كتب : عماد العذري
بطولة : ناداشدا ماركينا ، أندريه
سميرنوف
إخراج : أندريه زفياغينتسيف
لا أتذكر على وجه
الدقة كم عملاً استهلالياً لمخرجه اخترته ضمن قائمتي لأفضل الأفلام خلال العقد
الماضي ، لكن The Return كان أحدها بالتأكيد ، لم
يكن مجرّد باكورة أعمال مخرجٍ روسي شاب ، بل أيضاً عملاً مبشراً للسينما الروسية
الجديدة و إمتداداً جيداً لسلسلةٍ طويلةٍ من المبدعين الروس الذين لطالما أمتعونا
منذ سيرجي آيزنيشتين و أليكساندر دوفجينكو وصولاً إلى نيكيتا ميخالكوف و أليكساندر سوكوروف
مروراً طبعاً بميخائيل كالاتزوف و أندريه تاركوفسكي .
كان حضوراً مهيباً لأندريه زفياغينتيسيف
في ذلك الفيلم الذي ربح أسد فينيسيا الذهبي عام 2003 ، و بالرغم من أن آمالاً كهذه من الصعب
أن تبنى على عملٍ واحد ، كان الإستقبال الفاتر لفيلمه الثاني The Banishment عام 2007 دافعاً خفياً لي لتجنب مشاهدته ، مع ذلك كان الأسلوب الذي
حكى به الرجل حكايته الأولى حافزاً قوياً لي لإعتبار أن ما حدث لم
يكن مجرّد مصادفة ، لذلك سعدت كثيراً عندما نال فيلمه الثالث Elena جائزةً تكريميةً خاصةً من
مهرجان كان السينمائي الدولي عام 2011 ، لم يطلق الفيلم بعدها
على نطاقٍ واسع ، و انتظرت لقائي به حتى عام 2012 عندما حظي بفرصته أخيراً للعرض
حول العالم .
في هذا العمل يقص علينا
زفياغينتسيف في هذا النص الذي كتبه رفقة أوليغ نيغن
حكاية إيلينا ، ممرضةٌ في أواخر خمسينياتها أو أوائل ستينياتها وظّفت
للعمل قبل عشرة أعوام مع ثريٍ عجوزٍ يدعى فلاديمير يعاني مشاكل صحية ، تفانيها في عملها سرعان ما أوقعه
في حبها فتزوجها ، و مع ذلك بقيت علاقة الرعاية و التمريض هي الطاغية بينهما ، سيرجي ابنها
من زواجٍ سابق هو عاطلٌ سكير و فلاديمير لا يأبه له بالرغم من ضائقاته المادية المتكررة ، مع
ذلك تبقى إيلينا أماً تحاول مساعدة ابنها مادياً من خلال زوجها ، نظرياً
تسير الأمور على ما يرام ، لكن عودة الود بين فلاديمير و ابنته
الجافية كاتيا عقب الأزمة الصحية التي مرّ بها يقلب حياة إيلينا رأساً
على عقب .
نجم هذا العمل هو
النص المحترم الذي كتبه زفياغينتسيف و نيغن ، و نجم هذا النص ليس الحبكة و تطورها بقدر ما هو البناء
العظيم للشخصيات و تطورها ضمن الحكاية و انعكاس ذلك التطور بإنسيابية شديدة على
توليد الحدث ، يؤسس النص ببطءٍ لشخصياته و يتركها تتمدد و تتطور فعلاً إثر فعل ضمن
متواليةٍ منطقيةٍ نابعةٍ من دواخلها و بطريقةٍ تجعله يبدو منطقياً جداً عندما
يقدّم الإنقلاب الدرامي للحدث ، بطلة الفيلم إيلينا الممرضة التي
أصبحت زوجة ، يقدّمها لنا النص منذ البداية و حتى النهاية أقرب الى مدبرة المنزل
أكثر من كونها زوجة ، يعمل على التأسيس البطيء لأثر البون الإجتماعي بين إيلينا و فلاديمير و
كيف انعكس هذا على العلاقة الزوجية التي نشأت في الأساس بناءً على علاقة مصلحةٍ و
رعاية ، هذا لا يأتينا بصورةٍ مباشرة أو حتى عن طريق الحوار ، هو ينسل بذكاء ضمن
الصور التكرارية التي يستهل بها النص تقديمنا للبيئة التي تحتوي البطلين ، تجواله في
تلك الشقة الراقية في موسكو مطلع الفيلم يضعنا في صورة نوعية العلاقة التي تجمع إيلينا بفلاديمير دون
