كتب :
عماد العذري
بطولة :
لورانس أوليفييه ، جوان فونتين ، جوديث أندرسن
إخراج :
ألفريد هيتشكوك
ما يدهشني في تعامل الآخرين مع Rebecca هو الميل لوضعه ضمن أفلام هيتشكوك الأقل
بريقاً ، أو بشكلٍ أكثر دقة ضمن تحفه الأقل قيمة ، الكثيرون يقدّرون هذا العمل و
يعترفون بقيمته لكن العادة درجت على وضعه دائماً وراء أفلامٍ أخرى لهيتشكوك مثل Notorious او North by Northwest أو حتى Shadow of a Doubt ، على مدى سنواتٍ طويلةٍ من مشاهدتي لهيتشكوك مراراً و تكراراً قد يكون غريباً للبعض لو وضعت
هذا الفيلم بين أجود ثلاثة أعمالٍ أخرجها الرجل ، هناك مع Vertigo و Psycho .
ما يجعلني أتفهم التجاهل الذي نال منه هذا الفيلم
قسطاً وافراً هي حقيقة كونه واحداً من أقل أفلام هيتشكوك (هيتشكوكية) ، هذا أمرٌ لا تخطئه العين و ربما قد يولّد
نوعاً من الردة لدى عشاق المخرج الذي يعتبره الكثيرون الأعظم سطوةً و تأثيراً في
تاريخ السينما كله ، مع ذلك لا أرى في ربط تلك الجزئية بالقيمة المجملة للعمل
شيئاً مبرراً أو منطقياً ، الرجل يحقق هنا – و باكراً جداً – واحداً من المفاصل
المهمة و الذروات العظيمة في مسيرته ، كان أهلاً لتلك الثقة التي وضعها فيه المنتج
الشهير ديفيد أو سيلزنيك عندما جلبه من بريطانيا الى هوليوود ليخرج أول
أفلامه هناك ، قدم له رواية دافني دي موريير التي أحبها و رأى في موهبة هذا الشاب الشيء
الملائم لجعلها تنبض على الشاشة ، انجزها هيتشكوك في زمنٍ مثالي و كانت جاهزةً للإطلاق عام 1939
لكن ديفيد أو سيلزنيك بخبرة المنتج قرر تأجيل الإطلاق عاماً كاملاً كي
يتيح لفيلمه الآخر Gone
with The Wind فرصةً أكبر في سباق الأوسكار ، كانت النتيجة
تستحق ذلك ، بعد عامٍ واحد أصبح سيلزنيك أول منتجٍ يفوز بجائزة افضل فيلم في عامين
متتاليين ، حقق الفيلم لهيتشكوك دوياً هائلاً في هوليوود و منح أول ترشيحاته
الخمسة للأوسكار بالرغم من أنه بقي الحسرة الأزلية لدى عشاقه الذين لم يتمكنوا
لاحقاً من مشاهدة أي فيلمٍ آخر لهيتش يتوّج بالجائزة الهوليوودية الأثمن .
يحكي الفيلم - الذي كيّف نصه روبرت
إي شيروود و جوان
هاريسون – قصة مرافقةٍ
شابةٍ لإحدى سيدات المجتمع تلتقي ارملاً ثرياً يدعى ماكسيميليان
دي وينتر في مونتي
كارلو و سرعان
ما تترجم علاقتهما القصيرة الى زواجٍ سريع ينقل الزوجين الى منزل آل
دي وينتر العتيق في
ماندرلاي حيث لا تحظى العروس بالقبول و الإحترام الذي
حظيت به الزوجة السابقة ريبيكا دي وينتر ، التي يبدو بأنها ما زالت تحكم القصر من قبرها
.
