كتب : عماد العذري
بطولة : أليكساندر أنتونوف ،
فلاديمير بارسكي
إخراج : سيرجي إيزنشتين
هناك أفلامٌ ولدت
لتعيش ! لا أقصد عمومَ تلك الأفلام التي نالت من التقدير والثناء والاحترام
القدر الذي جعلها تبقى في ذاكرة عشاق السينما للأبد ، بل أقصد تحديداً تلك الأفلام التي
كان مخرجوها يعلمون جيداً المدى الذي يمكن أن تبلغه والأثر الذي يمكن أن تحدثه
بالنظر لمعرفتهم الدقيقة بما يمكن أن تضيفه لهذا الفن. وأنا أشاهده كل مرة، أكاد أراهن أن السوفييتي
الرائد سيرجي إيزنشتين صنع فيلمه هذا وهو يمتلك تلك المعرفة.
في الواقع إيزنشتين لم
يستهدف صناعته أساساً ! كان العمل مجرّد مشروعٍ وطنيٍ لإحياء الذكرى العشرين
للثورة الشعبية الموءودة عام 1905 والتي كانت الخطوة التمهيدية المبكرة للثورة البلشفية
التي نجحت بعد ذلك بإثني عشر عاماً. طُلب من الرفيق ابن السابعة والعشرين القيام
بإخراج فيلمٍ يحيي هذه الذكرى ويبقيها عالقةً في النفوس ، وبالطبع سخّرت له
الدولة الامكانيات المطلوبة ودعمته بجزءٍ من اسطولها البحري لصناعة ملحمة
سينمائيةٍ غير مسبوقةٍ على صعيد الامكانيات وظفت مجاميع تجاوز عددهم الثلاثة آلاف
فرد. في الواقع وجد إيزنشتين في هذه
المهمة فرصةً ثمينةً جداً لممارسة و تطبيق رؤيته الخاصة في انتاج الفيلم السينمائي.
بالطبع كان الرجل مدعوماً بنجاحه اللافت في فيلم Strike الذي قدمه قبل عام ، لكنه
كان يدرك أن هذه التجربة السينمائية ليست كأي عملٍ سبقها. كان صافي الذهن جداً وهو يعمل على هذا الفيلم في تلك الحقبة المحورية جداً من تاريخ السينما قبل عامين
فقط على ولادة سينما الحوار المنطوق ، وأعتقد أنه كان يدرك ربما المدى الذي قد يبلغه أثر فيلمه هذا. حقق الفيلم نجاحاً ساحقاً وقدم شيئاً غير اعتيادي على
مستوى الوصول بقيمة المونتاج الى ذروتها لدرجة أصبح بالامكان اعتباره أكثر الأعمال
تأثيراً في تطور فن المونتاج على الاطلاق. مع ذلك، لم تشفع له تلك الثورية والريادة ألاّ يُمنع من العرض أو التداول في عددٍ كبيرٍ من الدول التي اعتبرته فيلماً
للدعاية السياسية والترويج لانتصار الثورة البلشفية ، بل أنه مُنع في بلاده ذاتها في الحقبة
الستالينية خوفاً من تأثيره التحريضي على الناس ! بالإضافة لذلك النجاح صمد الفيلم على قائمة مجلة Sight and Sound العقدية لأعظم عشرة أفلامٍ في تاريخ السينما على مدى ستة عقودٍ كاملة ، وظهر فيها منذ قائمة عام 1952 وحتى عام 2002 قبل أن يتراجع الى المرتبة الحادية
عشرة في قائمة 2012 بفارق صوتٍ واحدٍ عن 8 1/2 الذي احتل المرتبة العاشرة ، و هو صمودٌ لم يتحقق سوى لفيلم جون رُنوار The Rules of The Games الذي ظهر في القائمة ست مراتٍ أيضاً. ملأ الدنيا وشغل الناس لتسعة عقود ، وحقق مجداً لا يكاد يضاهيه سوى القلة القليلة من كلاسيكيات
السينما ، وكان الفيلم الأفضل على الاطلاق لدى شارلي شابلن و بيلي وايلدر!
