كتب : عماد العذري
بطولة : جون فويت ،
داستن هوفمان
إخراج : جون شلاسنجر
ذاكرتي مع هذا الفيلم تعود للوصمة التي التصقت به على الدوام كأول
فيلمٍ يحمل التصنيف X يفوز بأوسكار أفضل
فيلم ، كانت الأكاديمية جريئةً بما فيه الكفاية لتتوج فيلماً عن رجلٍ يبيع جسده للنساء قبل
أكثر من أربعة عقود ، هوليوود قلّصت تصنيفه فيما بعد الى R مع مقدار التغيرات التي
طرأت على سينماها لاحقاً ، مع ذلك بقيت تلك الجرأة التي امتلكتها الأكاديمية تجاهه علامةً
مسجّلةً له لم تستطع أن تقاربها الأكاديمية مجدداً حتى عندما سنحت لها فرصةٌ
مستحقةٌ جداً في كلاسيكية آنغ لي Brokeback Mountain بعد ذلك بستةٍ و ثلاثين
عاماً .
كانت هذه التجربة العمل الإخراجي الأول لمخرج Darling البريطاني جون شلاسنجر في الولايات المتحدة
بعد عددٍ من الأعمال الممدوحة في بلاده ، و لا أدري كيف وجد شلاسنجر في نص والدو سالت الذي يقدمه عن
روايةٍ لجيمس ليو هيرلي المادة الملائمة ليفتتح مشواره في هوليوود و هذا برأيي شيءٌ يحسب له
، خياره ذاك كان موفقاً للغاية خصوصاً مع النجاح النقدي و الجماهيري الكبير الذي
حظي به و الذي أعقبه ترشيح الفيلم لسبع جوائز أوسكار فاز بثلاثٍ منها على رأسها الجائزة
الكبرى ، في هذا الفيلم يحكي شلاسنجر قصةً عن جو بك إبن تكساس المنطلق
الذي يترك عمله كغاسلٍ للصحون في أحد المطاعم من أجل التوجه الى مدينة نيويورك حيث سيبيع جسده لمن
تدفع الثمن ، لكنه يتعرض هناك للخداع منذ ليلته الأولى و يدرك أن الأمور أصعب
بكثير مما كان يتخيله في هذه المدينة الكبيرة ، قبل أن يقع فريسةً لإحتيال ريكو ريزو الأعرج المصاب بالسل
و الذي سرعان ما يشفق عليه و يصبح صديقه الوحيد في المدينة .
أكثر ما أقدره في هذا العمل الذي يطارد انسلال الحلم من بين يدي شابٍ
غر تطحنه المدينة العملاقة هو ذلك التوازي المدروس بين تقدم الواقع في حكاية جو بك
و تراجع الحلم فيها ، ثم تراجع الواقع في قصة ريكو ريزو مع تقدم حلمه الأخير
فيها ، الفيلم يتحرى ردة الفعل تجاه صدمة الواقع و الوقوف حائرين بين مجاراة تلك الصدمة
من خلال التخلي عن الحلم ، و بين الحفاظ على الحلم من خلال العزلة و الإنكفاء على
الذات ، من خلال هذه الحيرة يقدم لنا نص والدو سالت الفرق بين جو بك و ريكو ريزو ، يبدو الأعرج ابن
الحي الإيطالي صورةً متقدمةً من ابن تكساس المنطلق ، ريكو ريزو تجاوز مرحلة الحلم ،
استوعب مسبقاً بأن الحياة ليست ورديةً الى الدرجة التي تحقق فيها أمنياتنا البسيطة
، يدرك أن الحياة في هذه المدينة العملاقة هي معركةٌ يوميةٌ شرسة ، تخلى عن كل شيء
و لم يبق في مخيلته سوى ذلك الحلم القديم بأن يذهب ذات يوم الى ميامي ، جو بك بالمقابل في طريقه
ليدرك ذلك ، يتخلى عن عمله و ينطلق بكل سذاجته و بساطته نحو نيويورك أرض الأحلام ،
تراوده كل ذكريات الطفولة و الشباب و كل ما تعرض له في الفترة السابقة لذلك ، في نيويورك يفشل الرجل منذ
ليلته الأولى ، يفشل بقسوة ، المرة تلو الأخرى ، قبل أن يلتقي ريكو ، هذا التوازي
المدروس بين صدمة الواقع و تراجع الحلم و الطريقة التي نتعامل بها مع ذلك من خلال
التخلي عن ذلك الحلم كما فعل ريكو أو الإحتفاظ به من
خلال الإنكفاء على الذات كما فعل جو بك يتبلور من خلال
العلاقة الطردية التي يقدمها بين حجم الحلم و قسوة
الإنكسار ، ريكو ريزو فقد كل أحلامه و صار كل يومٍ يعيشه عالماً بحد ذاته ، لذلك لا يبدو
انكساره سهلاً و لا يبدو حتى قابلاً للإنكسار على خلاف جو بك الذي تدمره استماتته
في الإيمان بحلمه المرة تلو الأخرى ، الفيلم عظيم على هذا الصعيد ، و العلاقة التي
يقدمها من خلال شخصيتيه تختزل كل شيءٍ يمكن أن يقال هنا ، روحان تائهتان أدركت
احداهن بصعوبة ما خلصت اليه الأخرى منذ زمن ، قرب الختام تنحصر كل الأحلام المادية
لدى جو في تأمين المال الكافي ليأخذ صديقه الى ميامي ليحقق أمنيته
الأخيرة لكنه يعجز عن ايصاله في الأمتار الأخيرة لرحلتهم الى هناك ، صورة رمزية لا
تنسى عن الآمال البسيطة المدمرة تحت عجلات قطار الحياة الذي لا يتوقف لأحد .
