كتب : عماد العذري
بطولة : جوني ديب , مارتن لانداو , سارة جيسيكا باركر , باتريشا أركيت , بيل ميري .
إخراج : تيم بيرتن .
" Two Big Thumbs Up ! " الناقدان الكبيران جين سيسكل و روجر إيبرت .
(( إنه لمن السخرية أن ينال المخرج الذي قدم مجموعة من أسوأ الأفلام على الإطلاق عن حياته واحداً من أعظم أفلام السير الذاتية على الإطلاق ! )) الناقد جيرمي هيلمان .
في فيلمهما الأجمل يقدم الثنائي الرائع تيم بيرتن و جوني ديب واحداً من أرق أفلام السيرة الذاتية , وأكثرها شفافية .. مستكشفين معاً الجوانب الخفية في حياة إدوارد دي وود جونيور الذي باتت المراجع السينمائية تعرفه - تحت بندٍ يكاد يشكل إجماعاً اليوم - كـ( أسوأ مخرج في تاريخ هوليوود ) !
يحكي الفيلم سيرة إدوارد دي وود جونيور المخرج الشاب المفتون بحب الفن السابع .. الطامح يوماً ليذكر إسمه إلى جوار أورسون ويلز الذي كان في الخامسة والعشرين من عمره عندما كتب وأنتج وأخرج وقام ببطولة فيلم زلزل كيان هوليوود ونسف كل قواعدها وأساليبها القديمة ( المواطن كين ) .. يتتبع الفيلم ( من خلال نص سكوت ألكساندر و لاري كارازيفسكي عن كتاب ردولف غراي ) سيرة إد وود الشاب وهو يستكشف مواهبه السينمائية باحثاً عن العظمة .. متنقلاً من سقطة إلى أخرى .. من فشل إلى آخر .. محيطاً نفسه بمجموعة من منبوذي هوليوود : عجوز مدمن .. وشاذ يبحث عن التحول .. ومصارع سويدي ضخم .. هذا الطاقم الذي يبدو فريداً من نوعه .. يشارك وود أحلامه بأن يكون الفيلم المقبل جيداً .. لكنه لا يكون ..
وود يرى أن خطوط التشابه بينه و بين ويلز كثيرة : الشباب , الشغف بالسينما , الرغبة و العزم على ترك أثر بعده لا ينسى .. كما أن كلاهما يكتب وينتج ويخرج الأفلام التي يقوم ببطولتها .. لكنه عاجز عن فهم السر الذي يجعله بعيداً عن كل ذلك الثناء الذي يلقاه ويلز .. فهو يفني وقته في إلتقاط الأفكار .. البحث عن الممثلين .. إيجاد التمويل .. سهر الليالي من أجل إنجاز نص أو إكمال مشهد .. لنغوص معه باحثين عن ذلك السر الذي باح به له يوماً أورسون ويلز نفسه ( وفي مشهد رائع ) .. في الوقت الذي كان فشل أفلام وود يتوالى واحداً تلو الآخر ..
يفتتح الفيلم عام 1953 في عصر الرفاهية الأمريكية بعد بضع سنوات على النصر المحقق في الحرب العالمية الثانية .. حيث الأجواء مهيأة لتقديم كل ما قد يساهم في نسيان مآسي الحرب .. نلقي نظرة على وود المهووس بصناعة فيلمه الفعلي الأول ( سأغير جنسي ) والذي سيتناول فيه بشكل خفي جزءاً من حياته الشخصية ( رغم أنه كان إنساناً سوياً ) .. عشوائية إد وود تبدأ من هذا المشروع الذي إنتهى أخيراً ( بعدما تغير فيه كل شيء تقريباً !! ) إلى فيلم Glen or Glenda? .. قبل أن يلتقي العجوز بيلا لاغوسي ( صاحب شخصية دراكيولا الشهيرة مطلع الثلاثينيات ) .. ليصير نجم أعماله المقبلة الفاشلة مراراً وتكراراً .. و بعد تصويره بضع مشاهد في مشروع وود عام 1956 ( Plan 9 from Outer Space ) يموت لاغوسي , لكن وود لا يتوقف .. ويضطر هنا إلى اللجوء إلى ممثل بديل يكمل الفيلم وهو يغطي نصف وجهه .. ليضيف فيلماً آخراً إلى أسوأ مسيرة سينمائية نالها مخرج على الإطلاق ..
هنا فيلم سيرة ذاتية ليس ككل أفلام السيرة الذاتية .. التفرد هنا يكاد يصل مثاله الأكمل .. والتفرد هنا يعني المعنى بحذافيره .. نصاً وأداءاً وإخراجاً .. بيرتن هنا في أفضل حالاته الإخراجية ..يصنع وفق رؤيته الخاصة ( التي يكتنفها الجمال حتى وهي في أسوأ حالاتها ) فيلم سيرة ذاتية يعتبره هو نفسه ( مشروع العمر ) ..
من النادر أن تشاهد فيلم ( سيرة ذاتية ) يغوص في إنسانية الشخصية وروحه كما يفعل هذا الفيلم ( وربما لم يحدث منذ ثور سكورسيزي الهائج ) .. نشاهد هنا إنساناً غريب الأطوار .. مولعاً بصناعة السينما ولعه بملابس النساء .. مخلصاً إلى أقصى درجات الإخلاص لصناعة فن سينمائي راقٍ دون أن يتمكن من ذلك فعلاً .. هو يبدو هنا كأولئك الأشخاص المهووسين بكرة القدم لكنهم لا يجيدون اللعب .. هو فنان شديد الحساسية لكنه في فنه كتلة من الأخطاء المتراكمة تمشي على قدمين .. وهو قبل ذلك كله إنسان أولاً وأخيراً .. إد وود وفق رؤية تيم بيرتن إنسان قريب منا .. مرح .. بشوش .. طموح .. لا نجد ذلك التعقيد في تقديم سيرته .. لأنه كان أكثر بساطة من أن نتناوله بتعقيد .. لا نجد حاجزاً في إستكشاف شخصيته .. لأنه أبسط بكثير من مخرجي زمانه .. بيرتن هنا يصنع سيرة ذاتية لا يستكشف فيها الجوانب الإنسانية في حياة مخرج .. بل يستكشف الجوانب الإخراجية في حياة إنسان .. إنسان جداً .. يعاني أخطاء الوالدين .. وتعدد العلاقات الغرامية ( تصوروا أنه إلتقط زوجته من غرفة الإنتظار في أحد المستشفيات ! ) .. يعاني مشاكل كل من يحيط بهم .. مستمع جيد .. متفهم جيد .. ظل مع عجوز مدمن مثل بيلا لاغوسي حتى لحظات حياته الأخيرة .. رغم أنهما لم يجتمعا إلا بفشل متشبث بكليهما !.. كان إنساناً راقياً جداً .. لكن فنه لم يكن كذلك !
