كتب : عماد العذري
بطولة : كيفن كوستنر ، غراهام غرين
، ماري مكدونيل
إخراج : كيفن كوستنر
بالنسبة لي ، الكتابة
عن هذا الفيلم لها وقعٌ خاصٌ جداً ، أمرٌ لطالما تمنيته ، و لطالما تجنبته أيضاً ،
لم يكن هذا الفيلم أول فيلمٍ أشاهده ، أو أفضل فيلم ، أو أهم فيلم ، أو أقرب فيلمٍ
إلى نفسي ، كان أول عملٍ سينمائي شعرت أثناء مشاهدته بالرغبة الحقيقية تجاه فهم
السينما ، و التعمق فيها ، و الكتابة لها في يومٍ من الأيام ، قرابة 22 عاماً مضت
و ما زلت أتذكر بالتفصيل تلك اللحظات التي قضيتها أمام جهاز الفيديو أشاهد الساعات
الثلاث التي أشعلت ولعي الحقيقي بالفن السابع.
كان هذا الفيلم العمل
الإخراجي الأول في مسيرة النجم كيفن كوستنر ، كان أشبه بمغامرةٍ حقيقيةٍ على اعتبار أن كوستنر الذي
حقق نجوميةً ملفتةً خلال النصف الثاني من الثمانينيات في أفلام Silverado و No Way Out و The
Untouchables و Bull
Durham و Field
of Dreams كان يقدم على مخاطرةٍ حقيقيةٍ مرتفعة التكاليف و في صنفٍ شبه
محتضر و في عملٍ ملحميٍ من ثلاث ساعات ، أطلق المراقبون على الفيلم اسم Costner’s Gate مستذكرين مأساة فيلم Heaven’s Gate مطلع الثمانينيات و الخسارة الكبرى التي صنعت منه واحداً من خيبات
الأمل الكبرى في تاريخ هوليوود ككل ، و مع ذلك كانت شركة Orion التي وقفت وراءه - في عز
محنتها و احتضارها - ترى فيه الأمل في اعادة انتشالها و النهوض بها ، أنتجته في
الوقت ذاته الذي انتجت فيه فيلم The Silence of The Lambs لكنها فضّلت اطلاق
العملين في عامين مختلفين لمنحهما – ومنحها بالتالي – الفرصة لتحقيق أكبر نجاحٍ
ممكن ، و لا أستطيع أن أتخيل نوعية المشاعر التي اجتاحت القائمين على الشركة و
العاملين فيها و هم يشاهدون هذين العملين المنبوذين يخطفان أوسكار أفضل فيلم في
عامين متتاليين .
القصة عن جون دنبار ،
الجندي الإتحادي ابان الحرب الأهلية الأمريكية في عام 1863 ، و الذي يتعرض لإصابةٍ
في قدمه و يرى اطباء المعسكر أن الحل الامثل لضمان سلامته هو بتر تلك القدم ،
الرجل يفر من العيادة و يقرر القيام بعملٍ انتحاري على مرمى النار بين الجيشين
المقتتلين مفضلاً الموت على العيش بقدمٍ مبتورة ، لحسن الحظ أنه ينجو من تلك
العملية الانتحارية التي رفعت من معنويات جيشه كثيراً الأمر الذي دفع قادته
لإعتبار ما قام به عملاً بطولياً ، و يسمحون له باختيار المكان الملائم للقيام بالخدمة
العسكرية طالما و أن ساحة القتال لم تعد تناسب وضعه ، دنبار يختار موقعاً
في الحدود في ولاية داكوتا الجنوبية ، يقضي وقته وحيداً هناك رفقة حصانه سيسكو ، و ذئب
ودودٍ يقيم في الأرجاء ، قبل أن تسوقه الأقدار للقاء رجال السو ، قبيلة
الهنود الحمر الشهيرة .
