كتب : عماد العذري
بطولة : كلارا بو ، تشارلز روجرز ،
ريتشارد آرلن
إخراج : ويليام ويلمان
عادةً عندما يتم
الحديث عن النقاط المفصلية المهمة في مسيرة هوليوود أو في مسيرة السينما عموماً ،
يوضع عام 1927 بينما الأعوام الأكثر أهميةً على الإطلاق. قدّم لنا هذا العام
تحفتين سينمائيتين ما يزال البعض يعدّهما الأعظم في حقبة السينما الصامتة ، Sunrise و Metropolis ، واختتم أحداثه بتقديم
الإنقلاب الأكثر دوياً ربما في تاريخ السينما كله بظهور أول الأفلام الناطقة The Jazz Singer ، وشهد أول تكريمٍ بجائزة الأكاديمية الأمريكية
للعلوم والفنون السينمائية التي أصبحت تعرف لاحقاً بالأوسكار ،
مرسخاً تقليداً سنوياً على مستوى خلق ثقافة
التكريم والإحتفاء الرسمي بالجهود السينمائية الأعظم كل عام. ومن أجل هذا
الإبتداع تحديداً يتذكر الكثير من الناس فيلم Wings .
جاء هذا الفيلم في
الذروة الأولى لطغيان ما عُرف بنظام الاستديو. إشترت بارامونت حقوق تحويل
النص ببضعة آلاف من الدولارات ، واستأجرت لتنفيذه واحداً من طياري الحرب العالمية
الأولى يدعى ويليام ويلمان ، وجلبت نجمتها الأولى كلارا بو
للقيام بدور البطولة بالرغم من ظهورها المحدود في الفيلم ، وأنفقت مليوني دولار
لتحويل هذا النص إلى فيلمٍ سينمائي في عمليةٍ كانت الأضخم والأكثر كلفة في مسيرة
هوليوود حتى حينه. بالمقابل، حققت بارامونت الكثير من الارباح من عرضه الذي استمر في الصالات لستةٍ
وثلاثين أسبوعاً. نموذجٌ مثاليٌ جداً لنظام الاستديو في طقوسه المبكرة حيث بدت السينما حينها أقرب إلى عملياتٍ حسابيةٍ وخطواتٍ روتينيةٍ مكررة أكثر من كونها عمليةً فنيةً إبداعيةً في الأساس. لكن هذه
العملية أثمرت في الختام. مُنح الفيلم بعد عرضه بأشهر أول جائزةٍ من نوعها في الإنتاج السينمائي
تقدمها الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم السينمائية في ذات
الليلة التي منحت الأكاديمية فيلم Sunrise جائزة أفضل جودةٍ فنية قبل أن تعلن دمج الجائزتين في العام التالي تحت مسمى أفضل إنتاج وتعلن أن
Wings (وليس Sunrise) هو الفائز الرسمي
بجائزتها الكبرى في عام 1927.
يحكي الفيلم قصة جاك باول و ديفيد آرمسترونغ
، شابان ينتميان إلى طبقتين مختلفتين في البلدة ذاتها ، مع ذلك فإختلافهما في
الواقع ليس اختلافاً مادياً. هما واقعان في حب الفتاة ذاتها ، سيلفيا لويس ،
التي تحب ديفيد في الحقيقة لكنها غير قادرةٍ على التعامل بفظاظةٍ مع جاك الذي يبدو
لطيفاً معها وعاجزاً عن تقدير الحب الذي تحمله له ماري بريستن جارته
الودود. علاقة جاك و ديفيد توضع على المحك عند تطوعهما في سلاح الجو الأمريكي
في الحرب العالمية الأولى ، حيث تزداد العلاقة توتراً ، ثم تبدأ
في التحسن عقب شجارٍ بينهما ، يصبحان صديقين مقربين ، قبل أن تبدأ الحرب بإلقاء ظلالها
على كل شيءٍ من حولهما .
كتب نص هذا الفيلم هوب لورينغ و لويس لايتون
عن قصةٍ لجون مونك ساوندرز. و بالرغم من أن السينما لم تكن قد ذهبت بعيداً في تلك الحقبة في تقديم حبكاتٍ غير تقليدية ومعالجاتٍ نفسية فيها نوعٌ من التعقيد - كما حدث لاحقاً - إلا أن
نص هذا الفيلم يبدو متواضعاً حتى بالقياس لكلاسيكيات عصره ! بأي حالٍ من الأحوال
لا يمكن اعتبار هذا العمل فيلم نص بل فيلماً مستنداً إلى نصٍ يعمل وفقاً لنظام
الاستديو بالمعنى الكامل لهذه الكلمة. تلامس القصة في هذا النموذج شيئاً مما يحب الجمهور
رؤيته في تلك الفترة أكثر من محاولتها تحديهم واستفزاز مخيلاتهم ، في حين أن مدة الفيلم الطويلة - 144 دقيقة - بلغت
هذا الرقم بسبب رغبة منتجيه منح بعض الملحمية للفيلم ، وحيث تمدد دور ماري بريستن بطريقةٍ غير متماسكة فقط من أجل ملائمة وضع نجمٍ مهم في مقدمة العمل ، على
الأخص كلارا بو نجمة استديوهات بارامونت الأولى
حينها. النص يعمل وفقاً لهذه الشروط التقليدية ، وبالتالي فأنت لا تنتظر منه في
الواقع أن يقدم لك شيئاً مشابهاً للأعمال التي ولدت خارج نظام الأستديو مثل Sunrise و Metropolis ، الكلاسيكيتان
الأعظم اللتين قاومتا الزمن من ذلك العام. المعادلة مختلفةٌ قليلاً هنا .
