كتب : عماد العذري
بطولة : براد بيت ، جيسيكا تشاستين ،
شون بن
إخراج : تيرنس ماليك
دائماً يكون من الصعب
تجاهل عملٍ سينمائيٍ يخرجه تيرنس ماليك. على مدى أربعة عقود اكتفى المخرج الغامض بخمسة أفلام
فقط فصل بين ثانيها وثالثها عقدان كاملان. وعلى مدى أربعة عقود والرجل يحتجب عن
وسائل الإعلام وحفلات الإطلاق ومهرجانات السينما صانعاً حوله هالةً من الغموض لا
يمتلك مخرجٌ آخر على وجه الأرض مثيلاً لها. تنقّل من نجاحٍ لآخر وبحث عن المجد السينمائي
الخالص ، بحث بطريقةٍ قد لا يجرؤ الكثيرون من صناع السينما على التفكير بها. ذلك البحث
الذي يجعلك تسخّر عقداً كاملاً لكتابة نصٍ ما ، وتصر على رؤيته النور مع كل التعقيدات
والتأجيلات التي رافقت العمل عليه.
القصة عن جاك أوبرين ، مهندسٌ
معماريٌ لن نعرف الكثير عن بيئته الزمانية أو المكانية. جاك يستذكر الطفولة التقليدية
التي عاشها مع شقيقيه و والديه في إحدى ضواحي ولاية تكساس في خمسينيات القرن الماضي
وصولاً إلى الرحيل الصادم لشقيقه الأصغر في سن التاسعة عشرة في ستينيات القرن .
يتحرى النص الذي كتبه
تيرنس ماليك بعضاً من أهم الأسئلة الوجودية التي يطرحها جاك أوبرين من
خلال الحكمة التي يسردها على لسان والدته ، عن السبيلين اللذين يمكن من خلالهما فهم
الوجود : سبيل الطبيعة ، الفج ، القاسي ، حيث الصراع الدائم ، و البحث المستمر
عن أسباب البقاء ، و سبيل الفضيلة ،
حيث العاطفة والحب والتضحية. السبيلان يختزلهما جاك أوبرين بوضوح في والديه
، بل أن صوت جيسيكا تشاستين يقدم السبيلين على خلفيةٍ بصريةٍ للوالدين أيضاً
كلٌ على حدة. يبدو الوالد صارماً ، مستبداً في بعض الأحيان ، فاقداً لأعصابه في كثيرٍ
من الأحيان ، يحاول التوفيق قدر ما يسمح به كبرياء الأب بين عاطفته تجاه أولاده ورغبته
أن يعدّهم للمرحلة التي هم على وشك الإقبال عليها ، أن يصبحوا مثله ! وتبدو الأم بالمقابل
عطوفة ، رقيقةً ، محبةً ، و متفهمة ، أقرب إلى قدّيسة. بين هذين السبيلين يطرح النص
مجموعةً من أهم الأسئلة الوجودية التي يحاول أوبرين من خلالها تفسير
علاقته بوالديه والوصول إلى ما يرضيه في فهم – أو تقبل – الرحيل المفاجيء لشقيقه. لا يستخدم ماليك في فيلمه نقاط تحولٍ من أي نوع في توجيه الأحداث ، هو يكتفي
فقط بالتأمل والإعتماد على الكيفية التي يرسم من خلالها (أزلية) الشخصيات وفي الوقت
ذاته يكيفها ضمن خصوصية البيئة التي يقدمهم من خلالها. الوالد هنا لا يكتفي بأن يكون والد جاك أوبرين
، الوالد هنا ككل والدٍ عبر العصور : قوته وعصبيته ، عودته منهكاً من العمل ، طموحاته
التي لا تنتهي ، خيبات أمله ، أسلوبه المختلف في التربية و التعليم بل وحتى طريقة العطف
الغريبة التي يحتويك بها عندما تعود إليه. و الأم هنا ككل أمٍ مرّت عبر التاريخ :
هالة الرقة التي تحملها ، حنانها على أولادها ، إنكسارها أمام والدهم ، تفهمها لمشاكلهم
دون حتى أن يتحدثوا عنها ، والقرب الدائم الذي يشعر به أطفالها تجاهها. الفيلم يجتاز
ببطله جاك أوبرين مرحلة الطفولة نحو عتبة المراهقة وهو يطرح كل الأسئلة
التي جالت في خاطره – و خاطرنا – يوماً في تلك الفترة : من أين أتينا ؟ إلى أين نمضي
؟ من نحن ؟ و الأهم : لماذا ؟ عندما يصيبنا شيء لا نستطيع تفسيره أو استيعابه. بقدر ما يبدو تعقيد التكنيك الذي يحاول أن يعبّر به ماليك عن أفكاره بقدر ما تشع
بساطة هذه الأفكار ووضوحها صانعةً صورةً عظيمةً وجليلةً لذلك الإسم الملهم الذي
يحمله .