أخرج كيفن كوستنر
هذا الفيلم عن نصٍ لمايكل بليك أصر كوستنر على تحويله إلى روايةٍ قبل اقتباسه سينمائياً كي يتمكن
من الحصول على قيمته الفنية الكاملة بدون تأثيرات عملية الاقتباس السينمائي ، أجمل
ما في النص الذي كتبه بليك هو أنه يعزف على ثلاثة أوتارٍ ضمن حبكته ، و ينجح إلى حدٍ
بعيد من خلق لحنٍ جميل من خلال ذلك العزف ، تبدو مغامرة الرجل في الغرب مثيرةً
للمشاهد ، بذات القدر الذي تبدو فيه النظرة العميقة في حياة الهنود الحمر إبان
الحرب الأهلية و ملامح التغيير التي تطرق أبوابهم لتغير من حياتهم إلى الأبد ، ثم
قصة الحب التي ينسجها النص في تلافيف ذلك كله بين الرجل الأبيض القادم من بيئةٍ
مختلفةٍ تماماً و كرستين المرأة البيضاء التي رباها الهنود الحمر منذ أن فقدت
والديها على يد قبيلةٍ هنديةٍ أخرى ، الأوتار الثلاثة تعزف لحناً جميلاً دون نشاز
، ينشئه بليك من خلال حبكةٍ بسيطةٍ و سردٍ مباشر و سهل لعملٍ ملحميٍ في
منظوره البصري ، النص و من خلال مكانٍ مهم يمنحه لصوت الراوي و ولعٍ واضحٍ
بالتفاصيل ، يبدو تقليدياً لكن من الناحية الإيجابية لكلمة (تقليدي) ،
يسلك أبسط الطرق في سرد قصته ، و أسهلها في تقديم شخصياته ، و أوضحها في تبيان
عمقه و قيمته ، يبدو الأمر أشبه برحلةٍ طويلةٍ في حياةٍ يوميةٍ – لا تستغرب ان
كانت مملةً و رتيبة – في حياة رجلٍ وجد في الطبيعة و الحياة البكر غابةً من
الرحابة و الجمال ، فقط ثلاثة منعطفاتٍ هامة أو مشاهد خالدة تكسر تقليدية تلك
الرحلة التي تستمد قيمتها و أهميتها من غناها الواضح بالتفاصيل.
ما يلفت النظر في هذا
النص هو تميّزه الواضح في عملية تقديمه لشخصياته (الهنود الحمر
تحديداً) ، في معظم أفلام الهنود الحمر أو تلك التي تناولتهم بشكلٍ أو بآخر كان الهنود الحمر
جزءاً من المنظومة القصصية المتعلقة بالإنسان الأبيض ، لطالما كانت النصوص تأتي
بهم – قصصياً – إلى عالم الرجل الأبيض ، في هذا الفيلم يذهب النص إليهم قادماً من
عالم الرجل الأبيض ، يحييهم ، يمنحهم قيمتهم الحقيقية و كيانهم واضح المعالم ،
يسمح لهم بصناعة أجوائهم الخاصة (يكاد يكون العمل السينمائي الابرز على الإطلاق في
هذا الخصوص) ، يسمح لهم برسم ملامح حياتهم و بيئتهم ، يسمح لهم بالحديث بلغتهم
الخاصة (بعدما اصرت أفلام الويسترن الخمسينية على تقديمهم يتكلمون الإنجليزية للضرورة
السينمائية) ، هذه الجزئية بقدر ما تخدم أحد الأوتار الثلاثة التي يعزف عليها النص
في تقديم ارث الهنود الحمر و خصوصيتهم و ملامح التغيير القادم إليهم ، إلا أنها
تدعم بقوةٍ ايضاً بعداً مهماً جداً في الوتر الآخر الذي يخص مغامرة الجندي
الإتحادي في الطبيعة البكر ، يبدو ما يفعله النص من خلال اتاحة المجال لتقديم الهنود الحمر
كعالم خاصٍ و فريدٍ و مكتمل البيئة و الثقافة و ليس أسيراً لأحد جزءاً مهماً في
تفسير و تصوير كمية السحر الذي ضرب دنبار عند لقائه بهم ، كمية الفتنة و الإنجذاب الذي شعر به
تجاههم ، النص ينجح على هذا الصعيد بقوة خصوصاً عندما نشعر نحن أيضاً كمشاهدين
بنفس الإنجذاب الذي شعر به دنبار تجاه تلك البيئة الساحرة إلى الدرجة التي جعلت الفيلم –
بعد مرور أكثر من عقدين على اطلاقه – أشبه بالنشيد الوطني لأفلام الهنود الحمر
قاطبةً .
