كتب : عماد العذري
بطولة : سالڤاتوري ستريانو ، كوزيمو
ريغا ، جيوڤاني آركوري
إخراج : باولو و ڤيتوريو تاڤياني
هناك لقطةٌ في منتصف
هذا الفيلم تقترب فيها الكاميرا (بالأبيض والأسود) من صورةٍ لجزيرةٍ صغيرةٍ
سرعان ما ندرك أنها مجرد ملصقٍ حائطي، ثم تلوّن الصورة لتشعرنا لوهلة بأن اللقطة
امتدت مونتاجياً لتنقلنا إلى تلك الجزيرة فعلاً ، ثم لا نلبث ندرك أنها ذات الملصق
، لكن هذه المرة بالألوان ! في الواقع هذه اللقطة الفريدة جداً في الفيلم تحكي
الحكاية كلها !
عندما أُعلن عن فوز
الفيلم بجائزة الدب الذهبي كبرى جوائز مهرجان برلين السينمائي
الدولي قبل عامٍ من الآن لم أشعر بأي شعورٍ من الراحة تجاه قرار لجنة مايك لي ، خصوصاً
بعدما قرأت قليلاً عن قصة الفيلم. توالت عبارات الترحيب به على مدار العام ، وأصبح بالطبع مرشح ايطاليا في سباق أوسكار أفضل فيلم أجنبي الذي لم يمضِ فيه بعيداً. لكنني لا
أنكر أنني فتنتُ به بعد مشاهدته ، ثم فتنت به مرةً أخرى في مشاهدةٍ ثانية .
في هذا الفيلم يتعامل
باولو وڤيتوريو تاڤياني (اللذين لم أشاهد لهما شيئاً من قبل) مع
مشروعٍ مسرحيٍ سنوي يديره المخرج المسرحي فابيو كاڤالي في سجن ريبيبا في العاصمة الإيطالية روما. في هذا
المشروع يتم اختيارُ عددٍ من المساجين للقيام بالمسرحية السنوية التي يقيمها السجن
لزواره. هذا العام سيقوم المشروع بتقديم مسرحية يوليوس قيصر لويليام شكسبير. تبدأ الإستعدادات وتجارب الأداء وتوزيع الأدوار ، وتبدأ منظومة السجن الكبيرة
بالتحوّل الى روما القديمة ، قبل أن يكشف لنا الأخوان تاڤياني عن
ماهية عملهما هذا .
هذا الفيلم يذكرني في
بعض تفاصيله بأفلام الفرنسي الكبير روبير بروسون ، للدقة بالفكر السينمائي للرجل وليس
بنهجه الاخراجي او ادواته. أنت لا تشاهد من يؤدي الدور ، بل تشاهد الدور ذاته. هذا التصور الذي يُجرّد العمل الفني من وسيطه يحقق في الواقع الغرض السينمائي والمسرحي الأول الذي تُهنا عنه لسنوات (الفرجة)! السينما
ولدت في الأساس من أجل الفرجة ، التقاط الحياة ! ولأن ذلك الالتقاط تحوّل الى
صناعةٍ لابد لها من وقودٍ لتستمر كان لا بد من ايجاد ذلك الوقود الذي لا ينضب ،
فجاءت الحبكة والمعالجة والأداءات وغيرها. الفيلم يُعيدك إلى جوهر
كل شيء مقدّماً الفرجة الخام المستخرجة من جوهر الغاية السينمائية
أو المسرحية وبشكل خاص الوثائقية ، دون أن يُمثّل أحدهما دون غيره. هذا العمل
الفني ليس مسرحية ، وليس فيلماً روائياً ، وليس فيلماً وثائقياً. يكسر
قيودها جميعاً ويعيد الفن إلى أصله في خلق الفرجة في (حدثٍ) و (عناصر) و (صورة). يزاوج بين المسرح والتوثيق والسينما ويزيل الحاجز بينها ليخبرك بأنها قبل كل
شيء (فن). هو مسرحيةٌ لا تستطيع أن تنكر أنها فيلمٌ روائيٌ شاهدته ، وهو فيلمٌ روائيٌ لا تستطيع أن
تنكر أنها مسرحية أداها أولئك المساجين ، وهو توثيقٌ مصورٌ راصدٌ لذلك التزاوج
قبل كل شيء !
