كتب : عماد العذري
بطولة : جيسيكا تشاستين ، جيسن
كلارك ، جول إدغيرتن
إخراج : كاثرين بيغالو
أتذكر عندما نشرت
الخبر أول مرة عن اعتزام كاثرين بيغالو اخراج أول فيلمٍ من نوعه عن تصفية الزعيم السابق
لتنظيم القاعدة أسامه بن لادن و حيثيات ما قيل يومها عن أن هذا الفيلم كان
ليتناول قصة عقدٍ كاملٍ من المطاردة المستميتة لزعيم تنظيم القاعدة ، و
أن السيناريست مارك باول اضطر لإعادة السيناريو بأكمله - عقب إعلان الرئيس
الأمريكي باراك أوباما عن مقتل بن لادن في الثاني من مايو 2011 - من أجل منح الفيلم نهايته
التي يستحق ، الآن بعد المشاهدة أعتقد بأن النص احتاج كثيراً لذلك التحول
التاريخي .
في الواقع لا أعلم
على وجه الدقة كيف كانت الصورة لتكون لو كان هذا الفيلم مجرد مطاردةٍ إستمرت لمدة
عقدٍ دون أن تنتهي ، فالمشكلة الجوهرية التي يعانيها و تكاد تفتك به لدى كل من لم
يرق له و التي تتعلق بدرامية العمل المقتولة عملت تلك النهاية وحدها - التي أعاد مارك باول
كتابة نصه من أجلها - على التخفيف منها ، و درامية النص المعدومة كانت لتكون كارثيةً
لولا أن الفيلم ينتهي بنجاح تلك المهمة ، النهاية - دون مبالغة - هي البعد الدرامي الوحيد لهذا الفيلم .
قبل تلك النهاية يحكي
علينا مارك باول قصةً - فيها بعضٌ من روح نصه الفائز بالأوسكار لفيلم
The Hurt Locker مع بونٍ دراميٍ شاسع – عن العقد الذي تلى هجمات الحادي عشر من سبتمبر
2001 و الجهود التي بذلتها الإستخبارات الأمريكية على مدى عشرة أعوام من أجل
الحصول على بن لادن ، يبدأ من عمليات التعذيب و الإستجواب التي مارستها
الـ CIA على عددٍ كبيرٍ من المشتبه بهم من أجل حصر تشعبات القضية و التقاط
طرف الخيط الذي قد يوصلها إلى بن لادن ، الكثير من الأمور تغيرت على مدى عقدٍ من الزمان ، و
وحدها مايا عملية الإستخبارات الأمريكية في باكستان من أبقت عينها
على القضية .
مجدداً تلتقي كاثرين بيغالو
بنص مارك بول ، لكن أياً من الشريكين لا يحاول أن يشعرك فعلاً بأنه
يقدّم شيئاً مختلفاً ، لا أتكلم هنا عما يصل إلى المشاهد و الذي قد يتباين بإختلاف
الآراء ، أتكلم عن النوايا ذاتها ، نص مارك بول و إخراج كاثرين بيغالو يبدوان في نتيجتهما المجملة و كأنما هما محاولةٌ
قنوعة لمجاراة النجاح الكبير لفيلمهما الفائز بست جوائز أوسكار قبل ثلاثة أعوام The Hurt Locker ، ما يقومان به فعلاً يتلخص في التخفيف إلى درجة الإزالة لأي بعدٍ
دراميٍ حقيقيٍ في العمل و ضبط إيقاع الفيلم وفقاً لذلك بطريقةٍ لا تجعله يختلف في
جوهره عن أي عملٍ توثيقي بغض النظر عن كونك تعرف بضعة أسماءٍ من طاقم ممثليه .
