Archipelago

كتب : عماد العذري 

بطولة : كيت فاهي ، تم هيدلستون ، ليديا ليونارد 

إخراج : جوانا هوغ 

أخرجت جوانا هوغ للسينما فيلماً روائياً طويلاً واحداً قبل فيلمها هذا حمل إسم Unrelated. لم أشاهد ذلك الفيلم ولا أعتقد أنني بصدد ذلك قريباً. لكن على الرغم من أنني غير قادر على الجزم بثقة بأهمية جوانا هوغ كمخرجة بعد مشاهدتي لثاني أفلامها Archipelago إلا أنني أعتقد من واقع هذه المشاهدة أن جوانا هوغ يمكن أن تكون - مثل أندريا أرنولد ولين رامزي وأخريات - واحدةً من أهم الأسماء المرتقبة من المخرجات النساء في بريطانيا .

 

في فيلمها هذا تبدو ارهاصات (المخرج المتمكن من أدواته) جليةً و هي تطوع نصاً كتبته عن الأشخاص العاديين الذين يعيشون حياةً عادية في زمنٍ عادي و مكانٍ عادي و ظروفٍ عادية و ضمن أحداثٍ عادية. شيء لا يمكن إلا أن يذكرك بعظمة الأعمال التي قدمها البريطاني الكبير مايك لي عبر عقدين من الزمان . 

فيلم جوانا هوغ الثاني يتناول عائلةً بريطانيةً ثرية تجتمع لقضاء إجازةٍ على إحدى الجزر في أرخبيل سيلي قبالة الساحل البريطاني. أمٌ خمسينية و ولداها، إدوارد الشاب الذي يتخلى عن عمله من أجل الذهاب في مهمةٍ تطوعية لمحاربة الإيدز و التوعية بأخطاره في أفريقيا لعامٍ كامل ، و سينثيا الإبنة المتوترة و الغامضة و التي لا تخفي حنقها من إقدام شقيقها الأصغر على هذه الخطوة - غير المدروسة - في حياته. ينتظرهم في الجزيرة الطاهية روز التي قدمت من بلدتها البعيدة لتخدمهم خلال هذه الإجازة ، و صديق العائلة كريستوفر ، الرسام الحالم الذي يعطي العائلة من حينٍ لآخر دروسه في الرسم و الفن و الجمال. الجميع هناك على الجزيرة لوداع إدوارد قبل سفره في إنتظار الوالد الذي من المقرر أن ينضم إليهم لاحقاً . 

جمالية هذا النص تكمن في أنه لا يتعامل مع الحدث كركن أساسي في بناءه. بل لا أبالغ إذا ما قلت بأن المشاهد لن ينتظر شيئاً حقيقياً على مستوى الحدث في هذا الفيلم. هذا الفيلم هو عن أشخاصٍ عاديين كانوا يعيشون قبل هذه الفترة الزمنية التي يتناولها النص و سيضلون مستمرين في حياتهم بعدها. أنت لا تراقبهم لأن هناك حدثاً مهماً سيضرب حياتهم خلال هذه الفترة الزمنية. أنت فقط تراقبهم. النص ينسج تركيبته حول التفاصيل الملتقطة أثناء عملية المراقبة تلك. محاولة التكثيف من خلال تلك التفاصيل للإقتراب أكثر منهم ، و الإهتمام أكثر بهم في محاولة لفهم طبيعة الحياة التي يعيشونها. نصوصٌ كهذه - وإن بدت مملةً في معظمها - تعرض امتاعها من خلال محاولة التكثيف على إختزال الفترة الزمنية للحدث في الفترة الزمنية للعرض. هذا النص على العكس يختزل ما يستطيع إيصاله فقط من الفترة الزمنية للحدث (الهلامي / غير الواضح / الذي يمكن افتراض أنه الإجازة ذاتها هنا) دون أن يحاول تطويع كل الكلام ضمن المدة الزمنية للعرض. يهتم بالفترة الزمنية للعرض كأداة يقول فيها ما يمكن أن يقال فقط ، تاركاً الكثير مما لم يقل لمشاهده. يراهن النص كثيراً على بواطن الأمور و ليس على ظاهرها. يبدو ما بين السطور أقوى و أوضح و أهم بكثير مما فيها. يبدو مزيج الأحاسيس الذي يتجاذبنا و نحن نتأمل حياتهم أقوى و أعمق من ذلك الذي نشعر به تجاه الحدث الذي نعيشه الآن معهم . 

