كتب : عماد العذري
بطولة : مويرا شيرار ، أنتون والبروك ، ماريوس غورينغ
إخراج : مايكل باول ، إيميريك بريسبيرغر
على مدار تاريخ السينما بقي من يحلو لعشاق السينما تسميتهم بـ(الماسترز)
الأكثر ألقاً وقيمةً وإثارة للجدل وقابليةً للدراسة. أولئك المخرجون الذين لم
يكتفوا فقط بأن كانوا وراء مجموعةٍ من نخبة ما جادت به علينا شاشة السينما بل
كانوا أيضاً بالغي الأثر في السينما التي جاءت من بعدهم ، لغتهم السينمائية
الفريدة وأثرهم الذي بقي مقترناً بأسمائهم وحدها. فورد و ويلز و وايلدر و كوروساوا و بيرغمان و فيلليني و تاركوفسكي و غودار و آخرين. بعيداً عن هؤلاء كانت شريحةٌ أخرى مهمةٌ من أولئك الماسترز ، ربما لم تقارعهم في
أثرهم ، لكنها خلفت ورائها الكلاسيكية تلو الأخرى ، بين هؤلاء تحديداً يكادُ يكون مايكل باول هو الأعظم !
بالنسبة للكثيرين – وأنا منهم – يُعدّ هذا العمل كلاسيكية مايكل باول
الأعظم والمفخرة الأهم للشراكة طويلة الأمد بينه و إيميريك
بريسبيرغر ، والتي حملت إسم The
Archers و أنتجت 24 عملاً. إثنان من ذوي اللحى الخمس (مارتن سكورسيزي و برايان دي بالما)
يعتبرونه واحداً من مفضلاتهم عبر العصور ! وفي الوقت الذي كان فيه باول
بالنسبة للكثيرين أهم مخرجٍ بريطانيٍ أنجز معظم انتاجاته في بلده ، كان هذا الفيلم
واحداً من مفاخر السينما البريطانية في سائر عصورها ، تماماً كما هي مرتبته
التاسعة على قائمة الـ BFI
الشهيرة التي وضعت لهذا الغرض .
عند عرضه رشح هذا الفيلم لخمس جوائز أوسكار وفاز بإثنتين. نال عاصفةً من
الثناء ، واحتفي به على وجه الخصوص بإعتباره المأثرة السينمائية الأهم التي تناولت مخاضات الخلق في عالم الباليه إلى الدرجة التي اقترن اسمه بها تماماً كما اقترنت في عالم الموسيقى
بفيلم Amadeus
! بقي لأربعة عقودٍ كاملة العمل البريطاني الأكثر نجاحاً في أميركا ، وبقيت
العلاقة السينمائية التي شكلها مع كلمة (باليه) جزءاً لا يتجزأ من الإرث العظيم الذي
تركه ومنحته خصوصيةً تتجاوز بوضوح قيمة حكايته وتأثيرها .
كتب إميريك بريسبيرغر المسودة الأولى لهذا النص في الثلاثينيات اقتباساً
لقصة الكاتب الدنماركي هانز كريستيان أندرسن التي حملت الإسم ذاته ، لكن ظروف الحرب
التي استمرت سبعة أعوامٍ أعاقت انتاج العمل ، قبل أن تعاد كتابته من جديد بأبعادٍ
ميلودراميةٍ رومانسية رفقة مايكل باول الذي شاركه في اخراج تسعة أفلامٍ منذ بدأ
زئير الحرب. تبدأ الحكاية بمتابعة جوليان كراستر، ملحنٌ شاب مكافح يحضر عرضاً
لفرقة باليه ليرمنتوڤ ويتعرف إلى مقطوعته (قلب النار) ضمن العرض الذي يقود أوركستراه
أستاذه البروفسور
بالمر ، وعندما يرسل رسالة احتجاج لمدير الفرقة بوريس ليرمنتوڤ يستأجره الأخير
لوضع لحنٍ جديد للباليه المقبل The Red
Shoes الذي تبدو الراقصة الجديدة فيكتوريا بَيج على وشك الظفر بدور البطولة الرئيسي
فيه .
