإعتباره : أعظم أفلام السطو على
الإطلاق !
الحكاية عن مجرمٍ سابقٍ يدعى توني يحصل على اطلاق سراحه بعد خمس سنواتٍ قضاها في السجن ، يعود إلى بيئته
القديمة من أجل لملمة ما تبقى من حياته ، حيث صديقه القديم جو الذي يحاول إعادته مجدداً إلى مسرح العمليات من خلال ضربةٍ مدروسةٍ لمتجر
مجوهراتٍ أعدها صديقه ماريو و سينفذها معهم سيزار ، لص الخزائن الإيطالي البارع ، ضربةٌ سيقتسم معها أربعتهم 240 مليون فرنك
!
هذا الفيلم ضربة معلّمٍ بكل ما في الكلمة من معنى ، صحيح أنه لم يكن في
ملامحه العامة أصيلاً بما يتناسب مع المجد الذي حققه لاحقاً و من السهولة ملاحظة
التقاطعات الكبيرة بينه و فيلم جون هيوستن The Asphalt Jungle
، إلا أن الكيفية التي أعاد من خلالها هذا النص تعريف فيلم السطو من جديد كانت
عظيمةً و فائقة الجودة جعلته مفخرة النوع و أكثر أفلامه تذكراً ، حقق فيلم النوار
الفرنسي في الواقع بداياته خلال العقد الذي سبق هذا الفيلم من خلال أعمال هنري جورج كلوزو و جاك بيكر ، لكنه من خلال هذا الفيلم و أفلام ميلفيل الخمسة استطاع أن يفرض وجوده ككيانٍ حقيقيٍ يتجاوز فكرة ملء فراغٍ
إفتراضيٍ في السينما الفرنسية فصل بين الواقعية الشعرية و الموجة الفرنسية
الجديدة ، أصبح لأفلام الجريمة الفرنسية منتصف
الخمسينيات مذاقها الخاص و جمهورها و مريدوها ، و فيلم جولز داسن تحديداً كان بالغ الأثر في ذلك ، رسّخ صورةً
عظيمة طبعت السواد الأعظم من أفلام السطو التي جاءت بعده على مدار ستة عقود :
تجميع المجرمين وفق الإختصاص ، و المراقبة الدقيقة لموقع الجريمة ، ثم رسم خطةٍ
محكمةٍ شديدة الإهتمام بالتفاصيل و التوقيت و كأنك في جريمةٍ حقيقية ، كان ذلك قبله
مجرد ملامحٍ لمحاولات ، و صار بعده قالباً جاهزاً لمن أراد أن يطرق باب هذه
النوعية من الأفلام !
تركيبة النص قائمةٌ على الحركات الثلاث التقليدية و هي جزئيةٌ قد لا تمنح
الفيلم أي خصوصيةٍ أو تميز ، لكن خصوصية الفيلم و عظمته تأتي من التفاصيل التي
يثبت جولز داسن مرةً تلو أخرى أنه مولعٌ بها ، هذه التفاصيل تجعل من كل حركةٍ من الحركات
الثلاث (ما قبل العملية ، العملية ، ما بعد العملية) شيئاً عظيماً و قائماً بذاته
، و هذه التفاصيل تتغلب برأيي على الصورة النمطية المتوقعة من فيلم جريمةٍ عن
مجموعةٍ من الرجال يخططون لأمرٍ ما ، و جزءٌ مهمٌ منها آتٍ من غنى الشخصيات الذي
يبدو حقيقياً و لا يعطي المشاهد أي احساسٍ بالزيف أو التصنع ، شخصيات الفيلم مشبعة
قياساً لمساحاتها ، من السهولة أن تتخيل كيف يعيشون خارج الحكاية : المجرم الذي
انهارت حياته بإيداعه السجن و خرج يحاول استعادتها دون أن يكون لديه ما يخسره ، و
رجل العائلة الملتزم الذي يحاول تأمين حياةٍ أفضل لإبنه و زوجته و بالتالي فهو
لديه ما يخسره ، و رجل البهجة الذي يعيش حياةً رومانسيةً لاهبةً مع عشيقة قد
يتزوجها ، و زير نساءٍ إيطالي يعشق البارات و النساء الحسناوات ، لكلٍ منهم عالمه
الذي لا نرى منه إلا النزر اليسير لكننا نستطيع أن نتخيله و نتفهمه و نتآلف مع
شخصياته .