بيرتن بفيلم أنيق ( بالأبيض والأسود ) يقدم ذلك كله في سيناريو شديد السرعة .. شديد المتعة .. يجعلنا نلهث راكضين وراء سقطات وود .. وورطاته الغبية .. حتى يجعلنا نكاد نصرخ ( كفى أيها الغبي .. لا تفعل ذلك ! ) .. لكننا نعجز عن ذلك .. يفتتح فيلمه هذا بمحاكاة لأسلوب أفتتاحيات وود نفسه ( خصوصاً في أفلام الرعب الفاشلة التي قام ببطولتها نجمه الأثير بيلا لاغوسي ) .. أسماء الأبطال على شواهد القبور .. الأخطبوط .. الفضاء الخارجي .. وحيث كريزويل يروي الفيلم من تابوته كما كان يفعل في أفلام وود .. وكأنما يستعد لينطلق معنا لنطارد وود من إستوديو إلى آخر .. من فيلم فاشل إلى آخر أكثر فشلاً .. من منتج للأفلام الرخيصة إلى قس في أبرشية .. مروراً بحفلات التبرعات الخائبة غالباً .. وصولاً إلى متعهدي اللحوم .. مقدماً التنازل تلو الآخر : تغيير عناوين أفلامه .. تغيير النص .. تغيير الأبطال .. وتغيير الفيلم كله أحياناً .. بل أن الأمر وصل به ليعمد مع كامل طاقمه في إحدى الكنائس ليضمن تمويلها لفيلمه !.. لينتهي به الأمر كما يحدث على الدوام .. مطروداً من العرض الإفتتاحي !
و بيرتن رغم تعرضه لعشوائية إخراج وود لكنه لا يظهره بمظهر المضطهد .. إد وود في الواقع كان مهووساً بكل مشهد صوره ( حتى ولو كان معدلاً من قبل الغير ) .. كان يعشق كل فكرة إخراجية ينفذها .. كل حركة كاميرا .. وكل قطعة مؤثرات .. كان متحمساً لكل إقتراح يقدمه أفراد طاقمه .. دون أن يدرك خطورة ما يفعل !
وربما كان أسهل على بيرتن في تناوله لإد وود تقديمه بصورة تميل إلى السخرية , فهو ببساطة ( أسوأ مخرج في تاريخ هوليوود ) .. لكن بيرتن لا يفعل .. هو يركز هنا على ذلك الإحساس وتلك العواطف وذلك الحب الذي يملأ كيان وود تجاه الفن السابع .. و إصراره الدائم على ( إساءة التعبير ) عن ذلك الحب .. ليلتصق بفشل دائم .. لا يدري له سبباً ..
لعل من أجمل الجوانب التي ركز عليها بيرتن في فيلمه هو الجانب الإنساني الرائع بين إد وود والعجوز بيلا لاغوسي الذي يعاني نجومية أفلت وإدماناً على المخدرات .. والذي ما من سبب أو حافز يدفع وود إلى إستخدامه في أفلامه سوى كونه أحد ممثليه المفضلين في طفولته .. وما من سبب يدفع لاغوسي للعمل معه سوى حبه له ولحماسه وطاقته .. رغم أنه هبط بمسيرته ( كواحد من أعظم ممثلي أفلام الرعب ) إلى الحضيض .. لكن العلاقة بينهما كان تتجاوز صناعة السينما إلى نوع من الإنسجام الروحي .. يغلفه إعجاب ظاهري ببعضهما البعض .. دفع وود للبقاء مع صديقه العجوز في محنته .. وظل وفياً له حتى لحظاته الأخيرة ..
ورغم إصرار بيرتن على نقل الحقيقة وإستكشاف مراحل حياة إد وود .. وهي نظرياً حياة بائسة له ولفريق عمله كما يبدو ( فشل تلو آخر ) .. لكننا لا نجد خطاً تراجيدياً واضحاً في الفيلم بل بالعكس نجد أنفسنا منخرطين في شلال من الكوميديا – الخفية ربما – تصنعها في الواقع تلك العشوائية التي يعيشها وود في حياته .. وذلك التخبط الذي يجعله يسيء إلتقاط الأفكار .. ويسيء التعبير عنها في النص .. ويسيء تنفيذها بعد ذلك .. لدى إد وود :كل يوم يقف فيه خلف الكاميرا هو يوم عيد .. لكن هذا العيد دوماً ما كان ينتهي بكابوس فشل .. هذه الكوميديا الخفية التي يملأ بها بيرتن نواحي فيلمه ( والتي هي ناجمة ربما عن كوننا نعرف مصير وود أساساً و مصير أفلامه وماذا سيعتبره نقاد السينما بعد ذلك ) تجعلنا نشعر بعد زوالها بالمرارة .. و من الصعب بعد كل ذلك ألا تحب وود .. وتتعاطف مع كفاحه العسير في سبيل المجد .. ومن الصعب أن تتعامل مع الفيلم بعد ذلك إلا على أنه ( قصة كفاح ) .. رغم كونك تضحك أحياناً أثناء مشاهدته !