بنظرة مفرطة البساطة يمكننا تقسيم هذا النص إلى الحركات الثلاث التقليدية ،
ولو فعلنا و راق لنا التعامل مع النص على هذا الأساس فإن الساعة والنصف الأولى
من الفيلم تقدم واحداً من أفضل الـ First Act في تاريخ السينما كله ! قبل عقدة الفيلم التي تمهد للحركة الثانية يضع
النص على مدى 90 دقيقة كل ما لديه على منضدة ويبدأ بترتيبها بحذرٍ شديد ، أو
بمعنى أدق يجعلها تبدو بأنها ترتّب ذاتها دون توجيه ! تنزلق بهدوء راسمةً ملامح
حكايةٍ تقليديةٍ عن فتاةٍ تسعى نحو القمة. ينسج النص شباك الشخصيات بهدوءٍ مستفز
محققاً First Act عظيم ونادر المثل وطويل
المدة أيضاً. في الجوهر المسألة أعقد من الحركات الثلاث التقليدية التي تبدو في
ظاهر النص .
في التفاصيل ، يتلاعب النص بمشاهده خلال الحركة الأولى. يجعلها في
البداية حكاية إثبات وجود لموسيقيٍ سُرق عمله ، نلحظ ذلك في صدمة جوليان كراستر
بما فعله أستاذه وسعيه لإثبات ذلك ، مقابلته مع ليرمنتوڤ ومحاولته الهزلية
الوصول إليه صبيحة أول أيام عمله لديه. وحكاية إثبات وجود لراقصةٍ موهوبةٍ تحاول
أن تعثر على فرصتها في أشهر فرق الباليه في البلاد والتي يديرها رجلٌ مليءٌ
بعجرفةٍ لا تستتر. بائسان وضعتهما الأقدار تحت سطوة شخصيةٍ بالغة الرهبة والغموض
والإختلاف منذ لحظات لقائنا الأول بها. نرى ليرمنتوڤ هناك في شرفة العرض ،
مختبئاً وراء ستار يدير من وراءه كل شيء ، رجلٌ لا يستطيع المجاملة في الفن حتى
على مستوى الإستماع لمعزوفة بيانو في حفل إمرأةٍ ثريةٍ تدعى السيدة نيستون
قدمها البروفسور
بالمر له كـ (داعمةٍ للفنون). ليرمنتوڤ منذ لقائنا الأول به
رجلٌ يسعى للكمال الفني ، الباليه بالنسبة له دينٌ أو عبادة كما يقول ، شخصيةٌ
بقدر رهافة الفن الذي تديره بقدر ما هي صعبةٌ و معقدةٌ جداً ، مهيبةٌ ومرموقة ومتعجرفةٌ وعمليةٌ وذكيةٌ ولئيمةٌ في آن ! ڤيكي في الطرف المقابل تختلف
عنه وتتلاقى به في الوقت ذاته ، شابةٌ أرستقراطيةٌ تقدر الفن ، تبقى مسمّرةً
بالعرض عندما يبدأ ، جميلةٌ وبسيطةٌ وقريبةٌ من القلب منذ اللحظة الأولى التي
نراها فيها تجلس هناك في الشرفة إلى جوار عمتها. في الحفل يسأل ليرمنتوڤ ڤيكي (لماذا
تريدين الرقص؟) ، فتجيب (لماذا تريد أن تعيش؟) يرد ليرمنتوڤ (حسناً أنا لا
أعرف بالضبط ، لكن عليّ ذلك) ، فتخبره ڤيكي (هذا هو جوابي أيضاً)! تجتمع
الشخصيتان عند ذلك الفعل I must ، ذلك هو دافعه لتوظيفها لاحقاً : الفتاة الحسناء التي (يجب) أن ترقص. باكراً
جداً نكتشف نقطة التلاقي التي جمعتهما ، عشقهما الهوسي لهذا الفن ، عشقهما المرتبط
بعبارة I must
و التي تجعل من الباليه المعنى الأبسط للحياة لديهما. ڤيكي اشتركت مع ليرمنتوڤ في مسعى الكمال ضمن هذا الفن ، ليس المال أو المكانة بقدر ما هو تقديم الأفضل ،
الشيء الذي يبقى للأبد. لا أقل من ذلك يبدو شغف جوليان كراستر بما يقوم به ،
حنقه على مقطوعته المسروقة ، موهبته ، ورغبته الملحة أن يحقق شيئاً مبهراً في هذه
الفرصة التي سنحت له. هنا اتفق المثلث ، قبل أن يختلف في تفسير المعنى
الحقيقي لجوهر الفن ، وما الذي يعنيه في المقام الأول .
