كتب : عماد العذري
بطولة : دانيال كريغ ، جودي دينش ، خافيير بارديم
إخراج : سام مينديس
عندما إنتهيت من مشاهدة هذا
الفيلم وجدت نفسي أقرب إلى محققٍ تمكن أخيراً من ربط خيوط القضية ، و وجد حقيقة بسيطة
و صارخةً ترتسم أمامه على الحائط : لماذا بقي ماضي بوند
بعيداً عن جميع أفلام السلسلة على مدى نصف قرن ؟ لماذا لم يقترب 22 فيلماً سابقاً في
السلسلة قدر أنملة من تاريخ بوند و نشأته ؟ لماذا
انتظر الجميع خمسين عاماً كي يشاهدوا العميل البريطاني الغامض ذو الإسم الذي لطالما
حسبناه حركياً يعود إلى أصوله و يستعيد بعضاً من ذاكرته في مغامرته التي لن ينساها
في Skyfall ؟.
في الواقع أن هذه الإسئلة لا
إجابة لها ، هذا لا يهم فهكذا شاءت الأقدار ، المهم فعلاً أن الفيلم الثالث و العشرون
في السلسلة والذي يصدر في الذكرى الخمسين لفيلمها الأول Dr. No هو عملٌ
سينمائيٌ مميزٌ على جميع الأصعدة ، بعد المشاهدة الأولى وجدت فيه الكثير من Casino Royale و هذا خفف قليلاً من احتفائي به و ان لم يمنعني
من تقديره ، لكن عندما أعدت مشاهدة الفيلم يوم أمس أدركت فعلاً أن هذا الفيلم سيعيش
أكثر من معظم أفلام السلسلة ، ذلك الشعور بأنك حصلت في الواقع على أكثر مما ينبغي الحصول
عليه من فيلمٍ من سلسلة جيمس بوند ، الحبكة ، و
البناء ، و الخصم ، و الجوانب التقنية ، و المذاق الذي يدوم ، كلها أمورٌ من الصعب
أن نقول بأنها كانت إعتياديةً في هذا الفيلم على صعيد هذه السلسلة .
حبكة الفيلم بسيطة و لا تحمل
أي نوعٍ من التعقيد ، مبنى الإستخبارات العسكرية البريطانية
MI6 يتعرض لهجومٍ عنيف في قلب العاصمة لندن ، يتم إلقاء اللوم على M بالرغم
من تاريخها المجيد في خدمة المؤسسة ، عميلها الأهم 007 يصبح حليفها الوحيد بالرغم من الصدمة الكبيرة التي
ولدتها فيه في عمليته الأخيرة التي أدى قرارها فيها إلى إرساله إلى حتفه و وضع مجموعةٍ
من أهم عملاء الوكالة رهن خطر الكشف عن هويتهم الأمر الذي أودى بحياة بعضهم ، نتيجةً
لذلك تواجه M قرارات رئيسها الجديد غاريث
مالوري ، و استجوابات الحكومة ، و على 007 وضع كل الخبرات التي اكتسبها في حياته المهنية من أجل تقديم خدمةٍ شخصيةٍ
أخيرة للقائدة التي لطالما آمنت بقدراته .