و بالرغم من أن النص
يتميّز على عددٍ من المستويات ، إلا أنه يعاني على صعدٍ أخرى ، أجمل ما في النص
أنه لا يتذاكي ، لا يحاول أن يحشر الخلفية السياسية أو الرغبات الشعبية أو التوجه
الشخصي حتى لدى كاتبه في جعل السطور تبدو أعمق مما هي عليه ، هو يخبرك صراحةً – و بفجاجةٍ
ربما قياساً لفيلم يستمر 157 دقيقة – أنه فيلمٌ عن تلك المهمة ، فقط لا غير ، هو
يتخلى بوضوع عن ردات الفعل الشعبية عقب الحادي عشر من سبتمبر ، يكاد لا يكترث بأي
شيءٍ كان يجري في البلاد أصلاً ، و يتخلى بذات الطريقة – و كما فعل في نص The Hurt Locker – عن أي توجهاتٍ سياسيةٍ في التعامل مع ما يجري ، هو يحكي لنا ببساطة
قصة كل ما كان يجري خارج الولايات المتحدة في الحجرات و المواقع السرية
للإستخبارات الأمريكية حول العالم من أجل تنفيذ مهمةٍ محددة هي قتل بن لادن ، ليس
هذا فحسب بل أنه لا يحاول حتى أن يتبنى وجهة نظرٍ صريحةٍ أو رسمية ، ليس أمريكياً
كما اعتدنا ، هو يبدو و كأنما يحيّد ذلك تماماً ، يرسم لنا الحدث من وجهة نظر ما
نقوله و يقوله الكثيرون تحت الطاولة عن حقيقة ما جرى ، هذا فعّال برأيي ، لا هو
يتبنى وجهة نظرٍ أمريكيةٍ براقةٍ للحدث ، و لا هو يعرض أصلاً أي شيءٍ يمت لتنظيم
القاعدة بصلة ، هو فقط الشاشة التي نرى من خلالها كل ما راودنا من تساؤلات حول
حقيقة ما جرى ، منذ الربع ساعة التي نشاهدها لعمليات التعذيب في باكستان وصولاً
للألعاب القذرة التي مورست في بولندا أو في الكويت أو في أفغانستان وصولاً إلى العملية ذاتها التي لا نشاهد فيها أسامه بن لادن
و لا نعرف هل هو فعلاً من كان هناك ؟ ، و نتسائل كما تساءلنا سابقاً لماذا كان قبره لجّة
المحيط الهندي ؟ و ماهو الدليل المادي المثبت على مقتله ؟ و غيرها من التساؤلات ،
من هذا المنظور يكون النص فعالاً و ذكياً في تناوله ، مشاهد التعذيب التي يصورها
في بدايته تبدو إيجابيةً جداً للعمل – و أراهن أن وجودها سحر نقاد السينما
الأمريكيين للدرجة التي دفعتهم للمغالاة بتقدير الفيلم كله – النص يحاول من خلال
هذه المشاهد أن يكون دقيقاً في رؤيته ، لا يجمّلها و لا يزيّفها ، و أجمل ما فيها
أن النص لا يتماهى في منحها مسحةً ساديةً ، هو يجعلها تبدو مجرد قيامٍ بالواجب ، و
هذا برأيي يجعلها تبدو أكثر قسوةً مما لو بدت مجرّد نزوةٍ ساديةٍ قام بها محققٌ
لإستنطاق سجينه ، النص له خطٌ معينٌ يسير عليه و هو لا يحاول تجاوزه بحثاً عن
دغدغةٍ عاطفيةٍ تجاه مجدٍ أمريكيٍ زائف جاء على حسابٍ انتهاكات مورست في أصقاع
الأرض من أجل هدفٍ لا علاقة للكثيرين به ، لا يوجد مشهدٌ واحدٌ في هذا النص بعيدٌ
عن القصة المحور ، لا يوجد تفصيلٌ صغيرٌ حتى ينأى بنفسه عن عملية تصفية أسامه بن لادن
، النص مكثفٌ جداً ، و تكثيفه هو تاجه و آفته في آن ، النص يقتل الدراما بالمعنى
الحرفي للكلمة ، صحيح أن تحويل ذلك الكم من التوثيق الى عملٍ درامي هو أمرٌ صعب ،
لكن المشكلة هنا أن النص لا يبذل أي جهدٍ إطلاقاً ليحقق ذلك ، و يضحكني فعلاً إستياء
كاثرين بيغالو الدائم في تصريحاتها من هذه التهمة ، و إصرارها
على تصويره كدراما ذات بعدٍ توثيقيٍ و سياسي ، هذا غير صحيح ، عندما أسترجع
كلاسيكيات هذا النوع مثل Z أو The
Battle of Algiers أتأكد تماماً من البون الشاسع بينها و بين سلسلةٍ ممتدةٍ من الأعمال
التي حاولت مزج التوثيق بالدراما ، أو ما تعرف اصطلاحاً بأعمال الديكودراما ،
علاقات هذا النص غير مبنيةٍ حتى ضمن الإطار المحدود للعلاقات التي يمكن أن تبنى في