عندما يبدأ عملهم مع ليرمنتوڤ لا يتذكرهم الرجل. جديته وهوسه بما يقوم به
لا يجعله يكترث لهم ، أو – وهذا هو الأهم – تجعله يدّعي ذلك ويتظاهر به. أجمل ما
في هذا النص مع شخصية ليرمنتوڤ هو ما يطفو تحت السطح وليس ما يبرز فوقه. يقدم باول وبريسبرغر في ليرمنتوڤ - بفعل أداءٍ بارعٍ يزيد الشخصية عمقاً من أنتون والبروك – شيئاً أعقد من هوس النجاح أو
السعي نحوه ، شيئاً أعقد من الصورة النمطية للطموح والرغبة بملامسة المجد. حتى
عندما تستفز مشاعره العاطفية و غيرته من جوليان لاحقاً تبدو المسألة أعقد من الشكل
الإفتراضي للحب أو القالب التقليدي للغيرة. الفيلم في كل تفصيلٍ من ليرمنتوڤ لا
يجعل الأمر يبدو بهذه البساطة حتى و إن كان ، ربما لأن المشاعر الحقيقية في جوهرها
لا تبدو أساساً بهذه البساطة ، وهذا يزيد من أبعاد الشخصية وعمقها ويجعلها
قابلة للقراءة وإعادة القراءة مراراً وتكراراً .
شعورنا هذا تجاه ليرمنتوڤ لا يلبث أن يتأكد في العرض المنفرد لبحيرة البجع
الذي يمنحه لڤيكي وهو المشهد الذي حياه دارن أرونوفسكي في Black
Swan . لا تبدو ڤيكي بالنسبة له هنا تلك الفتاة التي تجاهلها عندما جاءت إلى مسرحه
كما طلب منها ، أو تلك التي تجاهلها حتى وهي برفقة صديقٍ لهما. ليرمنتوڤ يبدو هنا وكأنما لاحظها منذ البداية ، منذ أوائل الأشياء ، هناك في حفل عمتها
الذي يتذكر حواره لاحقاً في الثلث الأخير من الفيلم ! لا يتيح لنا باول وبريسبرغر هنا أن نحدد
على وجه الدقة سبب ذلك ، هل هي العين الثاقبة لليرمنتوڤ في اصطياد المواهب
التي يبحث عنها ، أم أن في المسألة ما هو أعمق من ذلك. هذا الإزدواج والغموض في المعنى عبقري ويمنح الفيلم ديمومةً لا يمكن نكرانها لأنه يبقى فعالاً
طوال الفيلم وحتى آخر لحظةٍ فيه ، و مع كل مشاهدةٍ للفيلم ستجد في كل نقطة
التقاءٍ بين ليرمنتوڤ و ڤيكي شيئاً مزدوج المعنى يمكن تفسيره لحظياً ويمكن
تفسيره في السياق العام للحكاية ، و باول وبريسبرغر لا يجعلان أياً من هذه التفسيرات خاطئاً ،
كما لا يجعلانه صحيحاً أيضاً .