بيرتن كذلك لا يتعمد تلقيننا أسباب فشله , بل هو يزرع هذه الأسباب بذكاء في فيلمه .. تاركاً للمشاهد فرصة إلتقاطها .. فإد وود لم يكن أكثر نجاحاً قبل لقاءه ببيلا لاغوسي .. ولم يكن أكثر فشلاً بعد لقاءه بتور جونسون .. وهما وحدهما لم يكونا سبباً في فشل إد وود .. لم تكن كذلك علاقاته الغرامية وحدها هي السبب ( إنظر مثلاً كيف تخلص من دولوريس ثم كيف تعرف على كاثي ) .. لم يكن التمويل وحده هو السبب .. كل ما سبق ساهم بشكل كبير في أن يضيف أخطاءاً إلى تراكم الأخطاء التي يصنعها وود نفسه .. ركز على طبيعة الأفكار التي يلتقطها لأفلامه .. ومن أين يلتقطها .. ركز على عناوين أفلامه وعلاقة هذه العناوين أصلاً بمحتوى فيلمه .. تأمل طبيعة حواراته .. و أداء ممثليه .. ركز على عدد المشاهد التي يقوم بتصويرها في الليلة الواحدة .. ركز على المشاهد التي يضيفها لفيلمه من أفلام توثيقية أو حتى من الأخبار المصورة ! .. شاهد السهولة والمرونة الكبيرتين في تغيير أي شيء في فيلمه .. رضوخه السهل لأي إقتراحات إنتاجية .. شاهد أساليبه المختلفة في الحصول على تمويل ( يجمع التبرعات أحياناً وقد ينحني بسهولة أما فامبيرا في سبيل ذلك , يعقد إتفاقاً غبياً مع إمرأة يراها في حانة على تمويل فيلمه مقابل أن تقوم ببطولته , يرضخ لإقتراحات رجال الأبرشية حول فيلم سيمولونه حتى لو وصلت هذه الإقتراحات لتغيير الفيلم كله أو لتعميد طاقمه في أبرشيتهم بل أنه يعدهم بسلسلة من الأعمال الدينية إذا أرادوا ! , ويحصل على تمويل متعهد للحوم في أحد أفلامه مقابل أن يقوم إبنه بدور البطولة ! بل أنه يضطر للسرقة في إحدى المرات كي لا يتوقف تمويل فيلمه !! ) .. شاهد عميلة تصويره لأفلامه وإصراره على التغاضي عن الأخطاء إمعاناً في الواقعية !!!.. لاحظ طريقة تنفيذه لمؤثراته الخاصة ( الفضاء الخارجي – صحون مطبخ تعمل كصحون طائرة ! - أو الأخطبوط .. ولاحظ أساساً أين تم تنفيذ مشهد الأخطبوط !! ) .. كل هذه التفاصيل الصغيرة التي نثرها بيرتن هنا وهناك منحتنا صورة متكاملة عن سيرة حياة هذا الرجل .. ورغم أن بيرتن يختصر قرابة ستة أعوام ( هي الأهم في حياة وود ) في ساعتين .. لكنه يصنعها بحيوية مفرطة .. تجعله تلك التفاصيل المتناثرة من أفلام وود نفسه في جوانب هذا الفيلم ممتعاً إلى درجة كبيرة .. ممتلئاً إلى درجة الإشباع ..
ورغم أن الفيلم كلف أكثر من أفلام إد وود مجتمعة إلا أن بيرتن لا يريد في فيلمه هذا صناعة فيلم سيرة ذاتية كبير في تنفيذه .. ولو شاء لفعل , فهو ملك الفانتازيا وأحد سادة التأثير البصري ..لكنه يقدم هنا شخصية يفترض ألا يذكرها التاريخ بخير .. أنت هنا لا تحاول تمجيد لورانس العرب أو المهاتما غاندي أو مالكوم إكس .. أنت هنا تصنع فيلما شديد البساطة في بهرجته ( حاله حال بساطة أفلام إد وود نفسه ) .. لكنه عميق في نفاذه .. ساحر في تأثيره .. سريع في وصوله ..
تيم بيرتن ورغم إعجابه بروح المخرج لدى إد وود لكنه لا يتبع في عمله هنا مقولة إد وود الشهيرة ( ليست التفاصيل الصغيرة هي ما سيهتم به الناس .. إنها الصورة الكاملة ! ) .. فأدوات تيم بيرتن التقنية مازالت كما هي في القمة .. بدءاً بتصوير ستيفان تشابسكي الساحر والذي يستلهم فيه أساليب أفلام وود الأخيرة مقدماً عملاً مذهلاً بالأبيض والأسود ( نال عنه جوائز عديدة لكننا لم نشاهده بعد ذلك في حفل الأكاديمية ! ) .. هوارد شور ينجح في التحدي الذي وضعه فيه تيم بيرتن فهو العمل الوحيد الذي لم يوكله إلى رفيق دربه الموسيقي داني إلفمان .. يقدم مقاطع جميلةً للغاية جذابةً منذ لحظات الفيلم الإفتتاحية .. مونتاج كريس ليبنزون ( المونتير الأثير لتيم بيرتن ) يقدم تنفيذاً حيوياً جداً لأجزاء العمل يجعلنا نلهث ونحن نطارد وود من مكان لآخر .. وهو ما قضى على أي رتابة تكتسبها أعمال السير الذاتية عن أولئك الأشخاص الذين لا نعرف عنهم شيئاً .. مستخدماً أسلوب أفلام إد وود أيضاً وبتقنياتها أيضاً ( تقنية الـ Cover أو التغطية : من اليمين إلى اليسار أو من الأعلى إلى الأسفل وبالعكس ) .. بل أن إهتمام بيرتن بالتفاصيل الدقيقة وصل ذروته في مشهد أورسون ويلز الذي تم تنفيذ حواره بالكامل على الكمبيوتر وبصوت أورسون ويلز نفسه ( رغم أنه حوار مصطنع ! ) ..
لكن التحدي الحقيقي كان يقف أمام الماكيير الأسطوري ريك باركر ( الحائز على ست جوائز أوسكار وصاحب الأعمال الماكياجية المذهلة في The Exorcist , Star Wars , An American Werewolf in London , ولاحقاً في The Nutty Professor , Men in Black , Dr. Seuss's How the Grinch Stole Christmas , Planet of the Apes , وأخيراً Hellboy !! ) يقدم تنفيذاً شديد الدقة عالي الجودة لكل هذه الشخصيات الحقيقية في الفيلم .. بل أن دقته وصلت لدرجة أن الفيلم إعتمد في بعض مشاهده على مشاهد حقيقية من أفلام وود دون أن يقوم بيرتن بإعادة تصويرها بواسطة ممثليه !! ولم أشاهد شخصياً دقةً تنفيذيةً للماكياج في فيلم سيرة ذاتية كتلك التي شاهدتها في عمل بيرتن هذا ..