في جوهره ، يقدّم الأخوين تاڤياني فيلماً صادقاً جداً يعرضُ (أدواراً) تتقمص ذاتها ، مُلغياً فكرة التقمص أساساً. إذا كان غرض العمل السينمائيٍ هنا اظهار
كيف أن مجموعةً من المساجين قادرون على كسر حاجز سجنهم والتألق على خشبة المسرح
في عرضٍ ليوليوس قيصر ، فإنه - قبل أن يجعلك تسأل نفسك هل هم نجحوا في عملهم
فعلاً أم لا ؟ هل التصفيق مردّه فقط هو تعاطف الحضور معهم كمساجين يؤدون مسرحيتهم
السنوية أم أنهم أبدعوا فعلاً في أدائها ؟ - يباغتك بإجابته ، يخبرك أنه خدعك ، وأن ما كان يفترض أن يسحرك ضمن
تلك الحكاية قد سحرك فعلاً وسحر غيرك بدليل أنك الآن تسأل تلك الاسئلة ! قيمة
الفيلم الجوهرية المشروطة بنجاحه أصلاً تكمن في إثبات قدرة أولئك المساجين على كسر
قيودهم بأبسط ما يمتلكون ، ليس بإثبات وجودهم كمساجين أدوا أدوارهم المسرحية في
يوليوس قيصر وانتزعوا اعجاب حضور (المسرحية) ، بل بإثبات وجودهم كمساجين أدّوا شخصياتهم
الحقيقية كمساجين يؤدون أدوارهم المسرحية في يوليوس قيصر وينتزعون اعجاب مشاهدي (الفيلم)! انتقالٌ متناوبٌ من (المسرح) إلى (أفلمة المسرح) إلى (رصد أفلمة المسرح) دون حدودٍ واضحةٍ لذلك الإنتقال. حتى الميتا سينما تبدو تعبيراً قاصراً لوصف ما يحدث. الفيلم - مثل تلك الصورة
التي تحدثت عنها في بداية حديثي - مجردُ ملصقٍ نعتقدُ لوهلة بأنه أكثر حقيقيةً
عندما يتحوّل الى اللون قبل أن نكتشف أنه ما يزال ملصقاً حائطياً ! ذات الصورة
المؤطِّرة للمسرحية التي تجري في مسرح السجن وتقدّم لنا مرتين بالألوان ، الأولى
مطلع الفيلم والثانية في نهايته. ومع أن ذلك التكرار يفصل أساساً بين المسرحية والفيلم - بصرياً - ضارباً جزءاً من العمق الحقيقي للعمل ،
إلا أنني أتفهم فيه رغبته في إظهار أن الصورة التي يراودنا شكٌ بأنها ليست كما تبدو
عليه ، هي في الواقع كما تبدو عليه !
عمق العمل الحقيقي
يكمن في النهج الذي ينهجه الاخوان تاڤياني الكاتبان والمخرجان لتوليف أبطالهم مع بنية العمل ككل. من النادر أن تكون عملية التوليف ذاتها هي عمق عملٍ ما ، بعيداً عن
الحبكة أو الشخصيات أو التطور أو المضمون الحواري أو قيمة الأداءات ذاتها. يبدأ هذا في الواقع من اختيار المسرحية ذاتها. المسرحية التي اختار فابيو كاڤالي
اخراجها في العرض السنوي للسجن - أو من منظورٍ آخر المسرحية التي اختارها الأخوان تاڤياني
لتكون محوراً للحدث - لم يتم اختيارها عبثاً. على خلاف معظم
مسرحيات شكسبير التي تطغى فيها دراسة السلوك الإنساني للشخصيات المحور
على أي شيءٍ آخر في الفيلم ، يوليوس قيصر مسرحيةٌ
عن الإنسان ، عن الإنعتاق ، وعن البحث في الجوهر الداخلي لتناقضاته ولماذا يقوم
بما يقوم به. في خطبتي بروتس و مارك أنطونيو تُبرِزُ الحكاية منظورين مختلفين لتصرفات
بطليها ، ومعها تشعر فعلاً بأن الحكاية وصلت إلى روح المؤدين ووصلت إلى روح الجمهور في
السجن. يتحوّل السجن إلى روما ! روما القديمة في قلب سجنٍ من سجون روما المعاصرة ! المسرحية
لا تعبّر عن شيءٍ فيهم بل هي تستنطق - ضمن منطق الوحوش التي تكالبت على روما في