البيئة الزمانية و المكانية لهذا الحدث ، نظرياً لا مشكلة في ذلك قياساً لفيلمٍ
يتناول بيئة العمل الإستخباراتي ، لكن المشكلة تحدث عندما يحاول النص أن يشخصن
المسألة بالنسبة لمايا ، نحن لا نشعر بذلك إطلاقاً ، بالرغم من أن جيسيكا تشاستين
– التي تثبت في عامين فقط أي ممثلةٍ عظيمةٍ ننتظرها فيها - تبذل جهداً مضاعفاً
لتجعل ذلك مقنعاً ، و مع ذلك هي لا تنجح بالصورة المطلوبة لأن النص يتابع على مدى
ساعتين و نصف اصراره على جعلنا بعيدين عن شخصيته الرئيسية ، نحن نحتاج بشكلٍ واضح
لنعرف مايا أكثر ، تبدو هنا مجرد (شيء) و لا تتجاوز ذلك
لتكون (شخصاً) بالنسبة لنا ، و عندما تطل علينا النهاية في الختام
نشاهد – كبطل كاثرين بيغالو و مارك بول في The
Hurt Locker – عودةً أخرى للديار ، لكنها هنا أقل تأثيراً و أقل حقيقيةً بكثير من
سابقتها ، النص لا يدخلنا إلى مايا أساساً كي نشعر بخوائها النفسي بعد انتهائها من مهمتها ، يبقيها
شخصيةً ثنائية الأبعاد طوال أحداثه ، ليس هي فحسب بل كافة شخصياته ، هذا مستهجن
بنظري خصوصاً و ان ثلاثية الأبعاد هنا لا تكون مجرد بعدٍ كماليٍ او ديكوري بل هي
ضرورةٌ قصوى تضرب في عمق العمل كفيلم إثارةٍ نعرف جيداً جداً النهاية التي يقودنا
إليها ، و بناء شخصياتٍ حقيقيةٍ كان ليكون فعالاً جداً في رفد تلك الإثارة الواضحة
الخط مسبقاً .
النص كذلك يستنزف 157
دقيقةً في تصوير عمليات القاعدة التي تجعله ينتقل من مكانٍ لآخر و من عامٍ لآخر بسرعة
، الأمر الذي يضر العمل على صعيدين ، الأول هو قتله الإحساس بالزمن ، و الفيلم
يعاني مشكلةً توقيتيةً واضحة ، الفجوات الزمنية التي يصنعها غير حقيقية ، و مايا التي
يصوّرها كانت تحتاج لمرحلةٍ حقيقيةٍ من الزمن على الشاشة لتصل إلى حالة اليأس و
فقدان الصبر و الأمل ، لذلك هي تتطور بسرعة على الشاشة من الفتاة المكافحة المجدة
في مهنتها ، إلى الفتاة الشرسة الفظة التي لا هدف لها سوى تصفية بن لادن ، و بالتالي
تغليف احساسنا الحقيقي بأي ضغطٍ زمنيٍ على مايا ، الأمر الذي يزيد من تسطّح الشخصية و يجعل على عاتق
ملامح جيسيكا تشاستين وحدها أن تشعرنا بوطأة الزمن على كاهلها و هي
تمضي وحيدةً في ذلك الدرب ، النص يستهلك ساعتين و نصف في تصوير مجموعةٍ من المهمات
و المواقع و التواريخ غافلاً - من خلال الدراما التي يقتلها - عن صنع أي تواصلٍ
حقيقيٍ مع المهمة أو على الأقل مع فهم تفاصيلها و طريقة نظر مايا لها ، و
الثاني أن إصراره على تجسيد ما يمكن اختزاله خصوصاً في عمليات القاعدة
المتنوعة حول العالم يجيء على حساب خلق شخصياتٍ ثلاثية الأبعاد – حتى بالمفهوم
الأبسط لذلك – و خلق بيئةٍ ثلاثية الأبعاد تحيط بمايا أيضاً ، النص لا يستهلك أي
جهد في تعريفنا مثلاً بالتسلسل الوظيفي القائم على المهمة ، أو الدور الذي يقوم به
الآخرون مثلاً ، هناك قادة يظهرون و يختفون ، هناك منفذون و ضباط و جواسيس يطلون
علينا من حينٍ لآخر ، هناك بيروقراطية ، و بين كل ذلك هناك مايا ، و هذا
لا يبدو حقيقياً بالنسبة لي ، حتى من منظور أن النص يحاول الفوكسة على بطلته
يتناسى أنه يقدّم الرؤية المحايدة لما حدث في تلك العملية ، و هذا يقلل كثيراً من
حجم ما يجري على اعتبار أن العملية تبدو أكبر بكثير و أعقد بكثير من مجرد جهد و
اصرار و متابعة عميلٍ استخباراتي واحدٍ وضع هدفاً محدداً نصب عينيه على مدى عقدٍ
كامل ، النص يناقض نفسه هنا و يبدو – على خلاف ما يفترض – (أمريكياً)
جداً على هذا الصعيد .