لا يتوقف
النص عند الأسئلة. هو يراقب التطور ذاته ضمن شجرة الحياة التي نبتت
يوماً في بستان جاك اوبرين وبساتيننا جميعاً. يلعب على العواطف الكثيرة
والمتنوعة التي تتقاسم الفتية في هذه المرحلة الحساسة تجاه والديهم. ماليك على هذا الصعيد
حساسٌ جداً ، تكاد تشعر بالاحاسيس المتداخلة
التي تقاسمت جاك أوبرين وكأنما هي تنبض على الشاشة. لا يقف ماليك عند التقاطها فحسب
، هو يفسرها ويهتم بها أيضاً. يهتز جاك عند غرق أحد أصدقائه ، ردود الفعل العنيفة التي تشكّل تركيبة جاك نشعر بها ، نقبض عليها بثقة ونحن نشاهد مواجهته لصرامة والده
، واقترابه - العكسي - باتجاه والدته التي وجد في (سبيلها) حريةً أكبر لا
تلبث أن تتمدد وتبلغ ذروتها في مرحلة سفر الوالد. كل هذا ليمهد لفترة الإنتقال نحو
المرحلة الجديدة في حياة جاك أوبرين (البلوغ وسن المراهقة) و هي المرحلة التي نتحسسها أكثر
من أن نشاهدها على الشاشة. تصرفات جاك تتغير ، حتى ألعابه تبدأ تأخذ طابعاً عنيفاً ، نشعر به عندما
يسرق الملابس الداخلية لجارتهم ثم لا يلبث أن يغرقهم ربما بدافعٍ من خوفٍ أو من شعورٍ
بالذنب ثم يعود ليرتمي في حضن والدته ، بل أننا نقرأ أفكاره و هو يتأمل رافعة السيارة
التي يتوضع والده أسفلها محاولاً إصلاحها ، نشعر به يفكر في إفلات تلك الرافعة ليقضي
على والده و ينهي مصدر تعاسته كما يعتقد. يعرض ماليك ديناميكية
الصراع بين السبيلين في هذه المرحلة الحرجة جداً من الحياة : كيف أن سبيل الفضيلة يبدأ
في التراجع بينما سبيل الطبيعة يأخذ في الإستحواذ علينا. العالم لا يبدأ في الإسوداد
أكثر فأكثر كما يعتقد جاك أوبرين في كبره. العالم لا يصبح أسوأ أبداً بل نحن من نكبر
، و عندما نكبر ونمضي قدماً في رحلة الحياة تأخذ المعادلة في الإنقلاب تدريجياً. ملامح الفضيلة التي ارتسمت في عقل جاك من طفولته مع والدته وشقيقه اختفت لأنه كبر ، كبر فافتقد إليها
، لذلك هو يكتفي بمخاطبة والدته وشقيقه - من خلال صوت الراوي - في الفيلم لأنه يحتاج
لهم ! جاك أوبرين كبر ، ومع كل يومٍ مضى انتقل تقبله للوجود وفهمه له
من سبيل الفضيلة إلى سبيل الطبيعة ، حيث الإنسان يصر على ألا يكون سعيداً بالرغم
من كل الجمال الذي يحيط به !! تفسير عبقري لسيكولوجية التطور الإنساني ليس عبر عصور الإنسانية
فحسب وإنما عبر شجرة الحياة الخاصة التي يعيشها كلٌ منا أيضاً
.
مع ذلك يعاني الفيلم بشكلٍ
واضح في جعل تجربة جاك المستقبلية مهمةً للمشاهد. وكفيلمٍ يحاول أن ينظر نظرةً إرتجاعية
لرحلة الإنسان بين سبيلي الفضيلة و الطبيعة وصولاً للنقطة التي يقف فيها مسترجعاً ومقيماً كل ذلك أعتقد أن الفيلم لم يحصل على مراده تماماً. لم أشعر بأن ماليك صنع
لدي على مدى ساعتين ونصف ما يجعلني أتقبل ما سيحاول تقديمه لي من خلال تجربة جاك الكبير ، أو
حتى ما يجعلني أتقبل شون بن في دور جاك أصلاً. تبدو هذه المقطوعات تائهة وغير واضحةٍ بالطريقة التي
تجعل نظرة جاك الإرتجاعية داعمة للتفسير العبقري الذي تبناه النص عن محاولة
فهم الوجود الإنساني ، بل أن شون بن ذاته إنتقد دوره ووضوحه وترابطه في حواره الذي أجراه منذ
ستة أشهر مع صحيفة لوفيغارو الفرنسية
.