عصر يوليوس قيصر ، كلٌ لغرضه – الحس الإنساني الضائع لدى كل مؤدٍ. يعرض الفيلم شخصيات المسرحية تماماً كما يعرض مؤديه ذاتهم، لكنه لا يدرسهم سلوكياً كما يمكن لمسرحيةٍ شكسبيريةٍ أخرى أن تفعل. يوليوس قيصر ليست مسرحيةً عن الشخص/الفرد، ليست ماكبث أو هاملت أو عطيل. هذه
مسرحيةٌ عن الخيانة والشرف والمجد والحب والتضحية ، كلماتٌ لم يعتد هؤلاء
المساجين تداولها في ذات السياق وربما لهم مفاهيمهم الخاصة عنها. لذلك تشعر بصدق وبساطة أدواتهم في محاولة خلق المشترك
بين شخصياتهم وذواتهم. معهم نشعر فعلاً بأنهم يجتهدون ويتطورون ، نشعر بإحساسهم
بأهمية وغرابة ما يقومون به ، ونشعر بتأثرهم وسعيهم للظهور في أفضل صورةٍ ممكنة ربما لأن ما يقومون به هو ربما الأكثر خصوصية وقيمةً طوال حياتهم ! ومع ذلك
يبقونَ (هُم) ، ويبقى احساسنا بحقيقيتهم عالٍ جداً على حساب احساسنا بشكسبير الذي يخطفون بحضورهم السحر من قصته بميزانٍ ذكيٍ
جداً : أن تهتم بالتجربة لا
بالمسرحية ! لا يكتفي الفيلم فقط بأن يجيد اختيار المسرحية لكنه يقدم حواراتها بالإيطالية أيضاً ، بل وبالإيطالية العامية ووفقاً للهجة
المحلية لك مؤدٍ. يحاول ان يزيل عن كاهل (أدواره / مؤديه) مجهوداً اضافياً من العمل على الدور ،
وهذا فعال بالنسبة لهم ويدخلهم أكثر في العملية ويقربهم أكثر مما يقومون به وسرعان ما تشعر بأنهم نجحوا في ذلك دون أن تستوعب تماماً أن نجاحهم في الواقع كان
مزدوجاً : المساجين هنا (يتعلّمون الأداء) ، ثم (يتعلّمون الأداء كمساجين
يتعلّمون الأداء) على اعتبار أن هناك نصاً للفيلم في الواقع ! لذلك تبدو
مشاهدهم في غرفهم وفي الممرات وفي ساحة السجن حقيقية جداً ومخادعة ، مع شعور تشويشٍ ذكي ينتج من تحرير هؤلاء المؤدين في شخصياتهم ينجح في
الكثير من المواضع وتشعر معه بأن شعور الإلغاء بين ما يقوم به مخرج المسرحية
وما يقوم به مخرجا الفيلم قد حدث. هناك نصٌ طبعاً لما تشاهده ، والنص قائم على خلق توازٍ بين المسرحية والفيلم . لكننا لا نعرف متى يخرج المؤدون خارج النص
المكتوب لهم ، ولا نعرف أين هي الكواليس في الواقع! يُقحم الفيلم تداخلات الخروج عن
النص ليخدم الهدف الأساسي له في منح انسانيةٍ أكبر لشخصياته على اعتبار ان
شخصياته ليست بروتس و مارك أنطونيو و يوليوس قيصر و إنما هم المساجين أنفسهم. لا يتذاكى ليشعرك
بأن الأمر ليس كما يبدو عليه ، بل يترك مخرجه المسرحي فابيو كاڤالي يتماهى
مع تلك التداخلات ويريك ابطاله داخل أدوار المسرحية وخارجها ليُنسيك أن الأمر تماماً كما يبدو عليه وأنهم هم
الأدوار قبل كل شيء ! يجعلهم يحاولون ارتداء القناع وينسيهم للحظة أن
القناع هو وجههم في الواقع ! يُزيل عنك الحاجز بين (أستعدادهم للمسرحية)
و (أدائهم لأنفسهم وهم يستعدون للمسرحية)! ومن خلال النتيجة التي تحصل عليها من مشاهدته الآن ، يتجاوز الفيلم (محاولة اثبات أن تلك الحثالة المجرمة يمكن أن تستخرج أفضل ما فيها
بأقل الأدوات الممكنة وفي أضيق مساحةٍ من الحرية ، وتبهرك) ، إلى ابهارك فعلاً عندما ينجح هذا الفيلم بهم. تكتمل الحكاية ربما - بطرافة - عندما يقودهم الى برلين ويخطف دبها الذهبي في تأثير (ما بعد سينمائي) لا يمكن وصفه وإن كان
مرهوناً بنجاح العمل أساساً!
