كتب : عماد العذري
بطولة : جاك ليمون ، شيرلي ماكلين
إخراج : بيلي وايلدر
كل من شاهد رائعة السير ديفيد لين
الشهيرة Brief Encounter يتذكر ربما ذلك المشهد
العابر عندما تضطر الظروف الجوية سارة جيسون للعودة إلى حبيبها ألبرت غودبي في الشقة
التي استعارها من صديقه الدكتور أليك هارفي ، قبل أن تسرع بالمغادرة عندما يطرق هارفي
باب شقته ، و يقع غودبي في موقفٍ محرجٍ أمام صديقه في محاولة تفسير ما جرى ، في هذا
المشهد العابر الجميع كان مشغولاً بلقاء الحبيبين الخاطف في الشقة ، بيلي وايلدر
كان مشغولاً بصاحب الشقة .
كان ذلك المشهد
الخاطف هو من ألهم العملاق بيلي وايلدر النص العبقري الذي كتبه لواحدٍ من أشهر و
أعظم أفلامه ، التحفة الأخيرة في مسيرة الرجل الذي قدّم لنا كلاسيكاتٍ لا تنسى مثل
Double Indemnity و The Lost Weekend و Sunset Boulevard و Sabrina و Some Like It Hot ، و هو الفيلم الذي رشّح
لاحقاً لعشر جوائز أوسكار فاز بستٍ منها و أصبح آخر فيلمٍ بالأبيض و الأسود –
زمنياً و ليس تقنياً – يفوز بأوسكار أفضل فيلم ، مانحاً بيلي وايلدر أوسكاره الثاني
مخرجاً بعد إنجازه العظيم في The Lost Weekend .
أتذكر أن ولعي تجاه مشاهدة الفيلم أول مرة بدأ
قبل 12 عاماً و تحديداً في حفل الأوسكار الذي صعد فيه كيفن سبيسي ليتسلم أوسكاره
الثاني عن American Beauty ، بدأ سبيسي خطاب شكره بإهداءه الذي لا ينسى – و أحد اشهر الإهداءات في
تاريخ الجائزة – عندما قال ( في البداية أود أن أهدي هذه الجائزة إلى الرجل الذي ألهم
أدائي هذا ، الرجل الذي كان صديقي ، و موجّهي ، و منذ وفاة والدي كان إلى حدٍ ما
مثل والدي ، الرجل الذي يُعدّ أداءه في The Apartment واحداً من أفضل ما شاهدنا
، جاك ليمون حيثما كنت : شكراً ، شكراً ، شكراً ) ، بعدها بعامين أو
ثلاثة شاهدت الفيلم ، و شكرت كيفن سبيسي .
يحكي هذا السيناريو
البديع الذي كتبه بيلي واليدر و إيتزك دياموند قصة سي سي باكستر الموظف في مؤسسةٍ
ضخمةٍ للتأمين ، و الذي يعير شقته المتواضعة لكبار موظفي شركته من أجل علاقاتهم
الغرامية ، طبعاً في سبيل تعزيز روابط المهنية معهم و التي قد تفيده في الحصول على
ترقيةٍ يوماً ما ، لكنه سيحتاج لهذه الشقة قريباً خصوصاً و أن قلبه بدأ يهتف بإسم فران كوبليك
موظفة المصعد الجميلة في بناء المؤسسة ، سي سي باكستر بات يرفض جميع طلبات الشقة و
يكتفي بواحدةٍ فقط من رئيسه في العمل جي دي شيلدريك الذي يمنحه ترقيةً بسبب ذلك ، جي دي شيلدريك
يريد الشقة طبعاً من أجل لقاءه الأسبوعي بعشيقته ، لكن مرءآةً مكسورةً يجدها في
منزله تغيّر كل قناعات باكستر بهذا الخصوص .
