كتب :
عماد العذري
بأصوات :
نوريكو هيداكا ، تشيكا ساكاموتو
إخراج :
هاياو ميازاكي
لا أتذكر أنني أحببتُ هذا الفيلم عند مشاهدتي له أول مرةٍ قبل
أعوام ، ربما لذلك أسبابٌ سأذكرها لاحقاً ، لكن ما يهمني هنا في مقدمة حديثي عنه
هو الإشارة إلى أن ذلك لم يحدث معي في أيٍ من أفلام ميازاكي ، ربما تحفظت
على بعض تفاصيلها ، أو لم أستسغ جزئيةً معينةً فيها ، لكن لم يحدث أن مررتُ بحالةٍ
من الجفاء تجاه فيلمٍ لميازاكي كما حدث لي مع توتورو .
في الواقع لم يستمر ذلك طويلاً ، هي مشاهدةٌ واحدةٌ قررت أن
اعطيها له بعد سنوات و كانت كفيلةً بأن أنظر له نظرةً مختلفة ، تلك المشاهدة لم
تغيّر في قناعاتي السينمائية شيئاً قدر ما غيّرت من الطريقة التي تقبّلت بها العمل
و الطريقة التي أعتقد بأن ميازاكي أراد من مشاهده أن يتقبّل بها العمل ، كان هذا الفيلم ثاني
أفلام ميازاكي مع ستديو غيبلي الذي شارك في تأسيسه ليرسّخ من خلاله صورةً
مختلفةً لفن الأنيمي غزا بها كوكب الأرض و فرض مما بات يعرف بـ (الميازاكية)
فناً مستقلاً قائماً بذاته و له طقوسه و مريدوه ، صحيح أن ميازاكي بقي
متفرداً حتى ضمن نطاق الاستديو على اعتبار أن بقية الأعمال التي أنتجها غيبلي دارت في
فلك ميازاكي ، إلا أن ذلك التفرّد الذي بدأ في الواقع عقب النجاح
المدوي لباكورة الميازاكية Nausicaa قبل أربعة أعوام ، ثم الإستقبال الجيد لباكورة أعمال غيبلي Castle in
the Sky لم يكفل للرجل أن يقدّم عمله هذا مراهناً على إسمه وحده ، فأطلق
الإستديو هذا الفيلم ضمن عملٍ مزدوجٍ ضم إلى جواره تحفة إيساو تاكاهاتا و
مأثرته الأشهر Grave of the Fireflies مستغلاً قصر مدة فيلم ميازاكي
(الأقصر في مسيرته كلها) ، و بالرغم من حجم المديح الذي حظي به العملان عند إطلاقهما
إلا أن ذلك وحده لم يكفل لهما النجاح الذي رجاه الإستديو في إنطلاقته تلك ، و
بالرغم من ذلك بقي توتورو تيمة الحظ التي جلبت له الإحترام و القبول حول العالم ،
تيمة الحظ التي دفعت الإستديو لإعتماده شعاراً له فيما بعد .
الحكاية عن ساتسوكي و ماي طفلتان تنتقلان مع والدهما إلى منزلهما الجديد إلى جوار
غابةٍ قريبةٍ تسكنها أرواحٌ حيوانية الشكل تعرف بالتوتورو ، ماي تكتشف
وجودهم و سرعان ما تصبح الشقيقتان صديقتين لتوتورو الذي ينبت لهما أشجار الصنوبر في حديقة منزلهما ، قبل
أن يأخذهما في مغامرةٍ سحريةٍ لزيارة والدتهما المريضة في المستشفى .