و مع أن النص
بحياديته الفجة و قتله جميع الأبعاد الدرامية للقصة و عجزه عن بناء شخصيةٍ حقيقيةٍ
واحدة يبدو نصاً بلا روحٍ فعلاً ، إلا أنه بإعتقادي كان محظوظاً بإعادة كتابته عقب
مقتل بن لادن ، عملية تصفية اسامه بن لادن تبدو حقيقيةً جداً على الشاشة ، تصميم إنتاجها
ممتاز و إحساسنا بالمكان و التفاصيل عالٍ جداً ، و هي معمولةً جداً أيضاً على صعيد
التوقيت – على خلاف معظم مفاصل الفيلم – و حصول المشاهد على نهاية أساساً هو
المنعطف الدرامي الوحيد في هذه القصة الجافة ، الفيلم سيءٌ جداً على الصعيد
الدرامي ، أنت تمضي قدماً بسهولة في استكمال احداث الفيلم ، لكنك بصعوبة ستشعر
بأنه يلامسك في أي شيء ، هو لا يخلق أي مشتركٍ مع مشاهده بالرغم من أن يمتلك بعض
المفاتيح لذلك ، و أشك بأنني سأشعر برغبةٍ حقيقيةٍ في إعادة مشاهدته ، و هذه
مشكلةٌ جوهريةُ برأيي لأن الفيلم ليس عملاً وثائقياً ، و مع ذلك فجميع شخصياته و
جميع ممثليه (بإستثناء أفضلية إجتهادٍ شخصي لجيسيكا تشاستين) هم
مجرد دمى يسيرون وفقاً لخطة ، و يمكن لأي شخصٍ أن يقوم بأدوارهم تلك ، و لا أعتقد
أن هناك مجالاً لمقارنةٍ حقيقيةٍ بين هذا الفيلم و سابقه على الصعيد الدرامي تحديداً
.
إخراجياً لا تطوّر كاثرين بيغالو
كثيراً من أدواتها الإخراجية ، هي تتحسن على صعيد الإيقاع الذي هو دون شك واحدٌ من
أفضلها هذا العام و هو ربما أفضل ما في الفيلم الذي لا يبدو مملاً بالرغم من
توثيقيته الجافة جداً ، رجلها الأول في ذلك هو المونتير ويليام غولدنبيرغ ، لكن
كاثرين بيغالو بالمقابل تستنسخ الثيم البصري لفيلمها السابق
حرفياً ، الأماكن ، و الألوان ، و الكاميرا المحمولة – بالرغم من أنها لا تبتذلها –
حتى التفاصيل التقنية البسيطة لا تشعر بأنها مختلفة ، و مشهد التفجير في معسكر خوست
بأفغانستان على سبيل المثال يبدو نسخةً مطابقة لمشاهد التفجير في فيلمها السابق ، علاوةً
طبعاً على أنها ترتكب الأخطاء التقنية ذاتها فيما يخص الإعتناء باللهجات و اللغات
و الأماكن و كأن الشرق كله قطعةُ واحدة ، على الأقل صار هذا مبتذلاً كثيراً خصوصاً
عندما يأتي من مخرجين هم قادرون على أن يكون أكثر دقةً و موثوقية بخصوص هذه
المسألة ، كما فعل الرائع بول غرينغراس في United 93 مثلاً .
فيلم Zero Dark Thirty يحاول أن يكون ديكودراما حقيقة من منظور أنه يمتلك أدواتٍ ممتازةً لذلك ،
حكايةُ جذابة ، مواقع متعددة ، و أحداث ممتدةُ على عقدٍ كاملٍ من الزمان ، لكنه
يقتلع الدراما من جذورها ، و يكتفي بأن يكون مجرد عملٍ توثيقي ذو إيقاعٍ ممتاز
يحاول أن يكون – درامياً - أكبر من ذلك ، لكنني أشك في أنني شاهدت ما هو أكبر من
ذلك .
التقييم من 10 : 7
0 تعليقات:
إرسال تعليق