لا أبالغ إذا ما قلت
بأن هذا النص هو واحدٌ من أفضل ما حصلت عليه في كل مشاهداتي السينمائية العديدة ، واحدٌ
من اذكاها ، و أعمقها ، و أجودها بناءاً ، و أصدقها ، و أقربها إلى النفس ، و
أكثرها مرحاً أيضاً ، من الصعب جداً أن تحصل على مزيجٍ فعالٍ بذات القدر الذي تحصل
عليه هنا من أحد اذكى النصوص التي منحت لفيلمٍ سينمائي ، الحبكة عظيمة بالفعل ، و
عظمة النص قبل كل شيء في الواقع تكمن في حبكته ، قبل بناء شخصياته و قبل غوصه
العميق فيما يحاول أن يطرح ، الحبكة بذاتها هنا متعةٌ مكتملة لا تضاهى ، واحدة من
الحبكات القليلة التي تستمد قوتها من مستوى الإنسيابية المدهش الذي نحصل عليه في
الإنتقال بين تحولاتها المتعددة بالرغم من عنف تلك التحولات ، عندما أتأمل في كل
مشاهدة الطريقة التي تتشابك بها أضلاع المثلث في الفيلم أدرك و اقتنع مجدداً بأنني
أمام واحدةٍ من الأجمل في تاريخ السينما كله ، قوة ذلك تكمن ليس فقط في الطريقة
التي يؤسس فيها لكل ضلعٍ من اضلاع المثلث يربط بين شخصيتين فيه ، بل في جعل ذلك
الربط مقنعاً و مؤثراً و فعالاً و عميقاً أيضاً ، خصوصاً عندما تتجلى ( ثنائية
الإستفادة ) بشكلٍ واضحٍ على الشاشة لنرى من خلالها عقدة الفيلم الأخلاقية
: من يستفيد مِن مَن ؟ فران تستفيد من شيلدريك و هو كذلك يستفيد منها
، باكستر
يستفيد من شيلدريك و شيلدريك يستفيد منه ، و فران تستفيد من باكستر و
باكستر
يستفيد منها ، و هو يمهد لتلك الثنائية من خلال هجائية الترقي و الوصولية الرائعة
التي يفتتح بها ، حول الرجل الذي يقوم بما ليس جيداً كي يحصل على مكانةٍ افضل ، و
المشهد الذي يقوم فيه باكستر بتغيير المواعيد على الهاتف يبدو فاتناً و
مختزلاً و يحكي الحكاية كلها ، ذكاء النص أنه يضع عواطف المثلث جانباً لوهلة
ليشعرك بأن جميع الأطراف راضيةٌ إلى حدٍ ما بالمعادلة التي هي خاضعةٌ لها ، هذا
ساحرٌ جداً ، النص يبدو وكأنما يحفر في العقدة الأخلاقية أكثر من استرساله بالحديث
عن أي عاطفةٍ بين فران و باكستر ، يجعل العاطفة أشبه بستارةٍ خلفيةٍ للمنظر ،
نشعر بها و نتعاطف معها ، لكنه لا يقذف بها ابداً في وجوهنا ، فلا نشعر بأن باكستر
قادرٌ بالفعل على تجسيد حبه لفران و الظفر بقلبها ، و لا فران تشعرنا بأن لديها عاطفةً
حقيقية تجاه باكستر ، تبدو شخصيات العمل و كأنما هي غارقةٌ في ثنائية
الإستفادة تلك و راضيةٌ بما يجري حتى و ان لم يكن ذلك الرضا حقيقياً ، النص
هنا يبرز كعملٍ عن المسئولية و الوازع الأخلاقيين أكثر بكثير من كونه قصة حب ، وايلدر و
دياموند
ينجحان بجدارة في جعل ذلك يبرز ، لذلك يبدو لنا بوضوح أن فران و باكستر
يعيشان الخيار الذي لا يحبانه ، لكنهما في الوقت ذاته لا يرفضانه ، يقتنعان إلى
حدٍ ما بالوضع الذي يعيشانه بالرغم من عدم كونه جيداً لهما ، و ما يجمعهما في ختام
الفيلم هو في الواقع أكثر من العاطفة المجرّدة ، ما يجمعهما برأيي أنهما يبدوان
لنا – و بوضوح – شخصين لطيفين ، و نزيهين ، و نظيفين في بيئةٍ كل ما فيها قذر ،
أحب هذا النص كثيراً بسبب هذا وحده .