ميازاكي لم يكتب نص هذا الفيلم
فقط ، بل استثمره بفعالية لترسيخ طقوسه و نوعية الحكايات التي سيتفنن لاحقاً في
سردها علينا ، في النص الكثير من عناصر ميازاكي التي تكررت حد الإشباع لاحقاً : الطبيعة ، و الغابة ، و المخلوقات الغريبة ، و
بالطبع البطلة الأنثى ، القالب الذي لطالما فتننا على مدى ربع قرن بدأ
هنا في الواقع ، صحيح أن Nausicaa كان هو ضربة الإفتتاح على هذا الصعيد ، لكن ميازاكي لم يضمّن
في Nausicaa ذلك الكم من
الروحانية و الإرتباط بالموروث الثقافي الياباني كما فعل في Totoro ، هذا من ناحية ، و من
ناحيةٍ أخرى أرى في حكايته تمهيداً بعيداً لما حققه الرجل في تحفته الأعظم Spirited
Away ، أو ربما مرحلةً انتقاليةً لأليس اليابانية التي
انزلقت في جحر الأرنب ، مرحلةً إنتقاليةً لأن فتاتيه تنزلقان في عالم توتورو الساحر
بذات المقدار الذي تبقيان مرتبطتين بعالمهما الحقيقي ، و هذا لم يتحقق لشيهيرو في Spirited Away ، ربما كان توتورو بالون
اختبارٍ لواحدٍ من هواجس ميازاكي الذي نمى على مدى أعوام ليثمر بعد أكثر من عقد حكايته
الأكثر اكتمالاً و براعةً و عظمة .
عملياً الفيلم بدون حبكةٍ تقريباً ، و لا يمكن اعتباره مغامرةً
بأي حالٍ من الأحوال كحال أفلام ميازاكي الأخرى القائمة على ما يعرف بالـ Three Acts ، و ربما تكمن هنا مشكلتي
معه في المشاهدة الأولى ، الحكاية لا تسير وفقاً لتخطيط معين ، هي فقط دعوةٌ لإستكشاف و
مراقبة الجزء الغريب و الخفي و الغير قابل للإستذكار و الخصب جداً من الطفولة
، مقدار ما يشكّله الوعي الباطن و الخيال من حجم ما نعيشه فعلاً في تلك الحقبة
العمرية ، و زيارة المستشفى في الختام تحاول برأيي منح الحكاية ما ينقصها ، الحبكة ، من
خلال تقديم الـ Third Act ، صحيح أنه يبدو بسيطاً
جداً و يحصل على أهميته و قيمته بشكلٍ مباغت و هو أمرٌ آخذه عليه بشدة ، إلا أن ميازاكي ينجح
الى حدٍ ما من تجاوز ذلك المأزق من خلال تمهيدٍ يستثمر اختفاء مي المفاجيء و
مرحلة البحث عنها ، و مع الوقت قد تتصالح مع هذه الجزئية إن رغبت بذلك ، خصوصاً و
أن نهايتها السعيدة لا تُقدّم لنا أساساً كهدف منذ البداية ، و مردّ ذلك برأيي
ينبع من كونه فيلم ميازاكي الوحيد الذي يخلو من أي شخصيةٍ شريرةٍ أو سلبية الأمر
الذي يجعل من بناء حبكةٍ ثلاثية الحركات شيئاً مفتعلاً إلى حدٍ ما ، حتى مرض الأم
في هذه الحكاية يبدو مطمئناً و غير مثيرٍ للقلق ، و ربما هذه الجزئية المتعلقة بخلو
العمل من الشرير و السلبي هي ما لطّفت لدي كثيراً من إستقبال الفيلم و التعامل معه
في المشاهدة الثانية ، في الواقع لا يصنع ميازاكي فيلمه ليأخذنا في مغامرة كما فعل
قبل أربعة أعوام في Nausicaa (أفضل أفلامه برأيي على صعيد الحبكة) أو حتى كما فعل في Castle in the Sky ، هو يريد فقط أن يتكلّم في أقصر وقتٍ ممكن عن براءة الطفولة
، و الإيمان ، و الصديق الخفي الذي نجده إلى جوارنا على الدوام
، من هذا المنظور تحديداً أقدّر العمل كثيراً خصوصاً و أنه يتكلم عن براءة الطفولة
دون الوقوع أو الإنزلاق في قالب قصص النضوج الذي قد يبدو فجاً و مصطنعاً جداً بالنظر
لغياب الشخصية الشريرة أو الظروف السيئة التي عادةً ما تحرك تيار النضوج في
الشخصية المحور ، هو يحفّز تلك البراءة من خلال ربطها بالخيال الخصب الذي يستحوذ
علينا في مرحلة الطفولة و يقرن تلك الجزئية بالعالم الجديد الذي تحاول الفتاتان
استكشافه ، لذلك هو يصمم الحدث استناداً لعملية انتقال العائلة إلى منزلٍ جديد و
كيف يبدو ذلك تحدياً و استفزازاً قوياً لمخيلة الطفل و لروح الإستكشاف التي تستحوذ
عليه ، ثم يغلّف تلك البراءة بالإطار الذي يليق بها و يدعمها ، فنرى العائلة
المحبة و الجيران المتعاونين و التوتورو و الباص القط ، كل عناصر الحكاية لطيفةٌ و
ودودةٌ و تأسر شيئاً من جمال ما قد نستذكره في الطفولة ، مع القليل طبعاً من إثارة
ميازاكي التي اعتدناها و سنعتادها ، خصوصاً في مشاهد استكشاف
المنزل أو في المشهد الأيقوني للفتاتين تنتظران باص والدهما تحت المطر إلى جوار توتورو .