كل تلك الجهود المبذولة على الصعيد التقني صنعت في الواقع معادلة صعبة : فأقل أفلام بيرتن إشباعاً بصرياً هو بالمقابل الأعلى قيمةً فنيةً .. والأكثر تأثيراً طوال مسيرته ..
جوني ديب في أحد أفضل أداءاته .. ينسل تحت جلد وود و يذيب نفسه فيه .. مبدعاً شخصية الرجل المهووس بحب الفن السابع .. الطموح للمجد .. المتحمس لصناعة فيلم جيد ( حماس إد وود الذي يرسمه جوني ديب هنا قادر على إقناع مارلون براندو ذاته بالعمل معه ! ) .. هذه الرغبة في الشخصية يرسمها ديب بتوازن فريد مع الجانب المأساوي في حياة وود .. دون ذرة من ضعف .. ودون خلل في البنى التحتية للشخصية .. لا تستطيع أن تتوقع مالذي يمكنه أن يفعل ( خصوصاً تحت إدارة صديقه المقرب تيم بيرتن ) .. يصنع بطريقة كلامه المميزة .. وإبتسامته الظريفة ( مع حاجبين مقوسين على غرار جاك نيكلسون ! ) .. وجاذبيته الطاغية أداءاً شديد التمكن .. متنقلاً بسهولة ويسر من ذروة الحماس إلى ذروة اليأس .. مروراً بمنعطفات نفسية كثيرة تجاوزها كسائق محترف .. ومن الصعب أن تتجاهل تلك الجدية وهو يقارن نفسه بأورسون ويلز .. أو تلك الملامح التي إرتسمت على وجهه عندما شاهد أورسون ويلز أمامه في الحانة .. أو تلك السعادة وهو يشرح طبيعة فيلمه للمنتج .. أو ذلك الأسى وهو يعاني مشاكل لاغوسي .. أداء كان يستحق فعلاً تنويهاً من الأكاديمية .. لكنك تدرك صعوبة الأمر إذا علمت أن الفيلم ذاته تجوهل أوسكارياً , وأن حامل الغولدن غلوب ( هيو غرانت عن أربع زيجات وجنازة ) ومرشح جوائز النقابة SAG ( تيم روبنز عن إصلاحية الشاوشانك ) عجزا عن الوصول أيضاً .. هذا الأداء الذي قدمه جوني ديب قبل عشرة أعوام جعلني ( بعد مشاهدتي لعشرين فيلماً من أصل 26 هي مجموع مسيرته ) أخلص إلى شيء واحد : هذا الرجل هو مشروع أسطورة من أساطير هوليوود .. ولن تستطيع هوليوود أن تتعامل معه بعد عقد أو عقدين إلا على هذا الأساس !
مارتن لانداو في أفضل أداءاته .. إذا لم يكن هذا هو بيلا لاغوسي نجم الثلاثينيات .. فيبدو أننا عرفنا شخصاً آخر .. أن تقوم بتقديم شخص لم يعرف عنه إلا أنه ( ينام في تابوت !! ) و ( يقتات في حياته الطبيعية على دماء زواره !! ) .. بتلك الصورة العجوزة .. البائسة .. الضعيفة .. المدمنة .. وبتلك الشفافية العالية لدرجة تشعرنا بهامشيته تماماً ( رغم أنه النجم الذي تعتمد عليه أفلام إد وود ) فأنت بلا شك تستحق كل إطراءاتك النقدية .. وتستحق فعلاً كم الجوائز الذي إلتهمته .. حتى لم تبق شيئاً لغيرك !
الطاقم الثانوي كان رائعاً من بيل ميري إلى باتريشا أركيت مروراً بجيفري جونز وسارة جيسيكا باركر وصولاً إلى جيم مايرز ( الذي عمل ثلاثة أسابيع على إجادة اللهجة السويدية لتور جونسون .. وإضطر طوال العمل لإرتداء أحذية معدنية لإتقان المشية المتثاقلة للمصارع السويدي !! )
رشح الفيلم في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي الدولي لنيل السعفة الذهبية عام 1995 ( أمام فيلم آخر لديب Dead Man ! ) .. وكان أحد الكبار في موسم الجوائز في هوليوود عام 1994 .. لكن الأكاديمية خذلته فإكتفى بحصد أوسكاري الممثل المساعد والماكياج .. وخسر ترشيحاً غريباً لأوسكار أفضل فيلم أمام رائعة مايك نيويل البريطانية ( أربع زيجات وجنازة ) الذي لم يرشح سوى لجائزة وحيدة هي أفضل سيناريو أصلي !!! .
ربما لم يكن إد وود هو الأسوأ .. لكن إصراره على الفشل هو من جعله كذلك .. كان يفترض أن ينسى العالم أفلامه .. كما حدث مع Glen or Glenda? الذي لم يشاهده إلا قلة من البشر طوال خمسين عاماً .. لكن شعبيته تزايدت بعد وفاته , وصارت أعماله أرضية خصبة للباحث السينمائي .. كمثال فريد على الرغبة وغياب الموهبة .. وصارت ثلاثيته الأهم : Jail Bait , Bride of the Monster , Plan 9 from Outer Space محط إهتمام الكثير من عشاق الفن السابع .. ورغم أن وود ظل يبحث طوال عقدين من الزمان عن أفلام تخلده , إلا أن خلوده تأخر كثيراً , وبعد قرابة عشرين شهراً على وفاته أعيد إكتشافه من جديد .. عندما تدافع أكثر من 2000 شخص لحضور عرض خاص لفيلمه Plan 9 from Outer Space .. وتم تكريمه في عام 1980 بلقب ( أسوأ مخرج في تاريخ السينما ) !!
كان سيتمنى إد وود كثيراً لو كان إد وود أحد أفلامه !!
