كتب : عماد العذري
بطولة : راسل كرو ، جينيفر كونيللي
، إد هاريس
إخراج : رون هوارد
هناك نوعيةٌ معينةٌ
من الأعمال لا يجيدها سوى مخرجين مثل رون هوارد ، هذا الرجل استطاع في معظم ما قدّم منذ تحوله
للإخراج قبل ثلاثة عقودٍ من الزمان أن يعثر على التوليفة الناجحة لخلق معادلةٍ
دقيقةٍ بين الأحداث الحقيقية و الإثارة التي يمكن استنباطها من تلك الأحداث ، لم
يعد الأمر مصادفةً بالنسبة له بعد النجاح الملفت الذي حققه عام 1995 في Apollo
13 و العملين الممتازين اللذين قدمهما في Cinderella Man عام 2004 و في Frost/Nixon عام 2008 و بالتأكيد نجاحه الأكبر عام 2001 في A Beautiful Mind .
في فيلمه الفائز
بأوسكار أفضل فيلم و مخرج يحكي علينا رون هوارد و السيناريست أكيفا غولدزمان عن
كتابٍ لسيلفيا ناسار حمل الإسم ذاته قصة جون ناش طالب و مدرس
الرياضيات ذو الذهن الألمعي الذي أشاد به أساتذته و الذي يبدو مستقبله مشرقاً
خصوصاً عقب زواجه بالحسناء أليشيا و التطور الكبير الذي حققه في مسيرته من خلال ما أسمي بـ
(نظرية اللعبة) و من خلال أثر أبحاثه في ميكانيك الكم
و في النظريات الإقتصادية العالمية ، كل ذلك يهتز مع انغماسه في عمله
لصالح جهاز فك الشفرات التابع للـ CIA عندما يبدأ الشك يراود
الجميع في السلامة العقلية لجون ناش و ملامح الفصام الإضطهادي التي بدأت تتضح فيه ، مرحلةٌ كادت تدمره لولا
الوقوف و التفاني الذي أظهرته زوجته أليشيا و الكفاح العظيم الذي قدمته من أجل اعادته لحياته
الطبيعية ، قبل أن يمنح الرجل جائزة نوبل في العلوم الإقتصادية عام 1994 .
بالنسبة لي أعاني من
تفصيلٍ صغير مع أفلام رون هوارد تكمن في العلاقة التي تبدو مطبوعةً و مقولبةً بين
نوعية النصوص التي يختارها رون هوارد و الإخراج الذي يقدمه لها ، رون هوارد
مخرج يخرج وفق كتاب الإخراج ، كأنما هو تلميذٌ ممتازٌ في معهد الإخراج نال الترتيب
الأول في دفعته و مضى يشق مسيرته ، هو حرفيٌ جداً في جميع النصوص التي يتصدى
لإخراجها بل أكاد أجزم بأنه يختارها عامداً بحيث تحقق هذه الجزئية ، نصوص أفلام رون هوارد
جميعها تقريباً سهلة و واضحةٌ و مفهومة ، سهلة التفسير و سهلة التلقي ، صحيح أن
السهولة بحد ذاتها ليست عيباً بل هي ميزةٌ في أغلب الأحيان خصوصاً مع رون هوارد على
اعتبار أنها لا تأتي هشةً أو سطحية إطلاقاً ، لكن تلك الحرفية التي ينتهجها الرجل
في تقديمها دائماً تبدو و كأنما تعيقه – راضياً – عن التعبير عن لغته الخاصة ،
هي نصوصٌ جميلةٌ لقصصٍ رائعة و الرجل
يسردها على المشاهد بإتقانٍ و بإمتيازٍ لا تخطئه العين ، لكنه لا يمنح المشاهد
الإحساس أبداً بلغةٍ إخراجيةٍ خاصةٍ يمتلكها ، و هذا التفصيل البسيط هو ما يجعل ستيفن سبيلبيرغ
مخرجاً عظيماً بالنسبة لي على مستوى المخرجين الذين يقدمون الحكاية / الإثارة ، رون هوارد برأيي هو
مثالٌ واضحٌ جداً على السهل الممتنع في الإخراج السينمائي ، يكتفي دائماً بقصةٍ
براقة و مؤثرة و مكتوبةٍ بشكلٍ ممتازٍ و مؤداةٍ بشكلٍ بارع ، و يحقق من خلالها
الأثر المطلوب في المشاهد ، دون أن يشعره بأن هناك شيئاً خارقاً أو مختلفاً قد حدث
، الرجل يجيد ذلك في جميع أعماله التي شاهدتها له و ربما هو يصنع بصمته الإخراجية
الخاصة من خلال ذلك إذا ما قلنا بأنه لم يصنعها من خلال اللغة الإخراجية المميزة ،
فعل ذلك في Apollo 13 و كرره مجدداً في A Beautiful Mind و Cinderella Man و Frost/Nixon ، جميعها قصص مثيرةٌ و مؤثرةٌ مستمدةٌ من الواقع ، و جميعها تشعر
بشعورٍ عظيمٍ بعد مشاهدتك لها ، دون أن تستنبط لغةً إخراجيةً خاصةً بالرجل الذي
يقف ورائها .
