كتب : عماد العذري
بطولة : راسل كرو ، واكين فينيكس ، أوليفر ريد
إخراج : ريدلي سكوت
أعترف بأن الكتابة عن الفيلم الفائز بأوسكار أفضل فيلم عام 2000 لم تكن فكرةً واردة ، ربما لم أمتلك الدافع الكافي لأفعل ذلك ، لكنني أعترف بالمقابل أن هذا الفيلم هو أحد أكثر الأفلام التي سئلتُ عن رأيي فيها أو طلب مني الكتابة عنها ربما لعبارات سابقةٍ كتبتها هنا أو هناك وأظهرت إلى حدٍ ما أنني بعيدٌ عن هذا العمل الذي يبدو مفضلاً لدى الكثيرين.
أخرج ريدلي سكوت هذا الفيلم الذي تجاوزت تكاليف انتاجه المئة مليون دولار بعد سلسلةٍ من الأعمال الدرامية في التسعينيات ، كان سكوت بعيداً إلى حدٍ ما عن تقديم ملحمةٍ عن الامبراطورية الرومانية بهذا الحجم ، وحقيقةً فإن أكثر ما أثار اهتمام وولع المشاهدين بالعمل عند عرضه عام 2000 هو اعادته الاعتبار لأفلام الملاحم التي مجّدت حقبة الامبراطورية الرومانية ، حيث الأباطرة ومجلس الشيوخ والمعابد والمدرجات والعبيد والمجالدين ، Ben Hur و Spartacus وغيرها من أفلام ما درجت تسميته بـ (أفلام السيف والصندل) ، أفلامٌ عظيمةٌ مرت من هنا في أيامٍ كان لمثل هذه النوعية من الأعمال جمهورها العريض وقيمتها المقدرة ، ريدلي سكوت من خلال ملحمته رفع القبّعة لنوعيةٍ باتت نادرةً جداً في هذا الزمان ، ولا أتذكر حقيقة متى كان آخر فيلمٍ مهم بالفعل عن حضارة الرومان قبل أن يأتي Gladiator .
يحكي الفيلم قصة ماكسيموس ديسيموس ميريديوس الجنرال الروماني الواقف في وجه الخطر البربري القادم من جرمانيا عام 180 وأحد أهم المؤتمنين على أسرار الامبراطور ماركوس أوريليوس وأحد أهم المرشحين لخلافته أيضاً ، سرٌ لا يعلمه إلا هو والامبراطور ، وعندما يفصح الامبراطور عن نواياه تلك لإبنه كوميدوس يقضي الشاب الطموح على رغبات والده ويجعله ينام للأبد ويرسل ماكسيموس وأسرته إلى حتفهم ، ماكسيموس ينجو ليجد نفسه أباً لطفلٍ مقتول وزوجاً لامرأةٍ مقتولة وعبداً بيع ليصبح مجالداً في كوليزيوم روما وما من أحدٍ سيوقفه عن طلب ثأره .
قصة الفيلم كتبها في البداية ديفيد فرانزوني قبل أن يتعطل المشروع لفترةٍ من الزمن ثم يعاد بحلةٍ جديدةٍ طرأت عليها العديد من التعديلات من قبل ويليام نيكلسون قبل أن ينضم إليه السيناريست جون لوغان لإعادة كتابة النص بصورته النهائية ، وعلى الرغم من كل هذا الكم من الاهتمام بإعادة كتابة النص وتعديله ، إلا أن نص الفيلم تحديداً هو النقطة التي دائماً ما يثار النقاش حولها عند الحديث عن قيمة العمل ، نص الفيلم الذي يحسب له محاولة اعادة الألق لهذه النوعية من الأعمال لم يكن جريئاً كفاية لتقديم ما هو أبعد من الأساسيات التي لطالما جذبت الجمهور تجاه الملاحم الرومانية ، الحدوتة المؤثرة عن العلاقات المدمرة ، الحب والعبودية والمجد ، في الفيلم مزيجٌ واضحٌ من ذلك ، لكن النص يتوقف عند ذلك المزيج ولا يحاول أن يذهب بعيداً بما يتناسب مع عملٍ يخرج للنور في الألفية الجديدة ، وأكاد أجزم بأن لوغان ونيكلسون لم يكونوا يتوقعون عندما كانوا يخطون نصهم هذا بأن يصل الفيلم الى ما وصل اليه ، أمرٌ لم يكن خافياً على أحد بما في ذلك راسل كرو الذين عانى كثيراً أثناء التصوير في تقبل هذا النص وتغييراته المتكررة وحتى في بعض عباراته التي تبدو قادمةً من فيلمٍ ستيني ، النص لم يكن يبحث عما هو أكثر من ملحمةٍ رومانيةٍ براقةٍ ، وبطلٍ ، ومشاهد قتالٍ عنيفة ، وخاتمةٍ مرضية.