نشرت هذه المراجعة في منتديات سينماك في 18 فبراير 2005
بطولة : جوني ديب , مارتن لانداو , سارة جيسيكا باركر , باتريشا أركيت , بيل ميري .
إخراج : تيم بيرتن .
" Two Big Thumbs Up ! " الناقدان الكبيران جين سيسكل و روجر إيبرت .
(( إنه لمن السخرية أن ينال المخرج الذي قدم مجموعة من أسوأ الأفلام على الإطلاق عن حياته واحداً من أعظم أفلام السير الذاتية على الإطلاق ! )) الناقد جيرمي هيلمان .
في فيلمهما الأجمل يقدم الثنائي الرائع تيم بيرتن و جوني ديب واحداً من أرق أفلام السيرة الذاتية , وأكثرها شفافية .. مستكشفين معاً الجوانب الخفية في حياة إدوارد دي وود جونيور الذي باتت المراجع السينمائية تعرفه - تحت بندٍ يكاد يشكل إجماعاً اليوم - كـ( أسوأ مخرج في تاريخ هوليوود ) !
يحكي الفيلم سيرة إدوارد دي وود جونيور المخرج الشاب المفتون بحب الفن السابع .. الطامح يوماً ليذكر إسمه إلى جوار أورسون ويلز الذي كان في الخامسة والعشرين من عمره عندما كتب وأنتج وأخرج وقام ببطولة فيلم زلزل كيان هوليوود ونسف كل قواعدها وأساليبها القديمة ( المواطن كين ) .. يتتبع الفيلم ( من خلال نص سكوت ألكساندر و لاري كارازيفسكي عن كتاب ردولف غراي ) سيرة إد وود الشاب وهو يستكشف مواهبه السينمائية باحثاً عن العظمة .. متنقلاً من سقطة إلى أخرى .. من فشل إلى آخر .. محيطاً نفسه بمجموعة من منبوذي هوليوود : عجوز مدمن .. وشاذ يبحث عن التحول .. ومصارع سويدي ضخم .. هذا الطاقم الذي يبدو فريداً من نوعه .. يشارك وود أحلامه بأن يكون الفيلم المقبل جيداً .. لكنه لا يكون ..
وود يرى أن خطوط التشابه بينه و بين ويلز كثيرة : الشباب , الشغف بالسينما , الرغبة و العزم على ترك أثر بعده لا ينسى .. كما أن كلاهما يكتب وينتج ويخرج الأفلام التي يقوم ببطولتها .. لكنه عاجز عن فهم السر الذي يجعله بعيداً عن كل ذلك الثناء الذي يلقاه ويلز .. فهو يفني وقته في إلتقاط الأفكار .. البحث عن الممثلين .. إيجاد التمويل .. سهر الليالي من أجل إنجاز نص أو إكمال مشهد .. لنغوص معه باحثين عن ذلك السر الذي باح به له يوماً أورسون ويلز نفسه ( وفي مشهد رائع ) .. في الوقت الذي كان فشل أفلام وود يتوالى واحداً تلو الآخر ..
يفتتح الفيلم عام 1953 في عصر الرفاهية الأمريكية بعد بضع سنوات على النصر المحقق في الحرب العالمية الثانية .. حيث الأجواء مهيأة لتقديم كل ما قد يساهم في نسيان مآسي الحرب .. نلقي نظرة على وود المهووس بصناعة فيلمه الفعلي الأول ( سأغير جنسي ) والذي سيتناول فيه بشكل خفي جزءاً من حياته الشخصية ( رغم أنه كان إنساناً سوياً ) .. عشوائية إد وود تبدأ من هذا المشروع الذي إنتهى أخيراً ( بعدما تغير فيه كل شيء تقريباً !! ) إلى فيلم Glen or Glenda? .. قبل أن يلتقي العجوز بيلا لاغوسي ( صاحب شخصية دراكيولا الشهيرة مطلع الثلاثينيات ) .. ليصير نجم أعماله المقبلة الفاشلة مراراً وتكراراً .. و بعد تصويره بضع مشاهد في مشروع وود عام 1956 ( Plan 9 from Outer Space ) يموت لاغوسي , لكن وود لا يتوقف .. ويضطر هنا إلى اللجوء إلى ممثل بديل يكمل الفيلم وهو يغطي نصف وجهه .. ليضيف فيلماً آخراً إلى أسوأ مسيرة سينمائية نالها مخرج على الإطلاق ..
هنا فيلم سيرة ذاتية ليس ككل أفلام السيرة الذاتية .. التفرد هنا يكاد يصل مثاله الأكمل .. والتفرد هنا يعني المعنى بحذافيره .. نصاً وأداءاً وإخراجاً .. بيرتن هنا في أفضل حالاته الإخراجية ..يصنع وفق رؤيته الخاصة ( التي يكتنفها الجمال حتى وهي في أسوأ حالاتها ) فيلم سيرة ذاتية يعتبره هو نفسه ( مشروع العمر ) ..
من النادر أن تشاهد فيلم ( سيرة ذاتية ) يغوص في إنسانية الشخصية وروحه كما يفعل هذا الفيلم ( وربما لم يحدث منذ ثور سكورسيزي الهائج ) .. نشاهد هنا إنساناً غريب الأطوار .. مولعاً بصناعة السينما ولعه بملابس النساء .. مخلصاً إلى أقصى درجات الإخلاص لصناعة فن سينمائي راقٍ دون أن يتمكن من ذلك فعلاً .. هو يبدو هنا كأولئك الأشخاص المهووسين بكرة القدم لكنهم لا يجيدون اللعب .. هو فنان شديد الحساسية لكنه في فنه كتلة من الأخطاء المتراكمة تمشي على قدمين .. وهو قبل ذلك كله إنسان أولاً وأخيراً .. إد وود وفق رؤية تيم بيرتن إنسان قريب منا .. مرح .. بشوش .. طموح .. لا نجد ذلك التعقيد في تقديم سيرته .. لأنه كان أكثر بساطة من أن نتناوله بتعقيد .. لا نجد حاجزاً في إستكشاف شخصيته .. لأنه أبسط بكثير من مخرجي زمانه .. بيرتن هنا يصنع سيرة ذاتية لا يستكشف فيها الجوانب الإنسانية في حياة مخرج .. بل يستكشف الجوانب الإخراجية في حياة إنسان .. إنسان جداً .. يعاني أخطاء الوالدين .. وتعدد العلاقات الغرامية ( تصوروا أنه إلتقط زوجته من غرفة الإنتظار في أحد المستشفيات ! ) .. يعاني مشاكل كل من يحيط بهم .. مستمع جيد .. متفهم جيد .. ظل مع عجوز مدمن مثل بيلا لاغوسي حتى لحظات حياته الأخيرة .. رغم أنهما لم يجتمعا إلا بفشل متشبث بكليهما !.. كان إنساناً راقياً جداً .. لكن فنه لم يكن كذلك !