نسبياً تبدو حبكة الفيلم أبسط
من كثيرٍ من أفلام بوند ، و النص لا يعتمد عليها
في الواقع ، هو يعتمد بشكلٍ أساسي على قيمة الشخوص التي يصنعها ، الشخصيات هي البطلة
، و هذا هو ما يجعل هذه القصة تبقى ، بنهاية الفيلم جلست أتأمل كيف بدأ الفيلم تقليدياً
ثم كيف إنتهى مختلفاً ، لمحت حيلة النص ، هو يبدأ من المشترك المألوف بين جمهور السلسلة
و الأفلام التي لطالما عشقوها ، يبدأ كما تبدأ كل أفلام السلسلة ، ثم يتدرج بذكاء ليصنع
شيئاً مختلفاً لاحقاً ، عندما تأملت ذلك وجدت رائحة نصوص بيتر
مورغان ، لكنني وجدت نصاً كتبه نيل بيرفيس
و روبرت ويد كاتبا السلسلة الشهيرين إضافةً إلى
السيناريست جون لوغان ، ثم اكتشفت لاحقاً بأن بيتر مورغان هو من كتب النص الأولي للعمل قبل أن تتوقف
عملية إنتاجه بفعل مشكلة إفلاس شركة MGM ، أسلوب مورغان
لا يمكن أن تخطئه العين ، النص يبدأ من متوالية أكشن لاهثة كالعادة ، هذه المرة في
اسطنبول بتركيا
، حيث يطارد جيمس بوند عميلاً غامضاً يدعى باتريس بهدف الوصول إلى المعلومات المفقودة من شبكة الإستخبارات العسكرية البريطانية و التي تحوي قوائم بعملاء
الوكالة في عددٍ من دول العالم ، لكن هذه المتوالية لا تنتهي بالطريقة المألوفة ، بل
أنه من المثير أن نعلم أنها المرة الأولى في تاريخ السلسلة التي يعاني فيها جيمس بوند من جرحٍ ما نتيجة رصاصة !! ، النص سرعان ما
يعمل بجد بعد هذه المتوالية على إشعارنا بأنه مختلف ، صحيح أنه يحتفظ بالكثير من تقاليد
جيمس بوند ، خصوصاً عندما يقودنا معه في مغامرةٍ
لاهثةٍ تتضمن اسطنبول و لندن و شنغهاي و
ماكاو قبل الختام في اسكتلندا
، لكنه يصنع ذلك بطريقته ، يحاكي في تميزه هنا ما فعله Casino Royale قبل ستة أعوام ، لكنه يذهب أبعد على مستوى
إعادة تقديم شخصية جيمس بوند بالصورة الأكثر إنسانية
، و ينجح أكثر من سلفه في تجريدها من صورة
السوبر هيرو النمطية التي رسختها أفلام السلسلة
عقب حقبة شون كونري و على الأخص في حقبة بريس بروسنان ، يقدم النص أكبر مساحةٍ لماضي بوند في جميع أفلام السلسلة ، هذا إذا ما كانت أفلام
السلسلة قد تطرقت لماضي بوند أساساً ، و يقدم كذلك
أكبر حجمٍ لدور M بين سبعة أفلامٍ لعبت فيها الديم جودي دينش
هذا الدور ، النص ينجح في تعويض ما يريد سلبه من الفيلم على مستوى المغامرة أو الأكشن
من خلال إعطاء قيمةٍ أكبر و حقيقيةٍ أوضح لشخصياته الرئيسية ، وهنا سر تميزه ، تبدو
– حسب ما أتذكر – الحالة الوحيدة التي يقاتل فيها بوند
من أجل قضيةٍ عاطفيةٍ بالمجمل ، فقط بدافعٍ من التزامه تجاه رئيسته التي على وشك مغادرة
مكتبها ، لكن النص لا يكتفي برسم التميز ضمن إطار العلاقة التي تحكم بوند و M التي يطاردها ماضيها في هذا الفيلم ، هو يغوص بشكلٍ
صريح في تاريخ العميل 007 ، الطفل
اليتيم الذي فقد والديه و كل شيءٍ تقريباً في قصرهم الوادع في Skyfall باسكتلندا ، الطفل اليتيم
رباه صديقٌ لعائلته يدعى كينكيد ( يؤديه ألبرت
فيني في ظهورٍ ملفت ) ، و كبر ليصبح بيتمه و وحدته و غضبه خياراً مثالياً ليجند للعمل
في الإستخبارات العسكرية ، ذكاء النص على هذا الصعيد
يكمن في عدم تقديمه الكثير عن ماضي بوند بطريقةٍ قد تفقده قيمته أو منطقيته ، هو يكتفي
بتقديم ما يجب تقديمه فقط لا أكثر و لا أقل ، نشأة Skyfall بالنسبة لبوند هي نقطةٌ لا يحبها و
لا يريد تذكرها ، هو يُنهي الحديث عند
ذكر اسمها في اختبار التقييم النفسي ، و من الطبيعي لذكرى مرفوضةٍ كهذه بالنسبة لصاحبها
ألا يتم الحديث عنها بإسهاب أو البوح بالكثير من تفاصيلها ، لذلك لا يسترسل النص كثيراً
على هذا الصعيد بالرغم من أنه يقدم الكثير قياساً لما نعرفه أساساً عن بوند و هذا جزء
من أهميته .