علاوةً على ذلك لا يمكن مراوغة حقيقة أن الفيلم كان جريئاً جداً
قياساً لعصره ، ليس فقط على مستوى الحكاية التي يقدمها التي تأتي حيويةً جداً و
نشيطةً جداً على الصعيد البصري بصورةٍ غير اعتياديةٍ مع افلامٍ تأمليةٍ كهذه ، و
لكن أيضاً على مستوى الخلفية الثقافية المشوشة لأواخر الستينيات و أوائل
السبعينيات ، حيث حقبة الأرواح التائهة و ضياع الإنتماء الثقافي ، و كأنما يقف
شاهداً على حقبةٍ محتضرة ، يذكرني على هذا الصعيد بتحفة بيتر
بوغدانوفيتش The Last Picture Show ، شلاسنجر يوظف من أجل ذلك
علاقة الوحشة الواضحة في كاميرا آدم هوليندر و هي تلتقط المدينة
العملاقة من عيني شخصٍ غريبٍ عنها ، و حتى في أكثر أفلامهم قسوةً و ردّةً تجاهها
لا يقدم أبناء نيويورك مارتن سكورسيزي و وودي آلن و سبايك لي مدينتهم بهذا الجفاف
و الوحشة ، شلاسنجر في مسعاه لتصويرها من عيني جو بك الشاب الساذج الغريب
عنها يوظف عدم انتماءه لها – كمخرجٍ بريطاني – ليلتقطها بشيء من السذاجة و الوحشة
و الرهبة و بالكثير من الحواجز ، نرى فيها ثقافةٍ تحتضر ، في التقاطه لدور السينما
و سيارات الأجرة ، و في تصويره للسقائف و الخرائب و لوحات النيون ، لم أستطع أبداً
أن ألفظ تصوير هذا الفيلم لنيويورك اواخر الستينيات كلما حاولت تخيلها في تلك
الحقبة ، الفيلم ابن بيئته جداً ، و بالرغم من تميزه في تحقيق ذلك الولاء الا أن
هذه النقطة برأيي هي النقطة السلبية الأهم في رصيده ، الفيلم وثيق الارتباط ببيئته
الزمانية و المكانية و هذا يجعل من طريقة تقبله في أي عصرٍ آخر لا توازي طريقة
تقبله في الحقبة التي اطلق فيها ، هو يستمد الجزء الأكبر من عظمته من بحثه الجريء
في المرجعية الثقافية لأميركا في تلك الحقبة حيث الهوية الضائعة و الأحلام
المسحوقة و لا يحاول كثيراً أن يخلق من خلالها رابطاً أزلياً يجعله يصلح لأي زمانٍ
و مكان ، صحيح أن قيمة و عمق الفيلم تكمن في دراسته الحذرة لتطور العزلة و الوحدة
كوسيلةٍ للحفاظ على الحلم ، لكن ذلك العمق يبقى مرتبطاً في الفيلم بالإطارين الزماني
و المكاني ، و لا أستطيع أن أتخيل أن يتقبل المرء هذا الفيلم بذات الطريقة التي
أستقبل بها عندما عرض أول مرة قبل اربعةٍ و اربعين عاماً ، ذات الجزئية التي
تجعلني أقدر كثيراً تحفة بيتر بوغدانوفيتش التي جاءت بعده بعامين .
وراء كل ذلك يأتي جون فويت و داستن هوفمان في الدورين اللذين
منحاهما – في واحدةٍ من 12 حالة فقط – ترشيحين لأوسكار أفضل ممثل خسراه لصالح لحظة
جون واين التي اُنتظرت لعقود ، أداء جون فويت الذي أصبح نجماً بعد
هذا الفيلم حقيقيٌ جداً ، اندفاعه و سذاجته و الطريقة التي يتكلم بها موارياً من
خلال ثقته المصطنعة قلقاً خفياً من تبخر احلامه ، كل ذلك يقدمه فويت بتمكن ممثلٍ موهوب
يستحق الثناء ، بالمقابل يحقق داستن هوفمان في فيلمه الثاني
أداءً تأكيدياً للمديح الذي حظي به قبل عامين عندما أطلقه مايك نيويل في The
Graduate ، يقدم واحداً من الأدوار المبكرة جداً للجيل الذي استلهم ريادة مارلون
براندو و جيمس دين بعد أكثر من عقدٍ على أسلوبيتهم ، و يجسد في أدائيه الممدوحين أواخر
الستينيات صورةً مبشرةً جداً لما فعله رفقة جاك نيكلسون و روبرت دي
نيرو و آل باتشينو في السبعينيات ، أداءه هنا هو واحدٌ من أجمل و أدق أدواره ، و
الكيمياء التي يصنعها مع فويت تحقق واحدةً من أكثر الثنائيات تميزاً في تاريخ هوليوود و من الملفت
أنها جاءت في العام ذاته مع ثنائية بول نيومان و روبرت
ريدفورد الشهيرة في فيلم جورج روي هيل Butch
Cassidy and the Sundance Kid .
تمنيت
كثيراً لو كانت الأكاديمية امتلكت ذات جراتها التي تعاملت بها مع Midnight
Cowboy عندما قدم آنغ لي Brokeback
Mountain عام 2005 ، نحتاج لذلك من حينٍ لآخر ، جون شلاسينجر لم يكن جريئاً فحسب كما تم الترويج لهذا الفيلم
مطولاً ، هو يحقق أيضاً فيلماً محترماً جداً عن الإنقسام الذي نعيشه بين الحلم و
الواقع ، و عن الخيار الذي علينا أن نتخذه بين التخلي عن الحلم من خلال مجاراة
الواقع ، أو التمسك به من خلال العزلة و الإنكفاء على الذات .
التقييم من 10 : 8.5
0 تعليقات:
إرسال تعليق