تتعزز تلك الإزدواجية مع إعلان راقصة المجموعة الرئيسية إيرينا بورينسكايا
في بروفات الجولة الباريسية أنها خطبت وستتزوج قريباً ، نقطة التمهيد التي تحققها
الحركة الأولى في إتجاه الحركة الثانية ، رد فعل ليرمنتوڤ هنا يوضح ما الذي
يمقته الرجل في الفن ، اللحظة التي تطغى فيها العاطفة على مسعى الإنسان نحو المجد
! يرى ليرمنتوڤ في التعامل بقسوة مع العواطف في هذه المهنة وسيلةً من وسائل الإرتقاء. ليرمنتوڤ بالرغم من ذائقته الفنية وباعه الطويل في هذا المجال يحمل مقتاً شديداً لذلك.
يتناسى كم العاطفة التي نشأت منها روح الفن ، أي فن ، ويجد في الحب عدواً لمسعى
الكمال في الفن متناسياً أن الفن حبٌ في الأساس ! نراه هناك في المشهد التالي منطوياً في حجرةٍ
نصف مضاءة ، يدخن ، يفكر ، ثم يعرض باليه (الحذاء الأحمر) على جوليان كراستر كرد فعلٍ ربما
على ما فعلته إيرينا ! حكاية (الحذاء الأحمر) هي حكايةٌ موازيةٌ لما افتقده ليرمنتوڤ في اعلان إيرينا : الحذاء الأحمر الذي لا يتعب ولا يجدر بصاحبه التخلي عنه لأنه لن يسمح له
بذلك ، كل شيءٍ يمضي ، الوقت والحياة والحب ، إلا الحذاء الأحمر ، كما يقول ليرمنتوڤ. رسالةٌ يلقيها على مسامع ڤيكي على أعتاب العرض الفرنسي قبل أن يتخلى عن إيرينا
كراقصةٍ أولى في فرقته ، هنا تبدو ملامح مشروع ليرمنتوڤ القادم واضحة : جوليان كراستر
سيضع ألحان (الحذاء الأحمر) الذي ستلعب فيكتوريا بيج دور البطولة الرئيسية فيه.
اللقاء الصريح الأول بين جوليان و ڤيكي يحدث بعد خمسين دقيقة كاملة ، نراهما
هناك يجلسان عند حافة الفندق المطلة على سكة الحديد - حيث المكان ذاته الذي تنتهي
فيه حياة ڤيكي لاحقاً - يتحدثان قليلاً عن حياتهما الجديدة. تغادر ڤيكي المكان فتتعثر بصحيفةٍ
تعرض صورتها إلى جوار صورة جوليان كراستر مقترنين بالأخبار الجديدة حول الحذاء الأحمر
! صخب الشهرة الذي لا يمكن فصله بأي حالٍ من الأحوال عن مسعى الكمال الفني الذي
يسيطر على ڤيكي من البداية حتى الختام. الصخب الذي كان مستحوذاً على جوليان
عندما سألها منذ قليل عن (شعور من يستيقظ صباحاً ليجد نفسه مشهوراً) !