بيرتن بفيلم أنيق ( بالأبيض والأسود ) يقدم ذلك كله في سيناريو شديد السرعة .. شديد المتعة .. يجعلنا نلهث راكضين وراء سقطات وود .. وورطاته الغبية .. حتى يجعلنا نكاد نصرخ ( كفى أيها الغبي .. لا تفعل ذلك ! ) .. لكننا نعجز عن ذلك .. يفتتح فيلمه هذا بمحاكاة لأسلوب أفتتاحيات وود نفسه ( خصوصاً في أفلام الرعب الفاشلة التي قام ببطولتها نجمه الأثير بيلا لاغوسي ) .. أسماء الأبطال على شواهد القبور .. الأخطبوط .. الفضاء الخارجي .. وحيث كريزويل يروي الفيلم من تابوته كما كان يفعل في أفلام وود .. وكأنما يستعد لينطلق معنا لنطارد وود من إستوديو إلى آخر .. من فيلم فاشل إلى آخر أكثر فشلاً .. من منتج للأفلام الرخيصة إلى قس في أبرشية .. مروراً بحفلات التبرعات الخائبة غالباً .. وصولاً إلى متعهدي اللحوم .. مقدماً التنازل تلو الآخر : تغيير عناوين أفلامه .. تغيير النص .. تغيير الأبطال .. وتغيير الفيلم كله أحياناً .. بل أن الأمر وصل به ليعمد مع كامل طاقمه في إحدى الكنائس ليضمن تمويلها لفيلمه !.. لينتهي به الأمر كما يحدث على الدوام .. مطروداً من العرض الإفتتاحي !
و بيرتن رغم تعرضه لعشوائية إخراج وود لكنه لا يظهره بمظهر المضطهد .. إد وود في الواقع كان مهووساً بكل مشهد صوره ( حتى ولو كان معدلاً من قبل الغير ) .. كان يعشق كل فكرة إخراجية ينفذها .. كل حركة كاميرا .. وكل قطعة مؤثرات .. كان متحمساً لكل إقتراح يقدمه أفراد طاقمه .. دون أن يدرك خطورة ما يفعل !
وربما كان أسهل على بيرتن في تناوله لإد وود تقديمه بصورة تميل إلى السخرية , فهو ببساطة ( أسوأ مخرج في تاريخ هوليوود ) .. لكن بيرتن لا يفعل .. هو يركز هنا على ذلك الإحساس وتلك العواطف وذلك الحب الذي يملأ كيان وود تجاه الفن السابع .. و إصراره الدائم على ( إساءة التعبير ) عن ذلك الحب .. ليلتصق بفشل دائم .. لا يدري له سبباً ..
لعل من أجمل الجوانب التي ركز عليها بيرتن في فيلمه هو الجانب الإنساني الرائع بين إد وود والعجوز بيلا لاغوسي الذي يعاني نجومية أفلت وإدماناً على المخدرات .. والذي ما من سبب أو حافز يدفع وود إلى إستخدامه في أفلامه سوى كونه أحد ممثليه المفضلين في طفولته .. وما من سبب يدفع لاغوسي للعمل معه سوى حبه له ولحماسه وطاقته .. رغم أنه هبط بمسيرته ( كواحد من أعظم ممثلي أفلام الرعب ) إلى الحضيض .. لكن العلاقة بينهما كان تتجاوز صناعة السينما إلى نوع من الإنسجام الروحي .. يغلفه إعجاب ظاهري ببعضهما البعض .. دفع وود للبقاء مع صديقه العجوز في محنته .. وظل وفياً له حتى لحظاته الأخيرة ..
ورغم إصرار بيرتن على نقل الحقيقة وإستكشاف مراحل حياة إد وود .. وهي نظرياً حياة بائسة له ولفريق عمله كما يبدو ( فشل تلو آخر ) .. لكننا لا نجد خطاً تراجيدياً واضحاً في الفيلم بل بالعكس نجد أنفسنا منخرطين في شلال من الكوميديا – الخفية ربما – تصنعها في الواقع تلك العشوائية التي يعيشها وود في حياته .. وذلك التخبط الذي يجعله يسيء إلتقاط الأفكار .. ويسيء التعبير عنها في النص .. ويسيء تنفيذها بعد ذلك .. لدى إد وود :كل يوم يقف فيه خلف الكاميرا هو يوم عيد .. لكن هذا العيد دوماً ما كان ينتهي بكابوس فشل .. هذه الكوميديا الخفية التي يملأ بها بيرتن نواحي فيلمه ( والتي هي ناجمة ربما عن كوننا نعرف مصير وود أساساً و مصير أفلامه وماذا سيعتبره نقاد السينما بعد ذلك ) تجعلنا نشعر بعد زوالها بالمرارة .. و من الصعب بعد كل ذلك ألا تحب وود .. وتتعاطف مع كفاحه العسير في سبيل المجد .. ومن الصعب أن تتعامل مع الفيلم بعد ذلك إلا على أنه ( قصة كفاح ) .. رغم كونك تضحك أحياناً أثناء مشاهدته !