محور العمل ، و أعظم ما فيه ، هي عملية السطو ذاتها ، قطعةٌ سينمائيةٌ
فريدة تستمر لأكثر من نصف ساعة ، دون حوارٍ أو موسيقى ، يثبت فيها داسن مجدداً – بعد مشهد المصارعة المطوّل و الفاتن في Night and the City – أنه لا أفضل لإقناع المشاهد بما يجري من غمره تماماً فيما يجري ! ، فريقٌ
يتحرك في الظلام ، دون كلمة ، و ينفذ عمليته بإحترافيةٍ عاليةٍ لا يدّعيها جولز داسن و انما يدعونا لنراها بأعيننا و نكون شاهدين عليها ، نصف ساعةٍ مخططةٍ
بدقة كما هي خطة السطو ذاتها ، مغريةٌ جداً للمشاهد للدرجة التي قد يتناسى في
غمرتها أنه لم يستمع لجملةٍ حواريةٍ أو لضربةٍ موسيقية منذ نصف ساعة ، هذا المشهد ،
الكلاسيكي جداً ، و الذي هو روح هذا الفيلم و أخلد ما بقي منه ، ألهم عدداً من
عمليات السطو الحقيقية حول العالم و تحوّل إلى ما يشبه القالب الجاهز لأفلام سطوٍ
مماثلة تبارت فيما بينها لتصوير تفاصيل العمليات الإجرامية و دقتها تاركةً الريادة
لفيلم جولز داسن هذا .
بعد ذلك - و في إيقاعٍ يستحق الدراسة يوازي في حذره و دقته دقة العملية
ذاتها - ينزلق الفيلم بطريقةٍ فاتنة من إنتصار الرفاق بنهاية الحركة الثانية إلى
مأساويةٍ ما سيتعرضون له بنهاية الحركة الثالثة ، تعمّد جولز داسن ابتكار وتر وشايةٍ في الحكاية بطله لص الخزائن الإيطالي سيزار (الذي لعب دوره داسن نفسه تحت إسمٍ مستعار هو بيرلو فيتا) كي يشير للمكارثية و للثمن الذي يستحقه أولئك الخونة من وجهة نظره ، هذه الحادثة في الفيلم
تكثف شيئاً من روح ما تعرض له داسن و تضرب في عمق العمل عن الضعف البشري ،
البسيط ، التافه ، الذي لا يكاد يذكر ، و قدرته الساحقة على تدمير كل شيءٍ في حياة
سيزار و رفاقه مهما بلغت روعته و دقة تنفيذه ، قبل أن يقود داسن أبطاله واحداً تلو الآخر إلى نهايةٍ أسطوريةٍ تبدو خارجةً من ملحمةٍ
إغريقية تحكي عبرةً عن ضعف إنسانيٍ فتاك صنع هالةً مأساويةً حول مصير الرفاق لا
نشاهدها عادةً بهذه القوة و الجمال في أفلامٍ مماثلة ، هالة تجعلهم يبدون ضحيةً
حقيقيةً قابلة للتعاطف و إثارة الأسى و تمنح صورة (رجلٍ جريحٍ يقود سيارةً
بطريقةٍ هستيريةٍ قبل أن يخلد للموت بينما يتجمع المارة و رجال الشرطة من حوله
تاركاً في الخلف طفلاً صغيراً و 120 مليون فرنك) مذاقاً ميثولوجياً لا يبارح الذاكرة .
التقييم
من 10 : 10
0 تعليقات:
إرسال تعليق