في الظاهر تجتمع هذه العائلة لتكون أقرب من بعضها البعض. لكنها في العمق تبدو أبعد بكثير عن بعضها البعض. هذا الإحساس - غير المبتكر والذي تم طرقه مراراً - لا يكتفي النص بالمراهنة على إسم الفيلم وحده لإيصاله إلينا و إنما يراهن على إهتمام مشاهده بالتفاصيل البسيطة التي ترسمها القوقعة التي يفرضونها حول أنفسهم و يتحكمون من خلالها ببعضهم على الرغم من العزلة الداخلية الموحشة التي يعيشونها. إدوارد الذي يحضر إلى الجزيرة دون صديقته التي رأت عائلته في حضورها هتكاً لحميميةٍ عائليةٍ لا نشعر بها أبداً كمشاهدين. و سينثيا المتوترة دائماً ، الغامضة و المبهمة في كثيرٍ من الأحيان ، الفارضة وجودها في كل أرجاء المكان ، و التي تبدو مشاكلها أكبر بكثير من مجرد حنقٍ على شقيقٍ يغادر لسببٍ لا يروق لها ، أو طاهيةٍ تجدها قريبةً من شقيقها فجأة ، أو وجبةٍ لا تروقها في مطعم. و الأم التي تتوتر شيئاً فشيئاً من زوج يتخلى عن الحميمية العائلية المفترضة في هذه الإجازة و يقرر عدم المجيء لظروفٍ لا تقال لنا. في العمق نشعر بأن الشخصيتين الدخيلتين على هذه العائلة - روز و كريستوفر - تستمتعان بما تفعلانه أكثر بكثير من العائلة - محور النص. نستمتع ونحن نستمع في مشاهد خاصة إلى كريستوفر يسرد نظرياته عن الفن و الجمال متأملاً الطبيعة الخلابة ، أو نشاهد - في مشاهد أخرى خاصة - روز و هي تنهمك في عملها و تتعلم - بشيء من التفصيل أحياناً - طريقة طهي البط أو طريقة تحضير اللوبستر ، على الرغم من شعورٍ لا نستطيع تجاهله تجاه كونهما في الأساس شخصيات دخيلة - خصوصاً شخصية كريستوفر - لكن نتجاوز ذلك بالنظر إلى أن النص إعتمد في هيكليته على إمكانية تواجد شخصيات كتلك و ليس على منطقية تواجدها. نهَج النص منذ البداية نهج المراقب للعائلة و لكل ماهو ممكن في حياتها ، و لأن تواجد شخصيات كهذه (ممكن) فإن توظيف النص لوجودهما يبدو جيداً و مهماً في دعم التقاطنا لكل ما يريد قوله حول ما نشاهد. نشعر برمزية إسم الفيلم صارخةً في الختام ، العائلة / الأرخبيل : المعزولة ، و المتباينة ، و المستقلة عن بعضها داخلياً ، رغم توحدها في منظومةٍ شكليةٍ واحدة. 

عمل أدريانا هوغ الإخراجي لا يقل في قيمته عن نصها. يدعم النص كثيراً و يعزز من إيقاعه الداخلي الذي لا أعتقد بأنه يسقط و لو لثانية. أدريانا هوغ تعمد - من أجل تطويع هذه النظرة التأملية التي ينهجها النص - إلى استخدام الإطارات الثابتة في التصوير، على خلاف النهج السائد في السينما البريطانية المستقلة اليوم. تمنح من خلال لقطات المراقبة و التلصص ذات الإطار الواسع إحساساً يريد أن يزرعه فينا النص عن أن الحدث الذي تعيشه الشخصيات غير مهم ، التفاصيل هي المهمة. تترك هوغ المشاهد للمراقبة ، فيستمتع ربما بالمشاهد ذات الإضاءة الطبيعية واللقطة الواحدة الطويلة كإطارٍ بصريٍ لسجالاتٍ حواريةٍ يبدو بعضها مرتجلاً. تبتعد جوانا هوغ عن الكلوز آب باستثناء مشاهد معدودة من أجل منح مساحةٍ أكبر للغة الجسد، و تنأى بمشاهدها عن أي الهاءٍ بصريٍ لا معنى له. تحاول فقط جعله في موضع المراقب و المتأمل و تنجح في ذلك إلى حدٍ بعيد بالرغم من أن الأمر ذاته لا يخلو من رتابة تأتي - منطقياً - في الأساس من أي فعل (مراقبة). لا أبالغ إذا ما قلت بأنني نفرت من لقطات الكلوز آب القليلة في الفيلم. أدريانا هوغ تتماهى أيضاً مع الطبيعة في المشاهد الخارجية وتجعلها معبرةً بشكلٍ مباشرٍ عن الشخصيات، أشبه بفواصل إستراحة من عملية المراقبة تلك ، معززةً ذلك بغيابٍ كامل للموسيقى التصويرية ، و بمشهدية ممتازة تؤطر الحوارات المكتوبة بعناية. 

فيلم أدريانا هوغ هذا ليس كلاسيكيةً بالنتيجة. ليس من نوعية الأفلام التي ستختمها بالتصفيق المطول. و أحياناً ستشعر بأنه ليس واضحاً تماماً في (سطوره) ناهيك عمّا بينها. لكنه واحدٌ من تلك الأعمال التي قد يقدرها عاشق السينما و يحييها ويحترم ذكاء نصها وامتياز مخرجها في التعامل معه. واحد من أفضل أفلام (ما بين السطور) التي شاهدتها مؤخراً. 

التقييم من ١٠ : ٨