و مع أن وايلدر و
دياموند
يكثفان عمق نصهما في الحبكة العظيمة التي يقدمانها ، إلا أنهما لا يغفلان عن تصميم
شخصياتٍ مميزةٍ تتناسب و تلك الحبكة ، سي سي باكستر الذي يؤديه جاك ليمون
هو رجلٌ يتشظى من الداخل عندما يرى عواطفه الوليدة تدمّر أمام عينيه ، لكته يتماسك
بانسيابيةٍ مدهشة و يحاول اصلاح الأمور قدر استطاعته ، لكنه قبل ذلك رجلٌ قريبٌ من
أي انسانٍ سويٍ فينا ، ليس انساناً مثالياً أو خالياً من العيوب ، لكنه بالرغم
منها ما يزال يمتلك ضميراً يقظاً و نفساً لوّامة ، هذه التوليفة ما كانت لتتحقق
لولا براعة جاك ليمون الذي يتشرّب بإدهاش روح سي سي باكستر ، و يتنقل بيسر
بين التراجيديا و الكوميديا في ثنائيةٍ من اعقد ما قد تشاهد ، الوضع لا يختلف مع فران كوبليك
التي تحبها و تفتن بها تماماً كما يفعل سي سي باكستر ، تنزعج فعلاً لأن ذلك يحدث معها
، فران كوبليك - التي تؤديها شيرلي ماكلين بفتنةٍ و جاذبيةٍ لم تحقق مثيلاً لها
طوال مسيرتها – هي واحدةٌ من اكثر شخصيات السينما انكساراً ، ألمها ظاهر ، لكن
كبريائها ظاهرٌ أيضاً ، معرفتها بسوء ما يجري لها واضحة ، لكن محبتها لشيلدريك
واضحةٌ أيضاً ، فران شخصيةٌ واثقةٌ لكنها مترددة ، قويةٌ لكنها منكسرة ، مخدوعةٌ
لكنها مخلصة ، تبدو فران كما تقول تماماً عن مرءآتها المكسورة ( أحبها ، تجعلني
أرى ما أشعر به ) ، شيء معقدٌ فعلاً و لا يمكن أستيعابه إلا بمشاهدة شيرلي ماكلين
و هي ترتدي ببراعة هذا الدور ، تصميمٌ يضاهيه في براعته أيضاً تصميم جي دي شيلدريك
الذي يؤديه فريد ماكميري و الذي يتمكن بجاذبيته و كاريزماه أن يخدعنا بلسانه المعسول
و نبرته الجدية الواثقة تماماً كما فعل مع فران ، وايلدر و دياموند
يتفهمان أن فيلمهما في الاساس هو فيلم حبكة ، لكنهما لا يكتفيان بأن يجعلاه مجرد
كوميديا رومانسية مثل كوميديات النصف الثاني من الخمسينيات بل يذهبان من خلال
الإيغال العميق أثناء تصميم شخصيات المثلث إلى جعلنا كمشاهدين نتفهم قيمة الحبكة و
نتفاعل معها و نتأثر بصدق بما يجري .
و فوق ذلك يتألق وايلدر
في تجسيد هذا النص على الشاشة ، يتمكن ببراعةٍ تستحق التصفيق من جعلنا نبتسم و
نضحك في مواضع عديدةٍ بالرغم من لمسة التراجيديا الواضحة في فيلمه ، ربما لأنه
يوظف جيداً تهكمه المر الذي اعتدناه ، التهكم الممزوج بكميةٍ لا بأس بها من الهزل
الحارق الذي لا نستطيع الالتفاف على دعابته و ظرفه ، و هذا يجعل الفيلم قابلاً
بشدة لإزدواجية المشاعر تجاهه ، تماماً كما يؤثر بناء الشخصيات المحكم في ذلك ،
فيمكن في الختام أن يرى المشاهد في الفيلم قصة حب ، أو دراما ، أو تراجيديا ، أو
كوميديا ، أو حتى هجائيةً للوصولية ، يرى مزيج الجدية في نمط العلاقات الموجود ، و
يرى قصة الحب في العواطف غير المعبر عنها بين باكستر و فران ، و يرى التراجيديا
التي تسير تلك العواطف بعيداً عن طريقها الصحيح ، و يستمتع بالكوميديا التي تصنعها
في الأساس المفارقات و التداخلات التي تخلق التراجيديا في علاقة الحب تلك ، شيُ
فاتنٌ و لا يمكن التعبير عنه ، مزيج الفيلم قصةٌ بمفردها ، حبكته و شخصياته و
حواراته و أداءاته و ايقاعه ، جميعها دون استثناء من أبسط ما يمكن و من أعقد ما
يمكن ، و هذا يجعله بسبب ذلك فيلماً
للدراسة ، و واحداً من كلاسيكيات السينما التي لا تتكرر .
التقييم من 10 : 10
0 تعليقات:
إرسال تعليق