في الفيلم يعرض علينا
سيرجي إيزنشتين عن نصٍ
كتبته نينا أغداجانوفا شوتكو قصةً من خمسة فصول عن طاقم البارجة
الروسية بوتمكين المستائين من القسوة المتطرفة من قبل ضباطهم وقادتهم
والمعاملة اللا إنسانية التي يحظون بها أثناء أدائهم بواجبهم والغذاء الذي لا
يليق بالماشية الذي يحصلون عليه كل يوم. يُنظم البحارة تمرداً عنيفاً على متن البارجة
العائدة من الحرب الروسية اليابانية ، ويحرض ذلك التمرد ثورةً شعبيةً
فاشلةً ضد النظام الحاكم في مدينة أوديسا على ساحل البحر الأسود حيث قامت قوات القيصر بقتل المتظاهرين ببربريةٍ
على درجات المدينة الأمر الذي قاد في تداعيات طويلة الأمد لقيام الثورة البلشفية
بعد إثني عشر عاماً .
بنيوياً لا يسير النص
وفق تقاليد كتابة النصوص المتعارف عليها في تلك الحقبة. هو يصنع قصةً مهمةً ومؤثرةً دون وجودٍ للشخصيات (التقليدية) فيها ، وحتى دون حكايةٍ سينمائيةٍ بالمعنى التقليدي
لها أيضاً. يبدو الفيلم في بنيته الظاهرية أشبه بعمليةٍ توثيقيةٍ مصوّرة تكتسب الجزء الأكبر من
عمقها في آلية تنفيذها وليس من بنيتها القصصية. علاوةً على ذلك، لا يبدو الفيلم حدياً في تعبيره على خلاف أفلام الحقبة – الأوروبية منها على أقل تقدير – التي عملت
بحديةٍ شديدةٍ على تقسيم الشخصيات الى خيّرٍ وشرير وكثّفت بشدة العمل على
الحركات الإيمائية للشخصيات للتعبير عن ذلك التقسيم متأثرةً بالطبع
بالمجد الذي عاشته المدرسة التعبيرية الألمانية في تلك الحقبة. يتمرد الفيلم على
ذلك القالب ويبدو بالنسبة لي أكثر حقيقيةً من أقرانه في العشرينيات. يكتفي إيزنشتين بتقديم شخوصٍ يتحركون ضمن الحكاية ولا
تتابعهم الحكاية ! يتجلى لنا هذا بوضوح في مرحلة ما قبل التمرد التي نلتمس من
خلالها نوعية الحياة التي يعيشها البحارة على البارجة ونلامس المبررات التي يمكن
أن تقودهم الى ما فعلوا دون أن نجد أنفسنا مشتركين بالإهتمام بشخصيةٍ بعينها ، و
هذا يستمر لاحقاً طوال أحداث الفيلم. يُبقي إيزنشتين الحبكة الرئيسية للعمل فضاءً رحباً
تتحرك فيه شخوص الحكاية المجهولين بالنسبة لنا ، ولا ينحرف عن ذلك بتاتاً ، بل
أنه لا ينسج أي حبكاتٍ ثانويةٍ أو حتى انحرافاتٍ بسيطة عن خط الحبكة الرئيسي الذي
لا يحيد عن تجسيد الصورة العامة للثورة ، أي ثورة ، والكيفية التي تولد فيها
كنتيجةٍ لإحتقان مسبق يغذيه تدهورٌ في الحالة الاقتصادية أو الاجتماعية أو
السياسية للبلاد قبل أن تفجره شرارةٌ صغيرةُ تتمثل - هُنا - بمقتل بحارٍ روسيٍ ظلماً ووصول
جثته الى ساحل المدينة. ينظر فيلم إيزنشتين في صورته العامة في سيكولوجية الثورة عبر العصور
كلها من خلال محاولته هذه لتكريم واحدةٍ من نماذجها المقموعة على مذبح التغيير وسبر الحاجة الملحّة والأزلية لتكاتف القاعدة الشعبية مع القوة العسكرية لإحداث ذلك التغيير!