أعظم من كل ذلك يقف تيرنس مالك في
الإنجاز الإخراجي الأعظم ربما في مسيرته. يوظف كل أدواته الإخراجية الشهيرة : صوت
الراوي ، الضوء والظلال ، التناغم الصوتي البصري ، وسحر الطبيعة كشخصيةٍ أساسيةٍ من شخصيات كل أفلامه ، يوظف كل ذلك في
أكثر صوره جلالاً وفخامة ليقدم لنا هذه الرحلة التأملية في مغزى الوجود ، والقوى التي تحكمنا ضمنه. من النادر أن نشاهد كل هذا الكم من الإعتناء بالتفاصيل في
فيلمٍ بكل هذا الكم من الشاعرية. لطالما إعتمدت الشاعرية البصرية في جوهرها
على الصورة الكبيرة. في هذا الفيلم
تنساب الشاعرية من بين أدق التفاصيل : الظلال المعكوسة ، الصور المجتزأة ، اللقطات من جانب الوجه ، الكاميرا وهي تطارد مصدر الضوء ، أطفالٌ يلهون بدراجاتهم ، رضيعٌ
يخطو خطواته الأولى ، الأشجار ، الحشائش ، الستائر والشراشف التي تعزف مقطوعةَ تنساب
برقة الماء ! ماليك يراهن بقوة على أصالة الرؤية البصرية الشاعرية التي
قدمها منذ السبعينيات ، تاركاً للمزيج البديع الذي تصنعه موسيقى الفرنسي أليكساندر ديسبلا وكاميرا
المكسيكي إيمانويل لوبيزكي الإبقاء على شاعرية الفيلم متدفقة ومستمرة منذ اللحظة الأولى وحتى آخر نفس في الفيلم ، و يجعلها ملجأ المشاهد الأخير
عندما يشعر بأنه ضاع في محاولة إستيعاب أو تقبل ما تريده الحكاية - بالمعنى التبسيطي للكلمة - يعيده للتوازن ويربطه
بشكلٍ مباشر بالثيم الشاعري الذي رسّخه والذي يجعل من مشاهدة الفيلم تجربةً
مغريةً وطازجةً ومشبعة الأفكار ، على الرغم من كونها مرهقةً أيضاً .
إلى جانب تلك الخصوصية البصرية يكتسب الفيلم قوةً لا تضاهي من خلال الخمسة عشرة دقيقة التي تمثلها
متوالية الخلق و ولادة الكون التي تضرب الشاشة بعد ثلث ساعةٍ من
العرض كترجمةٍ بصريةٍ لأزلية ما يُروى هنا. المتوالية التي أعادت عملاق المؤثرات البصرية دوغلاس ترومبل للعمل بعد
قرابة ثلاثة عقود على عمله الأخير في تحفة ريدلي سكوت Blade Runner. دوغلاس ترومبل ينفذ المتوالية بذات الطريقة التقليدية التي
خلّد بها عمله الأسطوري والسابق لزمانه في 2001: A Space Odyssey والذي قد لا تخطيء العين
مدى تأثر فيلم ماليك هذا بروح تحفة ستانلي كوبريك التي لا
تنسى. في متوالية الخلق بالذات يمنح تيرنس ماليك و دوغلاس ترومبل مشاهديهم واحدةً من متع العام التي لا يمكن أن تنسى .
عندما ترقّب الكثيرون
– وأنا منهم – منح ترشيحٍ لأوسكار أفضل فيلم ومخرج لهذا العمل لم يكونوا مدفوعين
فقط برغبةٍ مجردةٍ تجاه مشاهدة فيلم رأوا فيه واحداً من أفضل أفلام العام. كانوا مدفوعين
برغبة مشاهدة أعمالٍ فنية حقيقيةٍ كهذه تكرّم وتجد القبول في أكبر المحافل السينمائية
في العالم. و عندما أجد بنهاية الموسم أن
الفيلم الذي انتظرته لأربعة اعوامٍ كاملة نال التكريم الجوائزي الذي استحقه أشعر بأن
عبارة (واحدٌ من أكثر أفلام العام إنتظاراً) التي نطلقها على بعض الأفلام
هنا أو هناك قبل إطلاقها ما زالت تؤتي ثمارها فعلاً بالرغم من تعدد خيبات الأمل ، و
مع The Tree of Life بالذات كان موسم الثمار
رائعاً بالفعل .
التقييم من 10 : 9
0 تعليقات:
إرسال تعليق