هذا النص لا ينهج في
الواقع النهج التقليدي في تقديم السيرة الذاتية بالرغم من ولائه الواضح لمعظم طقوسها ، بنيته
أقرب لأعمال الإثارة التي تبنى بالصورة التقليدية للحركات الثلاث التي لا تبدو اعتياديةً في فيلم السيرة الذاتية عموماً ، هو يبدأ في الحركة الأولى بالتقديم و التمهيد
للشخصية و يضعنا في أقرب صورةٍ ممكنةٍ منها ، ثم يحقق إنقلابه في الحركة الثانية
نحو عمل إثارةٍ تقليدي يستلهم احدى المراحل المؤثرة في مسيرة جون ناش أثناء
عمله مع الإستخبارات الأمريكية و يبيّن حجم الأثر الكبير الذي أحدثته
هذه الفترة على المسيرة العلمية العظيمة التي كان الرجل على وشك تحقيقها و كيف
انعكس ذلك سلباً على كل شيءٍ في حياته بما في ذلك علاقته بزوجته المخلصة ، ثم يحقق
حركته الثالثة من خلال نتيجة حركته الثانية و كيف عاد الرجل ليحاول لملمة حياته و
السير بها بأقل الأضرار الممكنة تسانده في ذلك زوجته أيضاً ، غاية هذه البنية هو
تجسيد عظمة العاطفة و الحب في حياة من قد يبدو أبعد الناس عنها : عالم رياضياتٍ عبقريٍ
فاشل الى أقصى الحدود اجتماعياً !!، هو من هذا المنظور يبدو و كأنما يقدّم
قصةً عالميةً تتجاوز المجال الضيق لفيلم السيرة الذاتية ، و جون ناش يمكن
استبداله هنا باي شخصيةٍ اخرى دون أن يهتز ايقاع العمل ، هذا أقدّره كثيراً في نص أكيفا غولدزمان
، لكن مشكلته برأيي أنه لا يتخلى أساساً عن الكثير من طقوس فيلم السيرة الذاتية ،
و طالما هو لا يفعل يبدو التخفيف الشديد الذي يمارسه تجاه السوء الواضح الذي
امتلكته شخصية جون ناش عاملاً سلبياً يقلل من قيمة العمل و يمارس دوراً
تلميعياً للشخصية دون مبرر واضح ، أتذكر كل ما سمعته عن جون ناش بعد فوز هذا
الفيلم بالأوسكار : تخليه عن إبنٍ له و تخليه عن والدته ، شذوذه الجنسي الذي اقصاه
من وظيفته ، سلوكه الإجتماعي المكروه جداً و تصرفاته التي لا تطاق مع زملائه و
أساتذته ، رغبته التخلي عن مواطنته الأمريكية ، و المرحلة التي ادعى فيها بأنه
يتلقى خطاباتٍ من مخلوقاتٍ سماوية ، ثم طلاقه من زوجته أليشيا قبل أن يعيد
الزواج منها لاحقاً ، في الواقع لم أعر تلك الجزئيات اهتماماً في حينها و نظرت لها
من باب أنني أشاهد عملاً سينمائياً و ربما لا يكون في الأمر ازعاجٌ لغالبية
المشاهدين ، لكنني شعرت لاحقاً بأن نهجاً تلميعياً كهذا هو نقيصةٌ حقيقيةٌ في فيلم
السيرة الذاتية يخفف أثره قليلاً هنا بسبب عدم معرفتنا اساساً بأي شيءٍ عن جون ناش ، و
هو نهجٌ ستعلق له المشانق عندما يتناول شخصيةٌ من تلك التي نعرف الكثير عنها و
نشاهدها كل يومٍ على شاشة التلفاز ، صحيح أن مسئولية النص تكمن في التكثيف خصوصاً
عند تقديم عملٍ هو في الأساس سيرةٌ ذاتيةٌ لشخصيةٍ لامعة ، لكن ما يفعله غولدزمان هنا
يتجاوز مستوى التكثيف ، هو يلمّع الشخصية بشكلٍ صارخٍ قياساً لما كانت عليه في
الحقيقة ، يزيل كل السلبيات التي طبعتها و أثرت بها على غيرها ، و يقدمها أقرب الى
الضحية ، و المثير أكثر بالنسبة لي أن ما يتم ازالته من قصة جون ناش ( و
هو كثيرٌ فعلاً ) كان يمكن أن يجعل من هذه القصة أعقد و أكثر عمقاً و قيمةً و ربما
كان أحال الفيلم - فيما لو تحقق بالصورة المطلوبة - الى معالجةٍ سيكولوجيةٍ عظيمةٍ
في هذا الصنف تناطح أعظم انجازاته مثل Raging
Bull و Ed Wood و غيرها ، و هنا بالذات
يتضح ما أردت قوله عن رون هوارد الذي يعشق التعامل مع قصصٍ بهذا المستوى من السهولة
بالرغم من جماليتها و عمقها الواضحين .