في فترة الإعداد خصوصاً – و طوال الفيلم عموماً – يولي باول و بريسبيرغر
اهتماماً دقيقاً جداً لعالم الباليه ، جاعلين مُشاهدهم جزءاً مرتبطاً بهذا العالم حيث المهمات المختلفة فيه ، صرامة العمل ، جاذبيته ، ومسعى اكتمال اللوحة الفنية
التي ينشدها جميع من يعملون فيه. تبقى ڤيكي على الدوام جزءاً من هذه المنظومة وليست
محوراً لها ، ويمنحها باول وبريسبرغر – من خلال الصورة - ما تحصل عليه فقط من النص وبأدق وحدة
قياس. تكون مهمشةً في الصورة عندما تكون هامشيةً على الورق ، ثم تصبح موضع اختبارٍ و اثبات وجود
في الصورة عندما تكون الشخصية كذلك ، قبل أن تحتل الصدارة عندما تصبح ڤيكي ملء
السمع والبصر ! وهذا جزءٌ من عظمة الكيفية التي صُنعت من خلالها الحركة الأولى ،
إن جاز التعامل مع الفيلم على هذا الأساس. ڤيكي و جوليان
يبقيان على مدار ساعةٍ ونصف شخصيتين رئيسيتين دون أن ترتقيا إلى مرتبة الشخصية
المحور. تقتربان وتبتعدان عن ذلك المحور بمقدار أهمية وقيمة الشخصيتين في الحدث
القائم ، بينما تندفع الهالة المتدفقة من شخصية بوريس ليرمنتوڤ لتكون محور كل
شيءٍ ، بمسعاها وتناقضاتها وهوسها الذي لا يتوقف. وعندما يصبح جوليان و ڤيكي على أول الطريق نحو المجد المنشود ، يضع النص موهبتي ليرمنتوڤ الجديدتين مع بعضهما
لفترةٍ طويلةٍ من الزمن بفعل ليرمنتوڤ ذاته الذي يحرّك الحدث من البداية إلى
النهاية. ليرمنتوڤ لا يكتفي بمجرد التقارب الروتيني بل يطلب من جوليان
عزف موسيقى (الحذاء الأحمر) لڤيكي مع كل وجبةٍ تتناولها ، وعندما يسأل لاحقاً عن
بداية هذه العلاقة بين ڤيكي و جوليان ، يخبرونه أنها بدأت مع (الحذاء الأحمر) بكل ما يحمله الحذاء من دلالة : هوس الكمال ، ورغبة الإرتقاء ، ومسعى المجد
الفني الذي جمعهما لكن بطريقةٍ تتناقض مع رؤية ليرمنتوڤ للقيد الذي تضعه الحياة
- بواقعها وأحلامها وعواطفها وضغوطها - على العملية الإبداعية ، وهي الرؤية
التي سيسوّق من خلالها محاولته لاحقاً الإطاحة بهذه العلاقة الوليدة كإطار خارجي
لعاطفةٍ محتملةٍ حملها لڤيكي !
محور العظمة لكل شيءٍ في الفيلم هي الحكاية الموازية التي يقدمها باليه (الحذاء الأحمر)
ذاته. واحدة من أعظم القصص الموازية في تاريخ السينما كله. العمل الذي صُوّر في
ستة أسابيع واستهلك 120 لوحةً مرسومةً وقيل بأنه فتح الباب على مصراعيه لتقديم
هذا النوع من المقطوعات الإستعراضية القائمة بذاتها في أفلام An American in Paris و Singin in the Rain و The Band Wagon مطلع الخمسينيات. بائع أحذيةٍ يغري النساء بما يبيعه ، وراقصةٌ ترقص مع
حبيبها بحذاءٍ أبيض. تشاهد الحذاء الأحمر في متجر الإسكافي. يغريها خيالها
مرتديةً ذلك الحذاء. ترتديه فيبتعد محبوبها. ترقص فيه طوال اليوم. يقودها إلى
عالم العجائب حيث يُراقص الإخراج الفني العظيم للعمل نص هذه القطعة المتبرعمة ليقدّم مقطوعةً فنيةً