الحاجة لما هو أكثر من ذلك ، في عمق البناء لا يحاول النص أن يجعل ايلينا تخفف
أو تتجاوز رابطها العائلي ، و في الوقت ذاته لا يجعلها تقلل من حرصها على زوجها و
لا حتى يجعل ذلك الحرص أو تلك الرعاية مصطنعةً مثلاً ، هذا يخدم طبيعية الشخصية
التي تخدم السياق كثيراً لاحقاً ، و في الوقت ذاته لا يجعلها أيضاً تبرر تصرفات
ابنها و رعونته و تسكعه لكنه مع ذلك يبقيها أماً ، بالمقابل فلاديمير رجلٌ
صارمٌ من الطبقة الغنية ، لا يبدو لنا سيئاً اطلاقاً ، هو يعامل إيلينا بشكلٍ
جيد ، لكنه على الطرف الآخر لا يروقه تعامل زوجته بهذا التسيّب مع ابنها الذي
ساعده أكثر من مرة ، و حتى عندما لا يروقه هو لا يحاول أن يبدو فجاً أو يقلل من
احترام زوجته ، علاوةً على ذلك يقدّم النص علاقةً حقيقيةً جداً بين فلاديمير و
ابنته ، الشابة التي جافت والدها لسنوات ، يزول ذلك الجفاء عندما تزوره ، لا نعلم
على وجه الدقة اذا ما كان قد زال فعلاً لكنه على الأقل زال للحظات في عيني فلاديمير و
هذا هو الأهم لتطور الحدث ، يعيدنا النص للرابط الأزلي الذي جمع والداً بإبنته و
كيف أن ذلك الرابط بحد ذاته قادرٌ على ازالة كل الرواسب بينهما ، النص من خلال
العلاقتين اللتين ينسجهما على جانبي الشخصيتين الرئيسيتين (إيلينا بإبنها
، و فلاديمير بإبنته) لا يحاول ان يشعرك بالمقت تجاه ايلينا أو فلاديمير ،
أنت تتقبلهما كشخصيتين اسستا بشكلٍ جيدٍ و قدمتا مبرراتهما بشكلٍ واضح ، لا تحتاج
لتبريرٍ أكثر من كونها أماً ، أو أكثر من كونه أباً ، إيلينا تعلم بأنها
الأمل الوحيد لإبنها و لحفيدها الذي سيضطر للإنضمام للجيش في حال لم يدفع والده
رشوةً لأحدهم من أجل قبوله في جامعةٍ ما ، و فلاديمير يعلم – بعد النوبة
القلبية التي داهمته – أن الوقت قد حان للتكفير عن التعامل السيء الذي كان مع
ابنته على مدار سنوات نشأتها ، شعورنا بالشخصيتين عالٍ جداً ، صحيح أن النص ينهج
في تأسيسه نهجاً لا أستسيغه يعتمد على الحوار المشبع ، لكنني أعترف أنه لا يجعله
يبدو فائضاً في أي موضع ، و يضعه في المكان المناسب و بالكمية الصحيحة تماماً ، و
ربما هذا ما يساعده على تجنب توليد تعاطفٍ حقيقيٍ كاملٍ تجاه الشخصيات في الفيلم ،
في الواقع – ووفقاً لما يرينا النص – يكون من حق فلاديمير ألا يمنح
شخصاً عاطلاً عن العمل المال من حينٍ لآخر ، و هو من أجل ذلك الشعور يرينا سيرجي
ليجعلنا لا نستسيغه و نقتنع نوعاً ما بوجهة نظر فلاديمير ، إيلينا أيضاً
لها وجهة نظرها ، إيلينا فعلاً خدمت الرجل ، و فعلاً تفانت بصدق في رعايته لكنها
لحوحةٌ جداً فيما يخص ابنها العاطل و نجدها تحاور زوجها و تلومه أكثر من مرةٍ حول
ذلك الموضوع ، لكنها بحنان الأم لا تحاول أن توجّه اللوم ذاته لإبنها المتسكع ، كما
أن لوم إيلينا لفلاديمير و تذكيره بما يقوم به لإبنته الجافية يبدو أيضاً
للمشاهد منطقاً أعوجاً على اعتبار أنها ابنته في كل الأحوال ، النص يجعلنا نشعر
بذلك فعلاً و نفكر بهذه الطريقة ، يتبنى الرغبة الشديدة لدى فلاديمير في
التكفير عن خطأه ، و يجعل تلك الرغبة تتجلى في طلبه رؤيتها في فراش المرض ، يلتقيان