أذكى ما في النص أنه
لا يفرّق كثيراً بين العمل الذي يقوم به ناش و افكاره الرياضية من جهة ، و بين الشخصيات الوهمية التي
ابتكرها عقله من جهةٍ أخرى ، و بالتالي هو يخلق نوعاً مسلياً من الإثارة دون أن
يبدو متصنعاً فيما يفعل ، هو لا يفرّق كثيراً في تقديم الطرفين و يجعلهما يتداخلان
بشكلٍ واضحٍ على خلفية يوميات ناش ، لذلك لا تشعر معه بأن ناش يتوهم إلا عندما
يبدأ هو ذاته بالشعور بذلك ، و تقر مع ذلك بأن النص لا يحتال عليك لتمرير هذا ، مشكلته
الوحيدة على هذا المستوى أننا لا نرى الكثير من عبقرية الرجل الرياضية أثناء كل
هذا ، و هو أمرٌ يبدو مهماً لتقدير قصة الكفاح ككل ، هو يقدمها لنا كمسلّمة لكنه
لا يجعلنا نعيشها سوى في موضعٍ أو اثنين ، لا نخرج على الأقل بصورةٍ مبسطةٍ ملموسةٍ
للأثر الذي أحدثته أبحاث الرجل في نظريات الإقتصاد العالمي بالرغم من أن غولدزمان كان
موفقاً في المناسبات النادرة التي استعرض فيها الألمعية الرياضية له ، و لا أعتقد
أن المشاهد سيتذكر في الواقع شيئاً عن جمال و ألمعية العقل الذي يحمل الفيلم اسمه
، كانت الملاكمة كتكتنيك حاضرةً بقوة في Cinderella Man و كانت عبقرية التشكيل موجودةً و تكاد تصرخ في Pollock ، لكن لا وجود للكثير من التجسيد
لقيمة العقل الجميل و العبقرية الرياضية التي كانها جون ناش و غيّر من
خلالها وجه الاقتصاد العالمي .
مع ذلك أقدّر في نص غولدزمان
كثيراً ما يفعله على مستوى البنية العامة للحدث ، يستخلص في بطله القيمة البسيطة و
الأساسية لكفاحه ضد الكثير من المسلمات ، سواءً كانت المسلّمات العلمية في اعمال
نظرائه من العباقرة ، أو المسلمّات الإجتماعية التي جعلته كائناً منفّراً في
المجتمع بسبب إصراره المجنون على كسرها و الضرب بها عرض الحائط ، وحدها مسلّمة
الحب كانت أعقد و أكبر منه و ووقف عاجزاً عن رفضاً و ضئيلاً أمام حل لغزها ، علاوةً
على ذلك هو يبرع في تقديم المرض العقلي في مكانه تماماً على خلاف كثيرٍ من الأفلام
التي تناولته ، في هذا الفيلم لا ينحرف المرض العقلي في الإتجاه المأساوي
الإنفعالي الجنوني الذي اعتدنا مشاهدته في السينما ، و لا يكون أيضاً مبهجاً و
مرحاً بحثاً عن دفعة تفاؤل قد لا تبدو منطقية بشانه ، هو يجعله يبدو كما يفترض
تماماً أن يكون و ينحت في إثارته وفقاً لذلك بحيث تبدو نابعةً من صميم تطوره و
ليست شيئاً دخيلاً عليه ، مشكلته الوحيدة في هذا الخصوص لا تكون في تقديم المرض ذاته
و إنما في وصوله بإثارته التي يصنعها كنتيجةٍ لذلك المرض الى الزوايا التي تجعلها
تكاد لا تصدق أو تكاد تقلب الفيلم كله الى عمل إثارةٍ محض ، صحيح أن هذا الشعور
يراود المشاهد لبضع الوقت ، لكن رون هوارد يعرف بالنتيجة كيف يعيد إيقاع فيلمه الى جادة الصواب
.