يفتتح الفيلم بواحدٍ من أفضل المونولوجات في
تاريخ السينما ، صوت جوان فونتين المتوجس تسترجع حلم الليلة الفائتة عندما زارت ماندرلاي مرةً أخرى ، الرهبة التي يصنعها هيتشكوك تجاه ماندرلاي قصصيةٌ جداً ، تشعر بها مع صوت فونتين الذي يتناغم معه هيتشكوك بإحترافية استاذ ليستنطق
مذاقاً روائياً خالصاً في التقديم و الرهبة و الشحن ، يعطي لمشاهده الجزء الذي
يفتقده في السينما و يجده في أي رواية : الخيال ، يتيح المجال له كوسيط حيوي جداً
بين الحدث المروي و الصورة التي يفترض أن تترجمه ، خصوصاً و أنه يستغل هذه الرهبة
المقصودة تجاه ماندرلاي في التأسيس لرعبٍ قوطيٍ من الطراز الرفيع جداً و
الذي لا جدال ربما بأنه افضل من أجاده في تاريخ السينما كله ، أشعر في كل مرة
اشاهد فيها Rebecca بأن هذه النوعية من المعالجات لا يجيدها بمثل
هذا المستوى سوى ألفريد هيتشكوك ، المزيج الحذر من الدراسة السلوكية و اللمسة
الرومانسية و التطور الدرامي و حس الإثارة الذي لا يهتز إيقاعه و لو للحظة ، طبعاً
مع حملٍ ميلودرامي واضح في تلافيفه ، شيءٌ مثل جين
إير أو مرتفعات
ويذرينغ و أكاد
أجزم أن دافني دي موريير تأثرت كثيراً بالأخوات
برونتي عندما
أبدعت روايتها هذه .
في العمق يرتكز النص بصورةٍ اساسيةٍ على شخصياته
، السيدة دي وينتر لا تبدو شيئاً قيماً في الحياة ، هي تدرك ذلك
بشكلٍ ملفت ، تقضي وقتها مرافقةً لإحدى سيدات النخبة ، تلعب في حياتها اليومية دور
الشخص الذي يتأكد من أن كل الأمور تجري على ما يرام ، ذلك النوع الموجود دائماً
على الهامش ، و ربما في الأمر رمزيةٌ لعدم معرفتنا باسمها حتى تتزوج من ماكسيميليان
دي وينتر و تصبح
عندها السيدة دي وينتر ، لذلك يبدو زواجها من هذا الثري شيئاً أكبر من
أن تصدقه ، هي تخبره عندما يطلب يدها بتلك الطريقة الغريبة بأنها ليست من نوعية
النساء اللواتي يتزوجن عادةً ، عندما تقدم على تلك الخطوة تكون مدركةً الى حدٍ ما
بأن حياتها ستصبح شيئاً مختلفاً تماماً عما تعيشه الآن ، أكثر إيجابية ؟ ربما ،
أكثر سلبية ؟ من الممكن ، لكن الأمر يستحق الإقدام عليه ،
لا يرمي النص بأي ثقلٍ على الحب لجعل ذلك الزواج مبرراً و منطقياً ، العلاقة تميل لكونها علاقة ارتياح بينهما أكثر
من كونها علاقة حب ، هو يرى فيها شابةً حسناء رقيقة قد تتجاوز به مأساة ما حصل في
زواجه السابق ، و هي ترى فيه ثرياً وسيماً سيدخلها عوالم لم تكن تحلم بها أو تفكر
بأن ترتادها ، بالمقابل يوجد النص مساحةً كافيةً لخلق خصوصيةٍ من الغموض و الشعور
بالذنب و استحقار الذات و لوم الأقدار في شخصية ماكسيم ، هو لم يقتل زوجته ، لكنه ربما يفضّل السيناريو
الذي يقول بأنه قتلها حتى و إن أنكره أمام الآخرين ، ينطبق عليه حال الشخص الذي قد
يقدم على القتل بكل دمٍ بارد لو كان القتل أمراً مباحاً أو قانونياً ، جرحه الذي
صنعته ريبيكا كبيرٌ جداً الى الدرجة التي يتمنى معها موتها
بكل رضا نفس ، هو يريد أن يجهر بأنه قتلها – و يفعل ذلك مرةً مع زوجته – لكنه يبدو
أضعف من ذلك و اكثر حباً للحياة من أن ينهيها مقابل نزوة صدق قد تعيد له كرامته
الذاتية و احترامه لنفسه ، بالمقابل يبقى النص على صورة اللغز التي تكسو ملامح شخصية
السيدة دينفرز مدبرة القصر ، يبقي العلاقة الإنسانية الشخصية