بيرتن كذلك لا يتعمد تلقيننا أسباب فشله , بل هو يزرع هذه الأسباب بذكاء في فيلمه .. تاركاً للمشاهد فرصة إلتقاطها .. فإد وود لم يكن أكثر نجاحاً قبل لقاءه ببيلا لاغوسي .. ولم يكن أكثر فشلاً بعد لقاءه بتور جونسون .. وهما وحدهما لم يكونا سبباً في فشل إد وود .. لم تكن كذلك علاقاته الغرامية وحدها هي السبب ( إنظر مثلاً كيف تخلص من دولوريس ثم كيف تعرف على كاثي ) .. لم يكن التمويل وحده هو السبب .. كل ما سبق ساهم بشكل كبير في أن يضيف أخطاءاً إلى تراكم الأخطاء التي يصنعها وود نفسه .. ركز على طبيعة الأفكار التي يلتقطها لأفلامه .. ومن أين يلتقطها .. ركز على عناوين أفلامه وعلاقة هذه العناوين أصلاً بمحتوى فيلمه .. تأمل طبيعة حواراته .. و أداء ممثليه .. ركز على عدد المشاهد التي يقوم بتصويرها في الليلة الواحدة .. ركز على المشاهد التي يضيفها لفيلمه من أفلام توثيقية أو حتى من الأخبار المصورة ! .. شاهد السهولة والمرونة الكبيرتين في تغيير أي شيء في فيلمه .. رضوخه السهل لأي إقتراحات إنتاجية .. شاهد أساليبه المختلفة في الحصول على تمويل ( يجمع التبرعات أحياناً وقد ينحني بسهولة أما فامبيرا في سبيل ذلك , يعقد إتفاقاً غبياً مع إمرأة يراها في حانة على تمويل فيلمه مقابل أن تقوم ببطولته , يرضخ لإقتراحات رجال الأبرشية حول فيلم سيمولونه حتى لو وصلت هذه الإقتراحات لتغيير الفيلم كله أو لتعميد طاقمه في أبرشيتهم بل أنه يعدهم بسلسلة من الأعمال الدينية إذا أرادوا ! , ويحصل على تمويل متعهد للحوم في أحد أفلامه مقابل أن يقوم إبنه بدور البطولة ! بل أنه يضطر للسرقة في إحدى المرات كي لا يتوقف تمويل فيلمه !! ) .. شاهد عميلة تصويره لأفلامه وإصراره على التغاضي عن الأخطاء إمعاناً في الواقعية !!!.. لاحظ طريقة تنفيذه لمؤثراته الخاصة ( الفضاء الخارجي – صحون مطبخ تعمل كصحون طائرة ! - أو الأخطبوط .. ولاحظ أساساً أين تم تنفيذ مشهد الأخطبوط !! ) .. كل هذه التفاصيل الصغيرة التي نثرها بيرتن هنا وهناك منحتنا صورة متكاملة عن سيرة حياة هذا الرجل .. ورغم أن بيرتن يختصر قرابة ستة أعوام ( هي الأهم في حياة وود ) في ساعتين .. لكنه يصنعها بحيوية مفرطة .. تجعله تلك التفاصيل المتناثرة من أفلام وود نفسه في جوانب هذا الفيلم ممتعاً إلى درجة كبيرة .. ممتلئاً إلى درجة الإشباع ..
ورغم أن الفيلم كلف أكثر من أفلام إد وود مجتمعة إلا أن بيرتن لا يريد في فيلمه هذا صناعة فيلم سيرة ذاتية كبير في تنفيذه .. ولو شاء لفعل , فهو ملك الفانتازيا وأحد سادة التأثير البصري ..لكنه يقدم هنا شخصية يفترض ألا يذكرها التاريخ بخير .. أنت هنا لا تحاول تمجيد لورانس العرب أو المهاتما غاندي أو مالكوم إكس .. أنت هنا تصنع فيلما شديد البساطة في بهرجته ( حاله حال بساطة أفلام إد وود نفسه ) .. لكنه عميق في نفاذه .. ساحر في تأثيره .. سريع في وصوله ..
تيم بيرتن ورغم إعجابه بروح المخرج لدى إد وود لكنه لا يتبع في عمله هنا مقولة إد وود الشهيرة ( ليست التفاصيل الصغيرة هي ما سيهتم به الناس .. إنها الصورة الكاملة ! ) .. فأدوات تيم بيرتن التقنية مازالت كما هي في القمة .. بدءاً بتصوير ستيفان تشابسكي الساحر والذي يستلهم فيه أساليب أفلام وود الأخيرة مقدماً عملاً مذهلاً بالأبيض والأسود ( نال عنه جوائز عديدة لكننا لم نشاهده بعد ذلك في حفل الأكاديمية ! ) .. هوارد شور ينجح في التحدي الذي وضعه فيه تيم بيرتن فهو العمل الوحيد الذي لم يوكله إلى رفيق دربه الموسيقي داني إلفمان .. يقدم مقاطع جميلةً للغاية جذابةً منذ لحظات الفيلم الإفتتاحية .. مونتاج كريس ليبنزون ( المونتير الأثير لتيم بيرتن ) يقدم تنفيذاً حيوياً جداً لأجزاء العمل يجعلنا نلهث ونحن نطارد وود من مكان لآخر .. وهو ما قضى على أي رتابة تكتسبها أعمال السير الذاتية عن أولئك الأشخاص الذين لا نعرف عنهم شيئاً .. مستخدماً أسلوب أفلام إد وود أيضاً وبتقنياتها أيضاً ( تقنية الـ Cover أو التغطية : من اليمين إلى اليسار أو من الأعلى إلى الأسفل وبالعكس ) .. بل أن إهتمام بيرتن بالتفاصيل الدقيقة وصل ذروته في مشهد أورسون ويلز الذي تم تنفيذ حواره بالكامل على الكمبيوتر وبصوت أورسون ويلز نفسه ( رغم أنه حوار مصطنع ! ) ..
لكن التحدي الحقيقي كان يقف أمام الماكيير الأسطوري ريك باركر ( الحائز على ست جوائز أوسكار وصاحب الأعمال الماكياجية المذهلة في The Exorcist , Star Wars , An American Werewolf in London , ولاحقاً في The Nutty Professor , Men in Black , Dr. Seuss's How the Grinch Stole Christmas , Planet of the Apes , وأخيراً Hellboy !! ) يقدم تنفيذاً شديد الدقة عالي الجودة لكل هذه الشخصيات الحقيقية في الفيلم .. بل أن دقته وصلت لدرجة أن الفيلم إعتمد في بعض مشاهده على مشاهد حقيقية من أفلام وود دون أن يقوم بيرتن بإعادة تصويرها بواسطة ممثليه !! ولم أشاهد شخصياً دقةً تنفيذيةً للماكياج في فيلم سيرة ذاتية كتلك التي شاهدتها في عمل بيرتن هذا ..