قد تكون مشكلة الفيلم برأيي هي هذا العمق ذاته! أنه يجعل قيمته وأهميته مرهونةً بحقيقة ممثليه ، ولا يستند لأي
بعدٍ آخر يجعل للقيمة الفنية للعمل ككل مذاقاً اكثر ديمومة. يراهنُ الأخوان تاڤياني على ما يريدان اثباته بتلك الكومة من المجرمين والقتلة وتجار المخدرات وعلى القيمة الإنسانية التي
يستخرجانها منهم فعلاً. لكنهما لا يراهنان على أي شيءٍ آخر في عُمق المسرحية ذاتها التي
يحاول توليفها معهم بحيثُ تعنينا نحن - كمتلقين - بقدر ما تعنيهم هم - كمؤدين. صحيح أن نتيجة الرهان فعالة وتصب في صالحه لكنها تترك معضلة
الديمومة وقابلية المشاهدة واعادة المشاهدة موضع تساؤل مرهونٍ بالزمن. هذه
الجزئية غالباً ما تجعل الاعجاب بالعمل السينمائي يبهت بمرور الزمن ، حتى مع عظمة التجربة السينمائية التي قدمها والعوالم
المتوازية التي صنعها بين السينما والمسرح والتوثيق .
مدة هذا العمل 76
دقيقةً جُلّها بالأبيض والأسود ، وهو
أبيضٌ وأسودٌ أنيق وغير كامل الإشباع ومبررٌ درامياً ويمنح الصورة قيمتها واختلافها. كاميرا سيموني زامباني
الثابتة قليلة الحركة تقضي هنا على ابتذال التوثيق الذي استنزف تماماً استخدام
الكاميرا المحمولة ، وهو فعالٌ جداً أيضاً على صعيد شخصية الفيلم. الصور
التي تعلق في اذهاننا بشدة من هذا الفيلم هي صور أبطاله في هذا الأبيض والأسود
الأنيق يرتدون ملابسهم أو ملابس روما القديمة ويتجولون في ساحات السجن وممراته ، قبل أن يصنع من القطعتين الطرفيتين الملونتين عالماً مسرحياً مختلفاً نبدأ منه وننتهي اليه .
لم اشاهد في الواقع
كل أعمال مهرجان برلين العام الماضي ، ولا أعلم شيئاً عن مدى احقية
الفيلم بالتكريم الأكبر هناك. لكن ما أثق به بأنه يقدم واحدةً من تجارب العام
التي لا تنسى وتحقق غرضاً سينمائياً بإمتياز يتمثّل في الفرجة السينمائية بمعناها الخام والأكثر بدائية. لقطاته القريبة التي تلتقط وجوه أبطاله أثناء التعريف
بهم في مشهد تجارب الأداء البديع يحكي الكثير عن أدائهم السيء وعلاقتهم البدائية مع الكاميرا وعن كونهم الأقنعة والوجوه في آن.
فيلمٌ ممتاز بحس تعاطف واعجابٍ قوي يصعب مقاومته. مشاهدة تجارب أدائهم أو
المونولوجات التي أعقبت مقتل يوليوس قيصر أو مشاهدتم – مرّتين – وهم يعودون إلى زنزاناتهم بعدما
استمعوا لـ (تصفيق الجمهور / زئير شعب روما) على خلفية اجمل موسيقى تصويرية لعام 2012 من جوليانو تاڤياني
ابن ڤيتوريو ، كل هذا يجعلها تجربةً تستحق الإشادة والإعجاب .
التقييم من 10 : 8.5
0 تعليقات:
إرسال تعليق