التي جمعتها بسيدتها ريبيكا في خلفية الصورة و لا يغامر بتاتاً بالكشف عنها
كيلا تبدو أقل مما ينتظره المشاهد ، و هذا يتيح له مساحةً أكبر في تبرير و تفسير
جنونها و هوسها مما لو عمد لمزيدٍ من الإيضاح فيها ، و عندما تجن قرب الختام و
تدمر كل شيءٍ في ماندرلاي تفعل ذلك بسبب تحطم الصورة الإفتراضية لسيدتها
بنتيجة تحقيقات القضاء ، نراها تحرق كل شيء و كأنما تحرق الصورة المثالية التي
ارتبطت بسيدتها و بها أيضاً يوم كانت الذراع اليمنى لحاكم هذا القصر الذي كان ذات
يوم مهبط هوى المجتمع المخملي في إنكلترا كلها ، تحرق صورة الأيام التي كانت فيها
سيدتها تحكم المكان ، رحلت السيدة و يجب أن ينتهي كل شيءٍ معها ، النص على هذا
الصعيد لا ينتقص من قيمته في البحث عن مبرراتٍ واهيةٍ لما حدث ، يبدو الصاقه لذلك
بجنون السيدة دينفرز كافياً جداً وفقاً لطقوس هيتشكوك التي تجعل من صورة ما يحدث مبهراً و عظيماً و
غير قابلٍ للكثير من المحاكمة العقلية أو الجدل المنطقي .
أعمق من كل هذا تبدو ريبيكا هي شخصية الفيلم الرابعة بإمتياز ، يبدو وجودها
في خلفية الحدث شيئاً أيقونياً لهيتشكوك ذاته ، استحواذها الغريب على دانفرز يلهم في تركيبته استحواذ جودي
بارتون على سكوتي في Vertigo : إستحواذ
الصورة الفاتنة و المثالية التي استقرت في الغور الأعمق من الفؤاد ، يجعل منها النص شيئاً حقيقياً نابضاً و عظيماً
دون رؤيتها من خلال تكثيفه على جعلنا نراها في عيون الآخرين و في عيون المكان
أيضاً ، و هو تكثيفٌ كان ليبدو مبتذلاً ربما مع مخرجٍ آخر ، وجودها مكتملٌ جداً في
المكان ، حيةٌ جداً و تدير كل شيء تماماً مثل والدة نورمان
بيتس التي لا
نراها في Psycho.
مع ذلك
هو فيلمٌ من أفلام هيتشكوك طبعاً ، البصمة الأكثر بروزاً و تأثيراً على غيرها من
مخرجي السينما حول العالم ، منذ اللحظات الأولى تدرك أن عملاً كبيراً لهيتشكوك ينتظرك ، الرهبة التي يخلقها تجاه القصر ، و
الرعب الذي يجسده تناغمه مع الطبيعة المحيطة به ثم موزاييك الفخامة و الرهبة التي
تنضح بها الصورة اثناء لقاءنا به ، بالتأكيد كان لذلك أثره على فيلم هيتشكوك
Psycho و فيلم روبرت
وايس The Haunting بعد
عقدين من الزمان ، هيتشكوك معلّمٌ كبير ، في كل مشاهدةٍ لهذا الفيلم يبهرني
أن عقوداً سبعة قد مرّت منذ قدمه هيتشكوك للعالم ، يبدو حياً على صعيد الصورة و الرهبة و
الجو العام بالرغم من مرور السنوات ، صحيح أنه بعيدٌ عن الهيتشكوكية بالمفهوم التصنيفي لها و بإعتراف هيتشكوك نفسه ، إلا أنه يمتلىء بها تحت السطح ، سواءً
على مستوى حبكته المثيرة أو دراسته للجانب الهستيري في كل شخصية ، أو سيكولوجية
الرعب التي يجيدها دائماً ، أو حتى على مستوى الأدوات الإخراجية التي يتعامل معها هيتشكوك ببراعة أستاذ ، خصوصاً على مستوى تصوير جورج
بارنز الذي يقدم
من خلال الأبيض و الأسود استغلالاً مثالياً لطبيعة الحبكة و نوعية الإثارة التي
يحاول هيتشكوك تجسيدها فيه ، لوحاتٌ لا تمل مشاهدتها و
الإستمتاع بها مرةً تلو أخرى و أوسكارٌ مستحقٌ جداً لكاميرا جورج
بارنز التي
تتناغم مع القطع الحدي الذي يستخدمه كثيراً المونتير دون
هايس لتخلق هذا
الهارموني الممتاز في فيلمٍ لا يعمل تماماً وفقاً لطقوس هيتشكوك المرسّخة لاحقاً .