عمل هذا النص في الواقع على أخذ شخصياتٍ حقيقيةٍ من التاريخ الروماني ودمجها مع قصته الخيالية ، ولا زلت حتى هذه اللحظة عاجزاً عن تقبل ذلك ، لا لشيء إلا لأنني لم أجد منفذاً لتسويق ذلك في قرارة نفسي ، العمل لم يكن عملاً هزلياً ، ولا فيلماً يقدم التاريخ بطريقة (أفلام الحدس) التي تلعب في المساحات الرمادية من التاريخ ، ولا قصةً فانتازيةً مجردة ، الفيلم يعود إلى التاريخ ليقدم جزءاً من قصة الامبراطور ماركوس أوريليوس وابنه كومودوس التي لم تكن كذلك مطلقاً ، وكومودوس الذي يرسمه الفيلم كصورةٍ مجسدةٍ للإنحطاط والخبث والفساد الروماني المستشري والركض وراء الملذات والطامح للزواج من شقيقته كان حاكماً محبوباً لدى شعبه ، فاتناً لدى الطبقات الفقيرة منه ، وبعيداً عن الصورة الغريبة التي يقدمها النص هنا ، صحيح أن هذه الجزئية قد لا تكون مهمةً للمشاهد الباحث عن تقييم الفيلم سينمائياً ، لكنها قد تصبح مهمةً لمن يعرف ذلك ، وفكرة أن تقوم بتجسيد صورةٍ من التاريخ ضمن قالبٍ من الخيال غير المبرر بنتيجةٍ قد تؤثر في قيمة الحدث التاريخي ذاته هي فكرةٌ لا استطيع أن ادرجها تحت أي مبررٍ سينمائيٍ من أي نوع ، فلا الفيلم ينسج قصته الخيالية الخاصة به بعيداً عن التاريخ ، ولا هو ينسجها ضمن المنطقة الرمادية فيه ، ومهما حاولت غض الطرف عن ضعف النص في تعامله مع هذه الجزئية إلا أنني لا استطيع ان اتجاوزها في تقييمي المجمل للعمل .
بعيداً عن الولاء التاريخي يحاول النص التركيز في عمق قصته على الغوغاء السياسية من خلال تصويره المثير للمصارعة على حلبة الكوليزيوم كوسيلةٍ لتفريغ ذلك الكم من الغضب والغوغائية التي تعتمل في النفوس بطريقةٍ مضبوطة وضمن جوٍ مروضٍ من التسلية والترفيه عن النفس ، محاولة اختزال لقيمة التلاقي التي يجسدها مدرج الكوليزيوم بين رجالات الدولة وعامة الشعب وقيمة التأثير المتبادل والقوة والقوة المضادة التي تحكم تسيير الأمور في الامبراطورية ، حيث الشعب يأتي للترفيه عن نفسه وتفريغ غضبه وغوغائيته في رؤية اناسٍ تموت ودمٍ يسال ، ثم تنتظر بعد ذلك قرار الامبراطور الذي سينهي الأمر ، بينما الأمبراطور هناك ، ينظر في عيني شعبه ، يتفهم رغباتهم التي لا ترحم ، ويقرر ، ومع أن النص لا يذهب في هذه الجزئية عميقاً إلا أنه يبقى فيلماً مهماً عن انصياع القوة ، حيث كل المجد والشهرة والعظمة القتالية تبقى مرهونة في الختام بقرارٍ سياسي ، والقرار السياسي هنا يبقى مغازلاً لتلك الرغبات الشعبية التي صنعت ذلك المجد وتلك الشهرة ، محاولة اختزالٍ جيدةٍ من النص سرعان ما يسلبها جزءاً من قيمته عندما يتعرض للموضوع في مجلس الشيوخ الذي يصطدم بكومودوس في أكثر من مناسبة حيث يبدو التصريح بالعبرة أشبه بمحاولة غير ذكية لإعطاء عمق فاعل لهذه القصة الملحمية .
علاوةً على ذلك يحاول النص جاهداً أن يكون مزيجاً من أمور عديدة ، قصةً رومانسيةً خافتة وقتالاً دموياً عنيفاً وقراءةً نفسية في جنون العظمة وعملاً مؤثراً حول رغبة الإنتقام وصداماً سياسياً مباشراً بين عقلية الحاكم ورغبات الشعب ، مع السمات التقليدية للفيلم التاريخي ، يعمل النص على أكثر من محور ، ويبقى بعيداً تماماً عن اشباع أي منها ، ابتعاده عن التكثيف على أي منها جعل أحداثه – التي تسرد على مدار ساعتين ونصف – أقرب لأن تروى ضمن سلسلةٍ تلفيزيونية منها الى فيلمٍ سينمائي ، نعم ستشعر بالرضى حالما ينتهي هذا العمل ، لكنه ذلك النوع من الرضى الذي لا يدوم طالما تسأل نفسك عن المساحة التي شعرت فيها فعلاً بعمق هذا النص ، و عندما تجد نفسك عاجزاً عن ايجادها قد تصل ربما الى قناعةٍ بأن نص الفيلم كان بحاجةٍ لما هو أفضل من صنع ذلك المزيج في سبيل احياء الملاحم الرومانية ، كان بحاجةٍ لجعل ذلك المزيج مكثفاً وعميقاً في محورٍ ما بما يتناسب على الأقل وتقديم ملحمةٍ رومانيةٍ في الألفية الجديدة .