كل تلك الجهود المبذولة على الصعيد التقني صنعت في الواقع معادلة صعبة : فأقل أفلام بيرتن إشباعاً بصرياً هو بالمقابل الأعلى قيمةً فنيةً .. والأكثر تأثيراً طوال مسيرته ..
جوني ديب في أحد أفضل أداءاته .. ينسل تحت جلد وود و يذيب نفسه فيه .. مبدعاً شخصية الرجل المهووس بحب الفن السابع .. الطموح للمجد .. المتحمس لصناعة فيلم جيد ( حماس إد وود الذي يرسمه جوني ديب هنا قادر على إقناع مارلون براندو ذاته بالعمل معه ! ) .. هذه الرغبة في الشخصية يرسمها ديب بتوازن فريد مع الجانب المأساوي في حياة وود .. دون ذرة من ضعف .. ودون خلل في البنى التحتية للشخصية .. لا تستطيع أن تتوقع مالذي يمكنه أن يفعل ( خصوصاً تحت إدارة صديقه المقرب تيم بيرتن ) .. يصنع بطريقة كلامه المميزة .. وإبتسامته الظريفة ( مع حاجبين مقوسين على غرار جاك نيكلسون ! ) .. وجاذبيته الطاغية أداءاً شديد التمكن .. متنقلاً بسهولة ويسر من ذروة الحماس إلى ذروة اليأس .. مروراً بمنعطفات نفسية كثيرة تجاوزها كسائق محترف .. ومن الصعب أن تتجاهل تلك الجدية وهو يقارن نفسه بأورسون ويلز .. أو تلك الملامح التي إرتسمت على وجهه عندما شاهد أورسون ويلز أمامه في الحانة .. أو تلك السعادة وهو يشرح طبيعة فيلمه للمنتج .. أو ذلك الأسى وهو يعاني مشاكل لاغوسي .. أداء كان يستحق فعلاً تنويهاً من الأكاديمية .. لكنك تدرك صعوبة الأمر إذا علمت أن الفيلم ذاته تجوهل أوسكارياً , وأن حامل الغولدن غلوب ( هيو غرانت عن أربع زيجات وجنازة ) ومرشح جوائز النقابة SAG ( تيم روبنز عن إصلاحية الشاوشانك ) عجزا عن الوصول أيضاً .. هذا الأداء الذي قدمه جوني ديب قبل عشرة أعوام جعلني ( بعد مشاهدتي لعشرين فيلماً من أصل 26 هي مجموع مسيرته ) أخلص إلى شيء واحد : هذا الرجل هو مشروع أسطورة من أساطير هوليوود .. ولن تستطيع هوليوود أن تتعامل معه بعد عقد أو عقدين إلا على هذا الأساس !
مارتن لانداو في أفضل أداءاته .. إذا لم يكن هذا هو بيلا لاغوسي نجم الثلاثينيات .. فيبدو أننا عرفنا شخصاً آخر .. أن تقوم بتقديم شخص لم يعرف عنه إلا أنه ( ينام في تابوت !! ) و ( يقتات في حياته الطبيعية على دماء زواره !! ) .. بتلك الصورة العجوزة .. البائسة .. الضعيفة .. المدمنة .. وبتلك الشفافية العالية لدرجة تشعرنا بهامشيته تماماً ( رغم أنه النجم الذي تعتمد عليه أفلام إد وود ) فأنت بلا شك تستحق كل إطراءاتك النقدية .. وتستحق فعلاً كم الجوائز الذي إلتهمته .. حتى لم تبق شيئاً لغيرك !
الطاقم الثانوي كان رائعاً من بيل ميري إلى باتريشا أركيت مروراً بجيفري جونز وسارة جيسيكا باركر وصولاً إلى جيم مايرز ( الذي عمل ثلاثة أسابيع على إجادة اللهجة السويدية لتور جونسون .. وإضطر طوال العمل لإرتداء أحذية معدنية لإتقان المشية المتثاقلة للمصارع السويدي !! )
رشح الفيلم في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي الدولي لنيل السعفة الذهبية عام 1995 ( أمام فيلم آخر لديب Dead Man ! ) .. وكان أحد الكبار في موسم الجوائز في هوليوود عام 1994 .. لكن الأكاديمية خذلته فإكتفى بحصد أوسكاري الممثل المساعد والماكياج .. وخسر ترشيحاً غريباً لأوسكار أفضل فيلم أمام رائعة مايك نيويل البريطانية ( أربع زيجات وجنازة ) الذي لم يرشح سوى لجائزة وحيدة هي أفضل سيناريو أصلي !!! .
ربما لم يكن إد وود هو الأسوأ .. لكن إصراره على الفشل هو من جعله كذلك .. كان يفترض أن ينسى العالم أفلامه .. كما حدث مع Glen or Glenda? الذي لم يشاهده إلا قلة من البشر طوال خمسين عاماً .. لكن شعبيته تزايدت بعد وفاته , وصارت أعماله أرضية خصبة للباحث السينمائي .. كمثال فريد على الرغبة وغياب الموهبة .. وصارت ثلاثيته الأهم : Jail Bait , Bride of the Monster , Plan 9 from Outer Space محط إهتمام الكثير من عشاق الفن السابع .. ورغم أن وود ظل يبحث طوال عقدين من الزمان عن أفلام تخلده , إلا أن خلوده تأخر كثيراً , وبعد قرابة عشرين شهراً على وفاته أعيد إكتشافه من جديد .. عندما تدافع أكثر من 2000 شخص لحضور عرض خاص لفيلمه Plan 9 from Outer Space .. وتم تكريمه في عام 1980 بلقب ( أسوأ مخرج في تاريخ السينما ) !!
كان سيتمنى إد وود كثيراً لو كان إد وود أحد أفلامه !!
نشرت هذه المراجعة في منتديات سينماك في 18 فبراير 2005
0 تعليقات:
إرسال تعليق