الفيلم لا يكتفي
بتجسيد الخصوصية كبيئةٍ فحسب ، هو يتعمد أن يصنع نوعاً من الفاصل الواضح بين
الصورة النمطية التي لطالما قُدّمَ بها الهنود الحمر سينمائياً ، و الصورة التي يفترض أنهم عليها في
الواقع ، يبدو الفيلم في بعض تفاصيله أقرب إلى محامي الدفاع الذي يصر على تصوير
الحضارة الأمريكية بذات الصورة التي تراها عليها تلك البيئة الأصلية التي عاشت في
المكان منذ الخليقة ، يقدمها كحضارةٍ اجتياحيةٍ عنصريةٍ قامت على سلسلةٍ من
الابادات الجماعية و عمليات السطو على الأراضي و لا يسرف كثيراً في تقديم ذلك ، هو
يهتم في الجانب الآخر بتقديم شخصياته الهندية بالصورة المطلوبة ، شخصياته بالرغم
من كونها تبدو مجرد صورةٍ تقليديةٍ للهنود الحمر اللذين لطالما شاهدناهم هنا و
هناك في أفلام جون فورد و جون واين إلا أنها مشبعة هنا بالكثير من الخصوصية ، لكل اسمٍ
من هذه الشخصيات الهندية خصوصيته الدرامية ، لكلٍ منها كيانه ، و روحه ، و ردات
فعله التي تتناسب مع تلك الروح ، أمر لا ابالغ اذا ما قلت بأنني لم أشاهد له
مثيلاً في أي فيلمٍ آخر يتناول شخصياتٍ من الهنود الحمر ، أهم من ذلك لم يكتفِ النص – الفائز هنا بأوسكار
أفضل سيناريو مقتبس عام 1990 – ببناء شخصياته جيداً بل بنى علاقاتها ببعضها بشكلٍ
جيد (مع اوجه قصور لا تنكر) و هو أمرٌ أغنى دون شك الخصوصية التي يبحث عنها النص
في تصوير هذا المجتمع كبيئة حقيقيةٍ مستقلةٍ و لها خصوصيتها و روحها و همومها و
تفاصيلها ، و مع أنه بدى دقيقاً في محاولته تلك الا أن هذا لا ينفي أن الايقاع
يفلت منه أكثر من مرة و هو يحاول تجسيد تلك العلاقات كما يجب ، خصوصاً في المرحلة
التي تنشأ فيها علاقة الحب بين كرستين و الرجل الأبيض الغريب و ردود الفعل الباردة – و غير
المنطقية نوعاً ما – من رجال القبيلة تجاه ما يجري .