و لخصم بوند نصيبٌ أيضاً ، منذ اللحظة الأولى لظهور سيلفا و الذي يحدث بعد قرابة ساعة من العرض ، تبتسم و
أنت تشاهد واحداً من أفضل مشاهد الظهور لخصم بوند
على الإطلاق ، في جزيرته المعزولة ( لا أتذكر على وجه الدقة كم خصماً لبوند شاهدته يعيش في جزيرة معزولة ! ) ، يهبط سيلفا بالمصعد و يحكي قصة الفئران بينما هو يتقدم باتجاه
بوند عبر الممر ( الذي صمم في الواقع ليناسب المدة
الزمنية للقصة ) و عندما نواجهه ندرك تماماً أننا أمام شيءٍ مختلف ، سيلفا يختبر في بوند
رغبة البقاء ، ذكرى التضحية السهلة التي حظي بها 007 مؤخراً من قبل M في مهمته الأخيرة ، يصوّره و إياه كفأرين ناجيين
من المأساة التي حدثت لهما ، إما أن يأكلا بعضهما البعض ، أو يجدا ما يأكلانه ، يريده
في صفه ، و يدرك بوند هنا أن خصمه مختلف ، و ربما
هي واحدةٌ من الحالات النادرة أيضاً التي يسيّر خصم بوند
فيها قصةٌ من الماضي ، و ليس الجنون المحض أو البريق أو رغبة التحدي أو حب السيطرة
أو الرغبة بالمال ، فقط الماضي الشخصي هو من يحرك الخصم ، أتذكر أن هذا حدث مع العميل
006 في Goldeneye و لا أتذكر أنني شاهدته في فيلمٍ آخر في السلسلة
، هذا تميز ، سيلفا شخصيةٌ مميزةٌ على مستوى خصوم
بوند ، دافعها الوحيد في كل ما يجري هو رغبة الإنتقام
، و الجميل أن النص لا ينحرف به عن هذه الرغبة من البداية و حتى النهاية ، حتى عندما
نشعر بجنونها المحض أو ساديتها أو لمسة الحضور التي يمنحها لكل مواجهة يقوم بها ، يبقى
احساسنا برغبته في الإنتقام حياً و يقظاً ، و هو أمرٌ ما كان ليتحقق تماماً لولا خافيير بارديم الذي يصنع من سيلفا واحداً من أفضل خصوم بوند في تاريخ السلسلة ، هناك ميزانٌ حساس
لدى بارديم بين نبرة الجنون السادي و حقيقة الظلم
و العذاب الذي تعرض له عندما سجنه الصينيون ذات يوم ، هو يقف على كفتي الميزان معاً
، و يمنح شخصيته قيمةُ أكبر مما كتبت عليه من خلال وجهه المعجون بالجنون و الإرتياب
و رغبة الحصول على ما يريد مهما كلف الثمن ، مترجماً هذا إلى مزيجٍ مميز من هانيبال ليكتر و أنتون شيغور
بالرغم من أنه لا يفوق أياً منهما شراً .
سام مينديس يضيف
انجازاً سينمائياً مهماً يضاف إلى American
Beauty و Road to Perdition و Revolutionary
Road ، على
الرغم من أنه بدى في الواقع اختياراً غريباً لإخراج فيلمٍ لبوند ، ربما هي المرة الأولى التي يتصدى فيها مخرجٌ أوسكاري لفيلمٍ
في السلسلة ، على أرض الواقع يحقق الرجل واحداً من افضل أفلام بوند على الإطلاق ، يفتتح فيلمه بعشرين دقيقةً من الاكشن
الخاضع لطقوس جيمس بوند ، بالرغم من أنه لا يحررها
تماماً من سلسلة بورن التي بدى أثرها واضحاً في
متواليات الأكشن في الأفلام الثلاثة الأخيرة لبوند
، نعم الإفتتاحية ليست مختلفة أو خارقة قياساً لما عودتنا عليها أفلام بوند ، يتفهم مينديس
ما يريده النص في الافتتاحية في خلق المشترك مع الجمهور ، يسقط بوند برصاصة و تظهر أغنية أديل
التي تشعرك كم كان اختيار النفاثة البريطانية موفقاً جداً لتقديم اغنية بوند الجديدة ، ربما هي المرة الأولى منذ زمن – و تحديداً
منذ أغنية مادونا لفيلم Die Another Day – التي ستشعر فيها أن أغنية فيلم جيمس بوند ستعيش طويلاً ، أحسست هنا و أنا أشاهد بوند يسقط لأول مرة بأن لدى هذا النص و لدى هذا المخرج