مع ذلك لا يمكن بأي
حالٍ من الأحوال اعتبار ان هذا الفيلم هو فيلمٌ عن الحكاية حتى من هذا المنظور السيكولوجي. إيزنشتين يستثمر حجم الامكانيات الضخمة التي وضعت تحت يده
ليكون ثورياً جداً على صعيد صورته. هو هنا يخلق الاحساس التوثيقي للحكاية من خلال
المونتاج أكثر من اعتماده في ذلك على الربط التقليدي للمُشاهد
بالقصة. جعل كيفية سردها أفضل و أهم للمشاهد مما تسرده ! بُنيَت أفكار الرجل (المستمدة في جذورها من نظرية المونتاج
السوفييتي الشهيرة) على أن قيمة الفيلم السينمائي لا تنبع من نوعية الصور التي يرصفها الى جوار بعضها بل من الطريقة التي يرصفها بها ، ومن نوعية الإيقاع الذي يحصل عليه من ذلك الرصف. وجد ذلك الفكر أفضل مساحةٍ له في هذا الفيلم الذي صور في أكثر من 1300 لقطة
وهو رقم يفوق ضعف الرقم الاعتيادي لأفلام ذلك العصر. استثمر إيزنشتين في ذلك عمل مدير التصوير إدوارد تيسر - الحيوي
جداً في زوايا التصوير وتوظيف الضوء والظلال – من خلال تصوير ذات المشهد من أكثر
من زاوية لإعطاء شعور البعثرة والفوضى (و هذا بحد ذاته كان سابقاً لعصره) ، ثم
أعطى الصورة الختامية ذروة تأثيرها من خلال نظريته في المونتاج التي استخدم فيها
معظم أساليب المونتاج المستخدمة اليوم ، مكثّفاً عمله على تجسيد التكرار إما من
خلال القطع أكثر من مرة على ذات اللقطة كحال الافتتاحية التي تجسد
غضب البحر (غضب البحّارة الكامن) من خلال لقطات مكررة لموجات تضرب الشاطيء ، أو من
خلال القطع أكثر من مرة في المشهد ذاته بين لقطاتٍ بمستوى مختلف
للتأكيد على القيمة الرمزية للمشهد كحال ما يحدث في افتتاحية الفصل الأول عندما
نلتقط من زوايا متعددة اولئك البحارة النائمين (حرفياً و رمزياً) والاستفزاز الذي
يحدث لهم من قبل الضابط المسئول عن ايقاظهم. قدّم إيزنشتين أيضاً التوظيف الأمثل لتأثير كوليشوف القائم على توليف شيئين مختلفين تماماً لصناعة شيءٍ ثالث مختلف عنهما وأوسع اطاراً في معناه وغير قابلٍ للتجسيد بصرياً وانما يتم رسمه في ذهن المشاهد. كل ذلك حقق ما أسماه إيزنشتين لاحقاً بالـ Montage Intellectualأو المونتاج الذهني والذي حرر السينما من حدية التعبير المباشر المحسوسة إلى التجسيد غير المحسوس للفكرة من خلال تلك الصور المرصوفة بجوار بعضها. كان هذا فعالاً وضارباً في صميم نظرية إيزنشتين الذي استخدم لأجلها القطع السريع بكثافة مختزلاً أكبر كميةٍ ممكنةٍ من الحدث في أقصر فترةٍ زمنيةٍ دون أن يخشى تأثير تلك السرعة على المتلقي. وفي الحقيقة لست متأكداً - ولا يوجد من وثّق ذلك بشكلٍ دقيق - لكنني أعتقد أن القطع السريع
بدأ فعلياً مع إيزنشتين حتى وإن استخدمه احدهم قبله.