و بالرغم من اجتهاد
النص كثيراً إلا أن هذا الفيلم ليس فيلم نص ، كيفن كوستنر المخرج -
الذي أصبح واحداً من قلةٍ ممن فازوا بأوسكار أفضل إخراج من عملهم الاخراجي الأول –
هو نجم هذا العمل دون منازع ، يبدو كوستنر وراء الكاميرا مولعاً كثيراً بالتفاصيل بالرغم من تمسكه
بالتقاليد ، ربما لأنه عمله الاخراجي الأول ، أو للنفس الملحمي الواضح للفيلم الذي
لم يرغب كوستنر ربما في تشويهه أو التأثير عليه ، لا توجد بهرجةٌ بصريةٌ في هذا
الفيلم ، هناك سحر حقيقي في الصورة ، الرجل يستثمر الفكر التصويري الخلاق لمدير
التصوير دين زملر لتقديم قصيدة شعر بصريةٍ في الولع بالطبيعة و بالأرض الأم
التي جاء هؤلاء المستعمرون ليشوهوا جمالها ، يقدم كوستنر لوحاتٍ تشكيليةً
للسماء الصافية ، و السحب المتحركة ، و الشمس لحظة الغروب ، و البراري المقفرة ، و
قطعان الجاموس ، اعادة احياء ساحرة لروح الغرب الأمريكي بعيداً عن الطقوس
التقليدية لفيلم الغرب الأمريكي في شخصياته و حبكته و روحه ، لحظات دنبار وحيداً
في معسكره الصغير تبدو أكثر لحظات الفيلم سحراً و أكثرها نفاذاً ، يبدو كوستنر
مفتوناً بتوليد درجةٍ عاليةٍ من الهارموني مع الطبيعة ، لذلك تبدو علاقة دنبار الفريدة
مع الذئب نوعاً من التقديم للسحر الذي يصيب دنبار لاحقاً أثناء
مراقبته التناغم الرهيب الذي يصنعه الهنود الحمر مع بيئتهم و محيطهم ، و عندما يقدّم الرجل مشهد
مطاردة الجاموس الأسطوري (و الذي صوّره بقطيعٍ من ألفي جاموس مستخدماً 9 كاميرات) يقدّم
الرجل لحظةً انعتاقيةً فريداً في دنبار : التحرر الكامل من العالم الهش و الأجوف الذي جاء منه و
الانغماس الكلي في العالم الجديد الذي وجد روحه تهفو اليه .
و مع أن كوستنر المخرج
لا يستنزف الكثير لتلميع ما يريد النص تقديمه من خلال خلق صورةٍ مختلفٍة للهنود
الحمر عن تلك التي رسختها افلام الخمسينيات إلا أن الرجل يعمل أكثر من النص في
تقديم علاقات الشخصيات ببعضها البعض في سبيل جعلها تبدو منطقيةً و حقيقيةً بصورتها
الأمثل ، و مع ذلك لا أراه ينجح تماماً في ذلك لأن نص بليك لا يساعده
كثيراً خصوصاً و أن الجزء الأوضح في تقديم العلاقة بين العالمين كما يصوره بليك قائمٌ في
الاساس على انبهار و رغبة دنبار بالعالم الجديد الذي اقترب منه أكثر من اعتماده على التفاصيل
الدقيقة و العميقة في كل شخصيةٍ على حدة – بالرغم من اجتهاده في ذلك – و هو أمرٌ
لا يمكن ان نغفله بالنظر اساساً لقيمة العمل النابعة من فرادته في تجسيد خصوصية الهنود الحمر و تقديمها
كشخصياتٍ حقيقيةٍ مكتملة الملامح على خلاف صناعة الكاراكتر التي
تعودنا عليها في ويسترن الخمسينيات .
بالنظرة التقليدية
لمفهوم النجاح في هوليوود يبقى هذا الفيلم أنجح فيلم ويسترن عبر العصور ، كان – و لفترةٍ
طويلة – واحداً من قلة قليلةٍ من أفلام الساعات الثلاث التي كسرت حاجز المائة
مليون دولار في شباك التذاكر الأمريكي ، قبل أن يصبح – ولا يزال – عمل الويسترن
الأكثر إيراداً على الإطلاق ، ثم كوفيء بإثني عشر ترشيحاً للأوسكار و بسبع تماثيل
ذهبية عام 1990 فاتحاً الباب على مصراعيه أما صنفٍ محتضر للعودة من الباب الكبير ،
يبدو جميلاً بالنسبة لي بعد عقدين كاملين أن أتذكر أن هذا الفيلم كان دافعي كي أشعر
بعشقٍ حقيقيٍ وليد تجاه هذا الفن .
التقييم من 10 : 8.5
أحد أفضل الافلام على الاطلاق و تقيمه بالنسبة لي هو
ردحذف10\10