قائمةً بذاتها تستمر لـ 17 دقيقةً من الميلودراما والموسيقى والرقص. يتهاوى كل شيءٍ
في عالمها الفاتن الجديد وتجد الراقصة نفسها في عالمٍ مهجور ، عاجزةً عن دخول منزلها لأن
الظل يلاحقها ويحاول الإمساك بها. ترى في بائع الأحذية (ليرمنتوڤ تارةً ، جوليان
تارةً أخرى) الهوى الذي تقاسمها كلٌ في اتجاه والذي تعلن لهما لاحقاً في الختام
(دعوني وشأني ، كلاكما)! تهرب الفتاة إلى عالمٍ غريب مقفر ، تتعثر بصحيفة كتلك
التي تعثرت بها ڤيكي عندما قبلت دورها في الحذاء الأحمر ، صخب الشهرة الذي يراقصها الآن
قبل أن يستحيل بشراً ثم يتهاوى. يتابع الإسكافي اغراءاته لها ويذهب بها إلى عالم
الموتى ، المنتهى الذي يأخذها إليه الحذاء الأحمر ! باول و بريسبيرغر
يُغردان في هذه المقطوعة خارج أي سربٍ يمكن أن تتوقعه في عملٍ أربعينيٍ كهذا. في هذه القطعة التي تستعيد الفلسفة التعبيرية للسينما الصامتة تتزاوج الكادرات مع الإضاءة المسرحية والألوان واللوحات الحائطية المرسومة مع حركة العناصر
الدقيقة ضمن كل كادر لتراقص الموسيقى التصويرية التي تحيل هذا الباليه قطعةً فنيةً
عظيمةً قائمةً بذاتها بعيداً عن أي قيمةٍ إضافيةٍ تحققها للعمل السينمائي. تجد
الفتاة نفسها وحيدةً في جزيرة ثم ترقص لاحقاً في قصر وتصل الرقصة ذروتها مع موج
البحر الهادر القادم مع تصفيق الجمهور. يمنحها الإسكافي سكيناً لتتخلص من الحذاء
لكنه يستحيل غصن شجرة ! تنزلق في عالمٍ موغلٍ في الحمرة يتسق مع دلالات الألوان ومستويات الإضاءة في الفيلم. تتحرر من الحذاء الأحمر ، وتموت ! ليبدأ بائع الأحذية
إغراءً جديداً. مقطوعةٌ ما تزالُ طازجةً ومبهرةً للمشاهدين حتى بعد قرابة سبعة عقود على ولادتها. الإبهار الذي قد يقودك كمشاهد للتصفيق كما فعل الجمهور لڤيكي يومها ، شيءٌ من أجمل ما
وضع على فيلمٍ سينمائي في سائر العصور .
لو تجاوزنا الباليه كقيمةٍ فنيةٍ منفردة ، فإن قيمته في سياق العمل
السينمائي بالغة الأثر. نظرة رثائية تتوازى مع قدر بطلته الإنقسام بين هوسها
بالمجد الفني وعاطفتها التي لا تستطيع التخلي عنها. بائع الأحذية الذي يظهر لڤيكي مرةً بشكل ليرمنتوڤ ومرةً بشكل جوليان هو اغراء العاطفة التي حكمتها.
العاطفة تجاه ما تود أن تكون مع ليرمنتوڤ ، والعاطفة تجاه ما تعيشه الآن مع جوليان.
لا يتيح لها الحذاء الأحمر التفكير في ذلك ويقودها في اتجاهٍ واحدٍ لا رجعة فيه.
تراقصها الشهرة ، والعجز ، والوحدة ، وهتاف الجمهور الذي لا يتوقف. هذا من
ناحية ، ومن ناحيةٍ أخرى يبدو الباليه مفصلياً في محاولة فهم جزءٍ من طبيعة
العلاقة التي جمعت ڤيكي بليرمنتوڤ. يسال ليرمنتوڤ ڤيكي بعد نجاح الباليه (ماذا تريدين ؟)
فتجيبه على الفور (أن أرقص) ! يبدو ليرمنتوڤ هنا بحذاءه الشيطاني وكأنما يعقد صفقةً من