كل هذا خدم إرث العمل ككل في الذاكرة
السينمائية على ثلاثة أصعدة : الأول دون شك هو تأثيره العظيم في توظيف المونتاج وترسيخ قيمته
للسينما كلها من بعده وإثبات ذلك عملياً من خلال تجاوزه الواضح لقيمة وأهمية الحكاية
السينمائية أو حتى أهميته كفيلم من أفلام الدعاية السياسية ، ومن الصعب اليوم أن يتم
تذكر هذا الفيلم كـ(حكاية) أو الحديث عنه كـ(دعاية سياسية) قبل الحديث عن تأثيره العظيم
في ترسيخ قيمة المونتاج السينمائي كأداةٍ تعبيرية. والثاني أنه قدّم
مثالاً مبكراً جداً على طريقة التحكم بعواطف الجمهور وتوجيهها في الحكاية دون التعامل مع الحدية
التي طبعت أفلام التعبيرية الألمانية في حقبة السينما الصامتة ، وربما ساعده
في توجيه ذلك تأثير مرجعيته الانتاجية كفيلم دعايةٍ سياسية في المقام الأول. والثالث هو
قدرته من خلال هذا النهج الاخراجي المختلف على صناعة تتالٍ ممتاز من
المشاهد السينمائية القابلة للدراسة لدرجة أن الكم الذي نتذكره منه في الختام يفوق
في الواقع طاقة عملٍ سينمائيٍ مدته 69 دقيقةً فقط ، وهذا كله في الواقع مرتبطٌ في
الأساس بالجزئية الأولى المتعلقة بالمونتاج والمزاوجة التي لا تنسى بين توليف
اللقطات المختلفة للمشهد الواحد ودعمها بطاقةٍ كبيرةٍ للموسيقى العظيمة
التي وضعها إدموند مايسل للفيلم والتي تعوض الكثير من قيمة الحوار
المنطوق حتى بمقياس التأثير التقليدي للموسيقى في الأفلام الصامتة.
هذا الهارموني
العالي للصوت والصورة يتجلى بشكلٍ ممتاز في المشاهد المتوترة للفصل الخامس من
الحكاية عندما تطوّق سفن الأسطول البارجة بوتمكين ، ويصل ذروة تأثيره قبل ذلك في مشهد (درجات أوديسا)
الذي من النادر أن نجد فيلماً ارتبط بمشهدٍ فيه كما ارتبط هذا الفيلم بهذا المشهد. في هذا المشهد يصل إيزنشتين بما يسمّى (المونتاج الإيقاعي) الى ذروة تأثيره وأفضل استثمارٍ له في زمانه. جلب
مادةً متنوعةً جداً على مستوى طول لقطاتها ونوعياتها ، وعمل بشكلٍ مدروس جداً
على استخراج التأثير الأعظمي لسيناريو المشهد المبتدع أثناء التصوير في الواقع والذي لم يكن مكتوباً اساساً في النص. يحدث هذا من خلال منح إيقاعٍ خارجي مدروس لتتالي اللقطات يربط الإيقاع الداخلي لكلٍ منها على حدة مع الفوكسة على عناصر بعينها ضمن المشهد (الأم المكلومة
أو عربة الطفل) من أجل أن يعود اليها من حينٍ لآخر ضمن هذه
المعمعة البصرية. خلق هذا تأثيراً مرعباً وسابقاً لعصره بالنسبة لفيلمٍ
يطلق في عشرينيات القرن الماضي، ولا عجب ذلك التأثر الكبير لدى عددٍ من كبار صناع
السينما في العالم - مثل فرانسيس فورد كوبولا وبرايان دي بالما وتيري غيليام - بنوعية (الايقاع الباعث على التوتر) الذي رسّخ
حضوره مونتاج سيرجي إيزنشتين في هذا
المشهد العظيم ، ولا يمكننا بالطبع أن ننسى التحية الصريحة للمشهد في فيلم برايان دي بالما The Untouchables .
برأيي يبقى هذا
الفيلم قصةً مختلفة ! مشاهدته من أجل الحكاية بذاتها أو من أجل أداءات ممثليه (و
جميعهم هواة) أو من أجل المقومات التقليدية للشخصيات فيه ظلم شديدٌ له. هو مختلفٌ
حتى بمنظور أفلام حقبته على هذا الصعيد. لكنه عوّض عن ذلك فجعل من القصة شيئاً
عظيماً ومؤثراً بفعل توظيفه الرائد للمونتاج الإيقاعي أكثر من كونه حقق ذلك من خلال السيناريو أو
تطور الشخصيات أو الأداءات التي يقدمها. هو ليس فيلماً لتحبّه بقدر ما هو فيلمٌ لتدرسه وتتعلم
منه وتقدره ، هنا تحديداً تكمن عظمة ما قدّمه سيرجي إيزنشتين للسينما .
التقييم من 10 : 10
0 تعليقات:
إرسال تعليق