بعد سنين في غرفة المستشفى ، تخبره إبنته عن رأيها في الإنجاب و تجنبها له لأن
الجينات ستلعب دورها و جيلٌ مريضٌ لن ينتج سوى شيءٍ مماثل ، تشير إليه و هذا يتم
إسقاطه على الفيلم كله ، و كأنما تخبره أن التغيير يحدث في الأساس من السلف ،
ينتقل بعد ذلك إلى الخلف ، و هو وحده من كان يستطيع تغييرها ، تماماً كما أن ايلينا هي
وحدها من تستطيع تغيير سيرجي ، مشهد مصالحة فلاديمير و ابنته درسٌ حقيقيٌ في كتابة النص ، يتدرج من اللامبالاة ،
إلى التجهّم ، إلى التهكم ، إلى اللوم ، إلى العتب ، إلى التقبل ، دون أن ينزلق إلى الرضا ، واحدٌ من
أجمل مشاهد المصالحات التي قد تشاهدها في حياتك ، بمجرد أن تقارن كيف تدخله الشخصيتان
و كيف تخرجان منها و كيف تتدرجان فيه تدرك جماليته و نفاذه و قدرته على احداث
التحوّل الأهم في الفيلم من خلال مشهد الوصيّة التالي الذي هو أعظم و أذكى مشاهد
الفيلم و خلاصة اللوحة التشكيلية التي رسمها النص بعناية لشخصيتيه قبله ، تحدث جريمة
القتل بالطريقة التي تبدو لنا فيها ايلينا و كأنما تجيدها أو يمكن ان تكون حقيقية و مقنعةً
بالنسبة لها و لتفكيرها ، لم يسمح لها عقلها المشوش و الذي يعمل الآن بسرعة مسرّعٍ فوتوني أن تفكر بغير تلك الطريقة ، و الأجمل عند هذه النقطة المحورية أن النص لم يكن قد صنع أي وترٍ رومانسيٍ حقيقيٍ بين الزوجين قد يضره درامياً أو قد يجعل التحول
العنيف عند هذه النقطة مهزوزاً ، عقب الجريمة يكون رد فعل ايلينا مؤثراً
جداً و حقيقياً ، هي ليست كما تبدو عليه فيه ، تبكي و تتأثر و تنهار لأن عالمها
الذي ينهار فجأة هو ما دفعها لذلك ، ترتكب
جريمةً لا نلومها عليها كثيراً ، لكننا نستسخف دافعها ربما عندما نرى واقع الأشخاص
اللذين جرى من أجلهم ما جرى ، تعود هنا معضلة الجينات للظهور ، يبقى الدافع
الغريزي العاطفي للسلف المشكلة الأساسية للخلف ، لذلك كانت ايلينا هي
الوحيدة القادرة على تغيير سيرجي لكنها لم تفعل ، و لذلك لا يختلف حفيدها ساشا عن ابنها
سيرجي ان لم يتجاوزه في سوءه ، يؤكد النص وجهة نظره بهذا
الخصوص لاحقاً عندما يعلن سيرجي أنه ينتظر مولوداً آخراً ، بينما تتابع الكاميرا
في مشهدٍ رائعٍ ذو لقطةٍ طويلة ما يقوم به ساشا مع رفاق السوء في الجوار ، يضعنا النص في معضلةٍ أخلاقية
تتجاوز حقيقة أن ما حدث هو جريمة قبل كل شيء : هل يستحق سيرجي أو ساشا أساساً ان
نزهق روحاً لأجلهم ؟! ، الأجمل أن النص لا يضع في معضلته تلك أي محاكمةٍ لإيلينا ،
لا يوجد في الفيلم أي محاكمةٍ شاعريةٍ لأبطاله ، هو يتركهم فقط – و منذ البداية - في
دوامةٍ من الأهواء التي يحركها المال في خلفية الصورة دون أن يجعل تلك الخلفية
تبرز للأمام و لو قليلاً ، لا يبدو فلاديمير بخيلاً لنا ، و لا تبدو إيلينا طماعةً أيضاً
، كلٌ يريد أن يضع المال في المكان الذي يراه مناسباً ، لذلك تتطور الأحداث بتلك
الطريقة ، و لذلك هو لا ينتهي أيضاً كما تنتهي الأفلام على شاكلته ، لا يقول لك كم
كان أي طرفٍ مخطئاً فيما فعل ، هو يقدّم وجهات نظرهم و لا يحاكمهم طالما أن
المشاهد موجودٌ فعلاً و هو قادرٌ على ذلك .