طرفٍ واحدٍ مع فاوست ! يعد بتقديم أعظم راقصةٍ في العالم ! يقودها إلى نجاحاتٍ
متتاليةٍ في (المتجر الغريب) و (كوبيليا) وغيرها. لوهلة لا يجعل باول و بريسبيرغر هذا الهارموني
يبتعد عن فكرة راقصةٍ موهوبةٍ تحقق مجدها الشخصي من خلال الرؤية الشخصية للنجاح
التي يرتأيها لها مديرها ، الرجل الذي يرى في العاطفة خطراً محدقاً لأي سعيٍ
حقيقيٍ نحو الكمال الفني ، يبدو كمن ذاق أثره مرةً بعد مرة ، و إيرينا
بورينسكايا هي المثال الأخير على ذلك. لكن المشكلة أن ڤيكي – كما كانت إيرينا
من قبل – ليست فاوست الذي سيعقد هذه الصفقة الإستحواذية حتى بالرغم من ادراك ڤيكي أن الحذاء الأحمر
لن يحررها من أن تكونه. هنا يبدو الفيلم ابعد عن الصورة التقليدية لفيلم الحركات
الثلاث. حركته الثانية وإن قدمت عقدة الحكاية التي تروى علينا إلا أنها تبدو كذلك
على مستوى الشكل فقط وليس على مستوى عمق وأبعاد شخصياته المحور. تبدو العقدة وكأنما تكررت مراراً (ذات العقدة المتكررة التي وضعها دارن أرونوفسكي لاحقاً في محور
Black Swan حيث راقصةٌ يتقدم بها العمر فيتم التخلي عنها من أجل راقصةٍ جديدةٍ سيتم
التخلي عنها لاحقاً عندما يتقدم بها العمر). هنا بالذات ستبدو العاطفة التي
حملها بوريس ليرمنتوڤ لفيكتوريا بيج أعقد مما تبدو عليه متجاوزةً الشكل التقليدي للحب وأقرب لتكون عاطفته تجاه
المنتَج الذي صنعه ! حنقه على زواج إيرينا هو ما دفعه لصناعة فيكتوريا
وليس قبل ذلك ، ورحيل فيكتوريا لاحقاً هو ما يدفعه لمحاولة الإلتقاء (صدفة) بإيرينا
مجدداً ! وفي كلا الحالتين استمرت أخبار الفتاة المغادرة محور اهتمامه. تابع
أخبارهما بشغف فقط كي يثبت نظريته. يسأل عن زواج إيرينا عندما تغيب تماماً
كما يسال عن زواج ڤيكي ، ويذهب بخياله أثناء قراءته رسالتها لليوبوڤ : يراها وزوجها
نائمين على سريرين منفصلين ، يراها تنهض لتفحص أحذيتها ، ونرى هناك في خزانتها
حذاءً أحمراً ، خيارٌ من خياراتها التي قد تحتاج إليها يوماً ما ! خيال ليرمنتوڤ لم يتخلَ عن ڤيكي تماماً كما لم يتخلَ عن إيرينا من قبل. حذائه الأحمر بقي محور
اهتمامه بهما. ذات الحذاء الأحمر الذي يستعيده الإسكافي في الباليه ويعيد الترويج له من جديد بحثاً عن طامحةٍ جديدة. الباليه يدفع العقدة في هذا
الإتجاه بشكلٍ واضح دون أن يجعل هذا التفصيل بديهياً أو حقيقياً
تماماً وهذا أحد أسرار ديمومته. يحاول ليرمنتوڤ حجز مكانٍ في مطعم لعشاء شخصين قبل
أن يكتشف مغادرة الجميع للإحتفال بعيد ميلاد ليوبوڤ. ليرمنتوڤ يفتقد ڤيكي بسهولةٍ
في الحفل ، لكنه لا يشعر بغياب جوليان (وهو فردٌ أيضاً مما يسميها : عائلته)! يتعزز لدينا
هنا الشعور الذي كنا نقترب منه ولا نلامسه : عاطفة الحب التي يحملها ليرمنتوڤ لڤيكي. يرى في نقمته أن ڤيكي (كانت تحلم ، والحلم رفاهيةٌ لا أسمح بها في عملي). يصبح
أداؤها الراقص وأداء جوليان الموسيقي سيئاً بنظره ، نشعر هنا بحجم الفجوة