أعمق من ذلك أرى في البهجة التي ينشرها الفيلم شيئاً مختلفاً ، هي هنا ليست فقط ما نحصل
عليه من الحكاية ، بل هي أيضاً الشعور الذي يحكمها و تقوم عليه أحداثها ،
الإنتقال الى المنزل يبدو مبهجاً للفتيات ، رؤيتهن لكرات السخام (التي ستبقى معنا
حتى نشاهدها مجدداً في Spirited Away) تقوم أيضاً على البهجة بدلاً من الخوف ، و الأمر ذاته ينطبق على
رؤية توتورو في أكثر من مناسبة ، ثم على رؤية الباص القط ، الفيلم
تحكمه ردود أفعالٍ قائمةٌ في جوهرها على البهجة التي لا تكتفي هنا بأن تكون الطاقة
التي سنحصل عليها من الفيلم ، بل هي عاطفة الفيلم و روحه و عمقه أيضاً .
و بالتأكيد هناك التخمة من ميازاكي ، طبعاً يبدو
العمل شيئاً مبكراً جداً لما اعتدنا أن ننتظره منه ، لكن لحظاته البسيطة ما زالت
عالقةُ بذاكرتي بالرغم من مرور السنوات ، استذكر مرحلة استكشاف المنزل ، و اللقاء
الأول بتوتورو ، و الليلة التي يملأ فيها توتورو الحديقة
بالأشجار ، و بالطبع المشهد المطري في انتظار حافلة الأب ، أستذكر ذلك كما شاهدته
أول مرة ، الفيلم مريحٌ جداً للبصر و يبدو رداً مباشراً من خلال الصورة على باكورة
أعمال الميازاكية Nausicaa التي قدمت صورةً مختلفةً لعلاقة ميازاكي الحميمية
بالطبيعة ، الطبيعة في توتورو مبهجة و كل ما فيها يبعث على الألفة على عكس الطبيعة الكئيبة
و المضطهدة في Nausicaa ، عندما نعثر على توتورو يراودنا شعورٌ مختلفٌ و مناقضٌ لشعورنا تجاه حيوانات الأوم في Nausicaa ، يأخذ ميازاكي من
الطبيعة أجمل ما فيها و أكثره حميمية ليعوض إلى حدٍ كبير من بساطة حكايته و انعدام
حبكته و ليغذي محورها القائم على استكشاف براءة الطفولة و روح البهجة التي تحملها
.
توتورو هو كل شيءٍ جميل زارنا
في الطفولة و فقدناه عندما كبرنا كما تقول أغنيته الجميلة في الختام ، فيلمٌ عن
الجانب الخفي و الخصب في الطفولة ، العوالم التي نعيشها و نتوحد معها ثم لا نلبث
ننساها بمجرد أن نكبر .
التقييم
من 10 : 8.5
0 تعليقات:
إرسال تعليق