في هذا النص يحاول
الكاتبان خلق التوليفة المريحة للمشاهد ، حيث صراعٌ مبكرٌ - بسيط وواضح وتقليدي - على قلب فتاة لا يلبث أن
ينقلب صداقةً قويةٍ مع مرور الوقت عندما تبدأ الحرب بإلقاء ظلالها على كل شيء ، ثم
يلقي رشة بهاراتٍ منوعةٍ من كل ما يحبه الجمهور : نجمةٌ محبوبةٌ تلعب دور امرأة
شغوفةٍ تعاني بسبب عاطفتها ، معارك مثيرةٌ تملأ الشاشة من حينٍ لآخر ، والبعض من
معاني الحب والتضحية والصداقة في زمن الحرب. هو جيدٌ على هذا الصعيد ، لكنه
لا يبدو عميقاً بما فيه الكفاية ليجعل من قصته وحدها محور نفوذه في الجمهور أو رسوخها في ذاكرته. ربما
تتذكر بعد مشاهدتك له الكثير مما أعجبك فيه ، لكن من الصعب أن تقول بأن قصته - المحور الذي دار حوله كل شيء - هي ما
بقيت في ذاكرتك !
حبكة الفيلم والحدث
الذي يقدمه النص يبدوان كافيين بالكاد لتسيير الفيلم دون أن يكونا غنيين بما فيه
الكفاية لمقارعة ملحميته الواضحة على المستوى التقني ، وهي مقارعةٌ لو كانت تحققت لربما وضعته في مصاف التحف
السينمائية التي قدمها عصره. القصة التي يرويها كانت بسيطةً جداً ومباشرةً جداً بطريقةٍ حولتها مع مرور الزمن إلى مجموعةٍ من الكليشيهات تكررت واستنسخت في كل عصور السينما ولا زالت (فيلم Pearl Harbor مثالٌ جيدٌ هنا). وعندما تترافق هذه الجزئية مع المدة الطويلة للفيلم التي أصر
النص على التمدد للوصول إليها ، تسرق هذه الجزئية الكثير من بريق وقيمة القصة فيبدأ
المشاهد بالشعور بأن المعارك التي يشاهدها لن تنتهي ! وبالرغم من أنه يحاول ان يقدم لنا تضميناته
الخاصة عن قيمة الصداقة وقسوة الحرب وعن الحرب التي تجعل الموت سبيلاً للبطولة
، إلا أنه يبدو مباشراً وبسيطاً على هذا الصعيد أيضاً دون أن يحقق الكثير على مستوى اشعارنا
بقيمة تلك التضمينات ضمن قصته فعلاً ! تلك المنهجية غير الخلاقة في اتباع النموذج الأولي لنظام الاستديو
تجعلنا نلاحظ بسهولة - على سبيل المثال - كم تبدو شخصية ماري مثاليةً جداً وأقرب إلى شخصيةٍ (يجب) أن تحبها وتحزن لعدم
تقدير عاطفتها ، لكنك مع ذلك لا تستطيع أن تنكر أن الشخصية صممت وفقاً لنجومية كلارا بو
محبوبة الجماهير بالرغم من أن حجم الدور ذاته لا يتناسب مع ذلك ! تفصيلٌ يتجلى بوضوح في مشهد الإحتفال الباريسي الذي يبدو مصمماً تماماً لمنح كلارا بو
المزيد من الوقت على الشاشة خصوصاً إذا كان الجمهور سيحظى بواحدٍ من المشاهد (الفاضحة) المبكرة جداً على الشاشة الكبيرة ! وهو مشهد يبدو مصمماً تماماً لإستغلال
قيمة كلارا بو لدى المشاهد دون أي قيمةٍ حقيقيةٍ قد يفقدها الفيلم بغيابه .
رجل الفيلم بإمتياز
هو مخرج العمل إبن الثامنة والعشرين ويليام ويلمان الذي تبدو خبرته القتالية في سلاح الجو الأميركي
إبان الحرب العالمية الأولى استغلالاً موفقاً للغاية من بارامونت.