الواضح في عمل ليرمنتوڤ الإحترافي الذي يتشدق به. أبعد من انكاره لقيمة الحب وتناسيه أن ما يجعل الفن فناً هي انسانيته ، وأن روح تلك الإنسانية هو الحب والروح والعاطفة ، بدونهم تغدو المنحوتات قوالب صخرية واللوحات مطبوعاتٍ ملونة. الأشياء
التي لطالما رأى أنها تدمر مجد الفن هي ذاتها من دمّرت شراكته العظيمة مع جوليان و ڤيكي. تتحقق نبؤة ليرمنتوڤ التدميرية من حيث لم يكن يعتقد. نراه يتخلى عن جوليان ،
ولا يأبه لقرار ليوبوڤ ترك العمل إذا ما حدث ذلك. نراه مجدداً بعد زواجهما يجلس في
الإضاءة الخافتة ، مكتئباً ، وحيداً ، يدخن ، يحرر جوليان من عقده ويحتفظ
بالحذاء الأحمر ، (الحذاء الأحمر لي) تماماً كما فعل الإسكافي في الباليه. يستعيد
إيرينا ليسوقها مجدداً ، قبل أن يقدم لاحقاً اغراءه الأخير لـ(منتوجه الفاخر) ڤيكي : (إلبسي الحذاء
الأحمر ، ڤيكي ، و ارقصي لنا ثانيةً). هنا تنهار ڤيكي أمام سطوة الحذاء الأحمر
، أمام هوس الكمال والمجد والخلود الفني ، الكلمات البراقة التي قفزت بها فوق
عاطفةٍ جارفةٍ حملتها لجوليان. هنا بالذات يتخلى باول و بريسبيرغر عن حياديتهم تجاه ليرمنتوڤ الذي اشترك مع ڤيكي في تلك الرغبة الخالصة ، الرجل الذي وقف بجوار ڤيكي ولم يكن سيئاً معها ، الرجل الذي منحها فرصتها من العدم تماماً كما فعل مع جوليان ،
نراه الآن في ذروة شيطانيته عندما وصلت القوة التدميرية التي لطالما مقتها إلى
ذروة سطوتها على هذا المثلث : الروح ، والعاطفة ، والحب الذي يقضي على كل شيء .
مايكل باول و إيميرك بريسبيرغر حققا منجزهما الأعظم هنا. ليس فقط على مستوى ضبط
ايقاع حكايةٍ بهذا التشعب والتعقيد ، والمستوى الرفيع الذي يحققانه دائماً في
تصميم الإنتاج ومواقع التصوير ، بل أيضاً على مستوى الدفء الواضح الذي تحصل عليه
الصورة من خلال العلاقة بين ماكياج الممثلين ومستوى اضاءة المشهد وطبيعة اللقطة
، كل كلوز
آب في هذا الفيلم ستتذكره لفترةٍ طويلةٍ من الزمن كما ستتذكر الإنطباع الذي
يستخلصه من كل شخصيةٍ فيه. وفوق ذلك ، المدى الذي يذهبان إليه في إنتزاع جزءٍ من
عمق الشخصيات ذاتها من خلال أداءات أبطالهم ، روحٌ حقيقيةٌ وأبعادٌ متعددةٌ يمنحها
أنتون
والبروك و مويرا شيرار لكل ردٍ فعلٍ يقدمانه للمشاهد ، هذا بمفرده يكون قادراً
بكل بساطة على منح الحكاية شيئاً أكثر تعقيداً وغموضاً وجاذبية مما قد تبدو فيه على الورق
.
الحذاء
الأحمر مأثرةٌ سينمائيةٌ عظيمةٌ عن هوس الكمال والقمة. فيلمٌ عظيم عن السعادة المأسورة ، وعن الرغبة الخالصة التي نرسم من
خلالها وجهتنا ومآلنا ، وعن المدى الذي يمكن أن يذهب بنا إليه استحواذ رغباتنا
تلك علينا ، وإلى أي حدٍ يمكن أن تأكل الروح ، وتقيّد الساقين. شيءٌ من أعظم ما
شاهدت في حياتي .
التقييم
من 10 : 10
0 تعليقات:
إرسال تعليق