على مستوى التكنيك
يبدو رجل رون هوارد الأول هو دون شك مدير التصوير العظيم روجر ديكنز
الذي نال ترشيحاً للأوسكار ذلك العام عن فيلمٍ آخر حققه مع الكوينز ، في
هذا الفيلم يقدم كعادته تصويراً أنيقاً و جذاباً و خالياً من البهرجة يبدو مختلفاً
قليلاً عما اعتدناه منه ربما بسبب خصوصية العمل ، حركة الكاميرا في مساحات الجامعة
مريحةٌ جداً للبصر و التصوير بالإضاءة الطبيعية سواءً من ضوء الشمس أو من ضوء
المصابيح في مكتبات الجامعة و ممراتها يعطي إحساساً عالياً بطبيعية المناخ المحيط بناش ، ثم
يتقدم تصوير ديكنز تدريجياً نحو الطقوس النوارية مع تقدم الفيلم في إثارته ليخلق
عالماً وهمياً مختلفاً و فريداً عن الصورة الكلية ، و إن كان لم يرقني في حركات
الكاميرا الإلتفافية حول جون ناش في أكثر من موضع و التي تبدو غريبة و بدائيةً في آن ،
مع ذلك هي لا تقلل من قيمة الصورة الممتازة التي يقدمها لنا هنا ، بالمقابل يقدم
مونتيرا الفيلم دانيال هنلي و مايك هيل إمتيازاً على مستوى التوليف و الإيقاع بالرغم من أنهما
يتراوحان بين القوة و الضعف في التنويع الذي يطرقونه تقنياً بين القفز و الذوبان و القطع العادي
بطريقةٍ لا تبدو مبررةً أو ذات معنى بالرغم من جودة الإيقاع الذي يحققونه ، وراء الجميع
تنسل موسيقى جيمس هورنر الحنونة أحياناً المجنونة أحياناً اخرى لتغني
المعنى و تدعمه دون أن تطغى أو تأخذ ماهو أكبر من حيزها المعتاد .
مع ذلك فجزء كبيرٌ من
قيمة الفيلم تأتي من أداءاته ، راسل كرو يقدم واحداً من أكثر أداءاته تمكناً و إحكاماً ، يفني
ذاته في الدور أكثر من أي دورٍ آخر لعبه بالرغم من أنني أحب أداءه في فيلم The Insider أكثر من أداءه هنا ، راسل لا يبهرج الدور بالرغم من قابليته الشديدة لذلك ، يتوحد
مع دواخله و يبدو احياناً و كأنما يتصرف من صميم شخصيته و دون احساسٍ بوجود تصويرٍ
او كواليس ، بالمقابل تشرق جينيفر كونيللي ( التي التقت هنا بزوجها لاحقاً بول بيتني ) ،
جينيفر تقدّم واحداً من الأدوار النسائية المساندة المثالية للجوائز
حيث المرأة المخلصة و الحنون و الداعمة لزوجها ، و هي تغني الشخصية كثيراً على هذا
الصعيد في دورٍ يبدو مثالياً بالنسبة لها هي بالذات ، و تصوّر بدقة مع تقدم
الشخصية إمرأةً منقسمةً بذكاءٍ بين حبها لرجلها و خوفها منه ، و هو تصويرٌ يستحق
بجدارة جائزة الأوسكار التي نالتها ، و الى جوار كرو و كونيللي يقدّم
الفيلم أداءات ثانويةً ممتازةً من إد هاريس و كريستوفر بلامر و بول بيتني .
فيلم A Beautiful Mind هو فيلمٌ عن إدراك الذات ، و عن حاجتنا أحياناً لمعرفة قيمتها
الحقيقية كسبيلٍ فقط لإيقاف تدميرها ، فيلمٌ عن الضعف الإنساني بالرغم من قوة
مادياته أمام الجانب الروحي المحض في الإنسان ، و عن تلك اللحظات الإنسانية الصعبة
التي يحتاج فيها القسم الأيسر من الدماغ لكل ما يستصغره في القسم الأيمن منه .
التقييم من 10 : 8.5
0 تعليقات:
إرسال تعليق