الرجل يبدو ماهراً جداً في إدارة اللعبة ويتفوق بشكلٍ عظيم على نص الفيلم. ومع أن ويلمان استمر لاحقاً في تقديم أعمالٍ جيدةٍ ربما أشهرها نسخة
1937 من A Star is Born التي نال عن كتابة نصها جائزة أوسكار ، إلا أن Wings هو ما بقي مقترناً بإسمه دائماً. عمله هنا مبهرٌ حتى بمقاييس زمننا! استغل الرجل نفوذه وعلاقاته
الجيدة مع سلاح الجو ليقدم أول تعاونٍ بين هوليوود والمنظومة العسكرية الأمريكية في فيلمٍ سينمائي ، وهو التعاون الذي كان مشروطاً بتقديم صورةٍ لامعةٍ للجيش الأمريكي على شاشات
السينما! وظف ويلمان هذه الإمكانيات التي من الصعب توفرها لأحدٍ في حينها والميزانية
الضخمة الموضوعة تحت تصرفه من أجل ملء الشاشة بالعمل الإكثر إبهاراً على الصعيد
البصري في زمانه. كان مبهراً فعلاً لأن الطيران لم يكن مُنتهكاً في حينها من قبل
بصر المشاهد حتى بعد ثلاثة عقودٍ من الاعتياد على الوسيط الجديد. كان شيئاً طازجاً ومغرياً جداً خصوصاً إذا لم يكتفِ مخرج الفيلم بمنح المشاهد جرعةً من مشاهدة الطيارات تحلق هنا وهناك و إنما منحه أيضاً
فرصة أن يعيش التجربة. ويل ويلمان صوّر الكثير من مشاهد المعارك الجوية مستخدماً
طائراتٍ حقيقيةٍ تحلّق فعلاً وتطارد بعضها فعلاً مستخدماً كاميراتٍ موضوعةً على
مقدمة تلك الطائرات ! كان الفيلم رائداً بحق على هذا المستوى ، ومشاهد المعارك الجوية التي يقدمها هي مشاهد
غير موجودةٍ عند من سبقه ولا جدال في عظمتها لدى من تلاه. يبدو هذا الفيلم أشبه
بالمكافئ القديم لفيلم Top Gun في زماننا والذي أصبح أشبه بعلامةٍ مسجلةٍ لأفلام التحليق منذ عرضه في النصف الثاني من الثمانينيات ، والمؤثرات البصرية العظيمة التي يحققها قبل عقودٍ من ظهور الـ CGI والكروما هي ما منحت الفيلم قيمته وبريقه حتى يومنا هذا. قدرته على صناعة
مشاهد طيرانٍ حقيقية (بل وقام بطلا الفيلم بتنفيذها فعلاً) خلق له قيمةً نافذةً
لدى عين المشاهد التي يروقها دوماً كل ما هو حقيقي ، ربما هو ذات التفصيل الذي جعل مشهد هجوم فاغنر
الشهير في Apocalypse Now عظيماً ومقاوماً للزمن بين كل المشاهد التي تلته في أفلام الحرب. يبدو فيلم ويل ويلمان
هذا ترجمةً واضحةً - و إن كانت غير مقصودة – لتأثير فكرة : عندما تخيّر بين صناعة
مؤثراتٍ حقيقيةٍ وصناعةٍ مؤثراتٍ حاسوبية ، قم بتقديم الحقيقية حتى لو كانت باهظة
الثمن ! تلك الجزئية هي ما جعلت الفيلم تجربةً
مثيرةً ومغريةً للعين في تلك الحقبة المبكرة من عمر السينما أو حتى بعد أكثر من ثمانين عاماً على إطلاقه ، ومن أجلها فقط - قبل أي شيءٍ آخر - بقي هذا الفيلم خالداً حتى يومنا هذا!
لم يكتفِ ويل ويلمان فقط بصناعة
مشاهد قتالٍ جويٍ استثنائيةٍ وغير مسبوقة ، بل حقق توظيفاً جيداً جداً لنوعية اللقطات التي استخدمها في كل مشهد والتي كان بعضها غير اعتياديٍ بمقاييس زمنه ،
أذكر منها لقطةً تخترق فيها آلة التصوير الطاولات الموجودة في ذلك الملهى الباريسي
وصولاً إلى طاولة جاك باول ، واللقطة الأخرى التي تصور ديفيد و سيلفيا في
الأرجوحة مطلع الفيلم ، وبعض اللقطات المغرية للعين في الخنادق أو في
التقاط المجاميع أثناء الحرب. علاوةً على ذلك، استثمر ويلمان جيداً موسيقى ستيبان زامكنيك
التي أغنت كثيراً حركة الحدث بمفهوم الحديث عن فيلمٍ صامت. ومع أن الفيلم يُذكر
أحياناً بكونه أول أفلام الأوسكار والفيلم الصامت الوحيد الذي نال الجائزة الكبرى
(قبل أن يجيء فيلم The Artist العام الماضي) ، أو بكونه واحداً من الأعمال السينمائية المبكرة التي
عرضت مشاهد (فاضحة) أو لقطاتٍ دموية ، أو بكونه قدّم أول قبلةٍ سينمائيةٍ بين رجلين على الإطلاق ، إلا أن الإبهار البصري العظيم الذي أوجده ويل ويلمان برأيي من
خلال معاركه الجوية المطوّلة على الشاشة هو ما صنع الفارق الحقيقي في قيمة هذا
الفيلم الراسخة في الذاكرة .
التقييم من 10 : 8
0 تعليقات:
إرسال تعليق