علاوةً على ذلك يبرز هيتشكوك – كالعادة – من خلال الأداءات الممتازة لنجومه ،
لورانس أوليفييه في ذروة مجده في الأربعينيات لا يظهر لنا بأنه
يقدم شيئاً أقل مما نتوقعه من قامةٍ كبيرةٍ مثله ، انقسامه في الدور ملموس و حذر
جداً ، من ناحية هو شغوفٌ عطوفٌ و راغبٌ في بدايةٍ جديدة ، و من ناحيةٍ أخرى أسيرٌ
لماضيه و راغبٌ على ما يبدو في عدم التحرر منه .
جوديث
أندرسون على الطرف
الآخر تقدم من خلال شخصية السيدة دينفرز واحدةً من أكثر الشخصيات شراً في تاريخ هوليوود
و من أكثرها بقاءً في الذاكرة على هذا الصعيد ، تسرق كل لحظاتها تقريباً و لا تتيح
لأي ثقبٍ صغيرٍ في الكادر أن يفلت من جاذبيتها و رهبتها ، صحيح أنه أداءٌ قائمٌ
على الكليشيه اذا ما اخذناه بمنظور هذا العصر ، لكن الشر الناضح في الصورة التي يقدمها
يجعل من السهولة لنا تقديره كما لو أننا عايشناه في فترة ظهوره قبل سبعين عاماً .
الأفضل برأيي يأتي من جوان
فونتين الشقيقة
الصغرى للعظيمة أوليفيا دي هافيلاند ، جوان عظيمةٌ في الدور ، هي قبل كل شيءٌ إختيارٌ موفقٌ
جداُ من هيتشكوك في الدور ، نوعيةُ اللطف و البراءة التي تحملها
ملامحها لا تعطي في الوقت ذاته نوعية الفتاة المستكينة أو المنكسرة أو الساذجة
التي قد تفترضها ملامح كهذه ، هذا أقدره جداً في عمل هيتشكوك على ممثليه كما أقدر اصراره الشديد على تجنب
العمل مع فيفيان لي – عشيقة أوليفييه في حينها – الأمر الذي ولّد رد فعلٍ سلبيٍ من
نجم العمل تجاه شريكته الشابة انعكس سلباً على نفسيتها أثناء التصوير و ازداد مع دفع
هيتشكوك اياها للإحساس بأن الجميع في موقع التصوير
يكرهونها ، تماماً كما يريد من شخصية السيدة
دي وينتر أن تشعر
في قصر ماندرلاي ، هيتشكوك يمارس ألاعيبه مع فونتين ، و ألاعيبه تلك تحقق أداءً محكماً و لا جدال في
جودته ، فونتين تتسق مع الشخصية و تصور انسحاقها المدروس رهينةً لشخصيةٍ لم تلتقِ بها من قبل ، تدرجها في الوصول لذلك انطلاقاً من شخصية الفتاة
البسيطة الحالمة يليق بممثلةٍ ناضجةٍ تعرف تماماً ما الذي تقوم به .
احد عشر ترشيحاً للأوسكار تليق جداً بتكاملية
العمل ، صحيح أنني أنقم أحياناً على التتويج المبتور الذي منحته الأكاديمية لهذا
الفيلم محروماً من جائزةٍ لنصه أو إخراجه أو أداءاته ، لكن ما الذي يمكن أن يضيفه
ذلك الى قيمته ؟!! ، في كل مرة اشاهد فيها شيئاً لهيتشكوك تبقى صورة هذا العمل كما هي صورة Vertigo و Psycho غير قابلةٍ للمساس بالرغم من اقراري بعظمة
عددٍ مهمٍ من أعماله ، بالنتيجة متعتي فيه هي البصمة التي لا تخطئها عينُ سينمائيٍ
عاشق : سير ألفريد جوزيف هيتشكوك .
التقييم
من 10 : 10
0 تعليقات:
إرسال تعليق