الشيء المميز الذي يريدون تقديمه ، و هم لا يخيبون آمالنا بهذا الخصوص ، صحيح أنهم
يقدمون واحداً من أطول أفلام بوند في تاريخ السلسلة
لكنك لن تشعر برغبةٍ في أن تتوقف أو تنتهي من مشاهدته ، على المخطط الإخراجي سار مينديس على التسلسل المعتاد لأفلام بوند : إفتتاحية من المطاردة اللاهثة ، عملية أو اثنتان
في مناطق مختلفة من العالم ، رسالة الخصم التهديدية ، ثم ظهوره و ظهور نواياه ، ثم
يتدخل بوند ليحسم الأمور ، نظرياً الأمور واضحة
، عملياً من النادر جداً أن تشاهد هذا التوازن الدقيق و الذي لا نكاد نشعر به بين تصميم
شخصيات بوند و موجات الأكشن الكثيرة فيه ، هذا
التوازن لطالما كان مختلاً لصالح الأكشن في أفلام السلسلة السابقة ، لكن مينديس يدرك تماماً أن صناعة لحظات أكشن غاية في الإبهار
قد يسلب النص قيمته على مستوى تصميم شخصيات بوند
، لذلك يكون حذراً جداً في المزيج الذي يصنعه ، صحيح أن الفيلم ليس فتاكاً على مستوى
مزج الدراما بالأكشن ، لكنه مميز جداً قياساً لنوعية الأفلام التي حصلنا عليها من سلسلة
جيمس بوند ، لا يقدم مشاهد ذروةٍ ضخمة أو مبهرة
لكنها كافيةٌ ، شيءٌ يضرب عرض الحائط بحقبة بوند بروسنان
، يؤكد مينديس هنا أن أفلام بوند يمكن أن تكون مبهرةً على الصعيد البصري بعيداً عن
مشاهد الأكشن المسرفة ، الفيلم متعةٌ للبصر ، رجله الأول في ذلك هو العبقري روجر ديكنز ، ديكنز
وراء الكاميرا عظيم فعلاً ، ينتقل من مجرد مدير تصوير لمشهد أكشن لاهث في افتتاحية
العمل ، إلى شاعرٍ بصري ينسج قصيدةً فاتنةً في المواجهة على خلفية أضواء شانغهاي التي لا تغادر الذاكرة بسهولة ، قبل يخرج أجمل
ما في True Grit و أبدع مافي The
Assassination of Jesse James و أرعب ما في No Country
for Old Men أثناء
مشهد الذروة في Skyfall ، سيسعدني جداً أن اشاهد هذا الرجل يقطف ترشيحاً
عاشراً للأوسكار بعيداً عن رغبتي السنوية في أن أراه يفوز بالجائزة أخيراً .
بالنتيجة أمتعني هذا الفيلم
بالرغم من أنني لا أراه استثنائياً و بالرغم من بعض التفاصيل هنا و هناك خصوصاً على
مستوى فتيات بوند - الفائضات هذه المرة - و على
مستوى عادية حبكة المغامرة كركنٍ أساسيٍ في أفلام بوند
، أمتعني جداً رؤية ملامح دانيال كريغ المتعبة
، و عواطف جودي دينش المشوشة في مقدمة هذا العمل
، قلت عن دانيال كريغ من قبل بأنه أفضل بوند منذ شون كونري
، ليس فقط لجاذبيته و اختلاف ملامحه عن جميع ما اعتدنا ، ليس فقط لأنه من المثير أن
تعلم أنه أدى مواجهة القطار في افتتاحية الفيلم دون دوبلير ، هذه أمورٌ تقنية ، لكنني
أعتقد أن أهمية كريغ في أفلامه الثلاثة تكمن في
أنه و للمرة الأولى منذ شون كونري يصبح لأداء الشخصية
ذات أهمية جاذبيتها ، و هذا لم يحققه مور أو دالتن أو بروسنان
، الأمر ذاته ينطبق على جودي دينش ، التي ربما
انتظرت طويلاً كي تُمنح شخصية M هذه المساحة لتقدم من خلالها هذه التوليفة من العاطفة
الداخلية و الكبرياء و السطوة التي لا تجيدها إلا ممثلة كبيرة ، ربما لا يكون هذا أفضل
أفلام بوند على اعتبار أن اختيار فيلمٍ واحدٍ بين
23 فيلماً تنتمي لحقبٍ مختلفة و شاهدناها على مدى سنوات قد يبدو أمراً صعباً ، لكن
هذا الفيلم سيكون ضمن نخبة أفلام بوند حتماً عند
الحديث عن التوازن الأفضل بين الدراما و الأكشن الذي حققته أفلام السلسلة .
التقييم من
10 : 8.5
0 تعليقات:
إرسال تعليق