بسبب نص لوغان و نيكلسون يبذل ريدلي سكوت مجهوداً مضاعفاً لإيصال الفيلم إلى بر الأمان ، كان هذا الفيلم العمل الملحمي الثاني في مسيرة سكوت بعد فيلمه الشهير Conquest of Paradise عن اكتشاف أميركا ، لذلك فالرجل كان يعرف تماماً من أين تؤكل الكتف في أعمال ضخمةٍ كهذه ، سكوت يعمل بإخلاص على خلق التوازن المطلوب في محاور هذا النص المتعددة لخلق مزيجٍ من الملحمة الرومانية المنتظرة وفيلم الأكشن الذي يدر الأموال ، هو ينجح في هذه الجزئية بشكلٍ ملفت ، ينقل الثقل الاخراجي المعتاد منه إلى كل تفاصيل العمل بحيث يبقي الصورة الكبيرة للفيلم براقة وملفتة ومهمة وقادرة على جعل المشاهد العادي يتغاضى عن أي فجواتٍ يمكن أن يخلفها النص هنا وهناك ، هو يعمل بطريقةٍ فعالةٍ على اعادة احياء روما القديمة بكل تفاصيلها و باهتمامٍ مفرطٍ بواقعية تلك التفاصيل ، فلن تشاهد روما التي لطالما شاهدتها حيث السادة والعبيد والمواخير والجواري ، تبدو الصورة هنا اكثر واقعية ولطافةً مما اعتدنا ، علاوة على ذلك يهتم ريدلي سكوت بتصاميم الإنتاج والمؤثرات البصرية كثيراً ، وعمله على مستوى اعادة احياء الكوليزيوم في روما وتحويله الى ما يشبه ستاداً لكرة القدم أمرٌ حاسمٌ في لفت الأنظار تجاه البعد الذي يريدنا سكوت أن نلتفت إليه في النص ، ضخامته وهيبته وامتلاؤه بالحشود والرهبة التي يصنعها في المقاتلين ، تكاد تشعر حتى بدرجة الحرارة التي تضرب اجساد المجالدين على ارضيته الترابية وكل تلك النفوس في الأعلى تهدر بأسمائهم ، ريدلي سكوت خلق تركيزاً ملفتاً تجاه الكوليزيوم كمسرحٍ للحدث وكمحورٍ لكل شيء ، على الأخص الصراع الذي كان حرياً بالنص التركيز عليه بين السلطة السياسية و الرغبات الشعبية التي لا ترحم .
علاوة على ذلك عمل سكوت بشكلٍ واضح على عصرنة هذه النوعية من الأعمال بصرياً من خلال استخدامه الكاميرا المحمولة وتوظيفه للفوكسة العميقة والقطع السريع في مشاهد المعارك ضمن المدرج الروماني ، أمرٌ لم تعتد أفلام الملاحم عموماً والرومانية على وجه الخصوص أن تقدمه ، وادارته المقدرة لنجوم فيلمه اثبتت بأنه كان رجل هذا العمل بجدارة خصوصاً مع أداءاتٍ براقة كان يحتاجها النص (البسيط في بناء شخصياته) ليرتقي بها إلى الأفضل ، على الأخص من راسل كرو الذي استطاع في أول أعماله السينمائية المكلفة أن يثبت وجوده من خلال حضوره وكاريزماه أكثر من المقومات الجسدية التي عادةً ما تتطلبها شخصياتٌ كهذه ، (يؤدي) حيث لا يكون الأداء مهماً عادةً ، وواكين فينيكس الذي ينجح برأيي في منح عمقٍ غير معمولٍ في النص لشخصية الامبراطور كومودوس بكل التناقضات والانحرافات التي تحملها ، دون ننسى أداءات كوني ويلسن وريتشارد هاريس وأوليفر ريد الذي قضى بسكتةٍ قلبيةٍ قبل أن يكمل دوره وكلّف منتجي الفيلم 3 ملايين دولار للعمل على اكمال دوره المتبقي من خلال تقنيات الـ CGI في الحادثةِ التي توّجت الفيلم لاحقاً بأوسكار أفضل مؤثرات بصرية .
الموضوع واضحٌ بالنسبة لي ولا أدري لماذا كنت أتجنب الحديث عن هذا الفيلم ، Gladiator ملحمةٌ رومانيةٌ ضخمة عن الإنتقام والمجد والرغبات الشعبية ، حقق الكثير على مستوى اعادة خلق القصص العظيمة التي اعتدنا ان نشاهدها من هذه النوعية من الأعمال ، لكن نصه اخفق عندما استخف بالتاريخ ولم يكن ذكياً عندما حاول مزج القليل من كل شيء : الإثارة السياسية والرومانس ورغبة الإنتقام والتاريخ والأكشن دون أن يتيح الفرصة لنفسه لصناعة عمقٍ حقيقيٍ فعّال في أي جزءٍ منها .
التقييم من 10 : 7
0 تعليقات:
إرسال تعليق