في صورته ينهج زفياغينتسيف
ذات النهج الذي وضعه لـ The Return ، تناوله للتباين
الإجتماعي مدروسٌ و حذر ، يعمل من خلال كاميرا مصوّره ميخائيل كريشمان على
خلق تباينٍ بصريٍ بين البيئتين دون أن يجعل ذلك صارخاً في الصورة ، هذا يليق و
يتناسب جداً مع واقعية الفيلم و تقدمه البطيء و صدق شخصياته ، لذلك لا يستحوذ
الفارق الإجتماعي بين البيئتين على الصورة ، هو يعمل على ذلك من خلال الإنسيابية
العالية لحركة الكاميرا في شقة فلاديمير و التي تبدو و كأن الكاميرا تطفو فيها على سطحٍ زلق ،
تخلق رحابةً محببةً للنفس في هذا المكان ، ثم تقيّد تماماً في المشاهد الأخرى في
منزل سيرجي ، هذا فعال دون أن يكون صارخاً و يخلق لدينا احساساً
ممتازاً بالمكان دون أن يولّد فينا أي حميميةٍ تجاهه ، خصوصاً مع اللقطات المكررة
لروتين إيلينا اليومي مطلع الفيلم .
في الروح طبعاً هناك إيلينا ،
تجسدها ناداشدا ماركينا بإحساسٍ عالٍ جداً بالدور الذي يبدو نابعاً من
صميم ذاتها ، خصوصاً في رسم التباين غير المبتذل بين بهجات إيلينا
البسيطة في منزل سيرجي ، و ملامحها الملولة في منزل فلاديمير ، أداءٌ
ممتازٌ لدورٍ هاديء – أكثر من كونه قليل الحوار – لكنه واضح الأفكار و مبرر
العواطف ، و بالرغم من أنها تدير المشهد وحدها تقريباً إلا أن يلينا ليادوفا
تبرز بوضوح في كافة مشاهدها ، أداءها لدور كاتيا يولّد في الشخصية إيقاعاً حذراً من الوقوع في فخ
الكراهية لدى المشاهد بطريقةٍ قد تجعل من الصعب تقبل مبرراتها كفتاةٍ لم يعاملها
والدها كما يجب ، نحن نلومها بقدر ما نتفهمها أيضاً ، و هذا امتيازٌ من ليادوفا في
الدور .
قد لا يكون Elena فيلماً عن الغني و الفقير
أو عن البون الإجتماعي في موسكو المعاصرة بالرغم من وضوح ذلك في الخلفية البعيدة للصورة
، هو فيلمٌ عن الناس ، عن اطلاق العنان لرغباتهم للتعبير عنها ، و عن الدروب التي
تقودنا فيها تلك الرغبات عندما لا نتمكن من التحكم فيها دون أن يكون فيلماً عن
العواقب التي تنتج عنها ، راقني على أكثر من صعيد ، تأسيس شخصياته العظيم و تطورها
البطيء و توازنه عندما يحدث تحول حكايته الأهم ، تصويره الأنيق و الموسيقى
الهيتشكوكية التي يبدعها فيليب غلاس فيه ، معضلته الأخلاقية و لغته الشرقية و بناءه
العظيم لم يجعلني استطع مراوغة الإحساس بأنه مقطوعةٌ منقوصةٌ معصرنة من رائعة كيشلوفسكي
العظيمة The Decalogue ، هذا الإحساس بحد ذاته يستحق التهنئة بالنسبة لي .
التقييم من 10 : 9
0 تعليقات:
إرسال تعليق