كتب : عماد العذري
بأصوات : إد آزنر , جوردان ناغاي , كريستوفر
بلامر
إخراج : بيت دوكتر , بوب بيترسن (2009)
الفيلم السينمائي العاشر
لميداس الأفلام الرسومية بيكسار , و أول فيلم رسومي على الإطلاق يفتتح مهرجان كان السينمائي
الدولي , يأتي من إثنين من أعمدة الشركة المهمين بيت دوكتر و بوب بيترسن , في
سابع تجربة إخراج مشتركة في مسيرة الشركة الممتدة لخمسة عشر عاماً , يتتبعان فيه قصةً
عاطفية مؤثرة عن كارل فريدريكسن بائع البالونات العجوز الذي يقرر ذات يوم تحقيق
حلمه القديم بالذهاب إلى شلالات باراديس في أميركا الجنوبية , لكن بطريقةٍ غير تقليدية بالمرة
: ربط آلاف البالونات بمنزله الذي يحلق عالياً بالرجل نحو الحلم الذي رافقه و رافق
شريكة عمره (إلي) على مدى سبعين عاماً
.
في السماء يكتشف كارل فريدريكسن
بأنه ليس وحده في هذه الرحلة الغريبة , فتى الكشافة راسل الذي يصغره بسبعين عاماً موجود
في المنزل أيضاً , و راغبٌ أكثر من أي وقتٍ مضى في الحصول على الشارة التي تنقصه ليصبح
كشافاً : شارة مساعدة كبار السن ! , رفقة لم تكن منتظرة أو متوقعة , لكنه يقبلها على
مضض , كارل فريدريكسن يصل إلى المكان الذي لطالما حلم به , لكن الأمور
هناك لا تسير على ما يرام , عندما تقابله الكثير من المتاعب : طائرٍ شديد الندرة يلتقيه
رفيقا الرحلة و يطلقان عليه إسم كيفن (علماً بأننا نكتشف لاحقاً بأنها أنثى !) , و مجموعةً من الكلاب
الناطقة (بمساعدة أجهزة خاصة موضوعةٍ مقابل أحبالها الصوتية) يقف وراءها آخر شخصٍ توقع
كارل فريدريكسن رؤيته هناك : مثله الأعلى في الطفولة , المستكشف
تشارلز مونتيز !.
الفيلم كتبه بيت دوكتر (الذي
سبق له و أخرج فيلم بيكسار Monsters, Inc. و شارك في كتابة WALL.E)
و بوب بيترسن (الذي شارك في كتابة Finding Nemo) و توم مكارثي , و
أخرجه بيت دوكتر و بوب بيترسن في مشاركةٍ إعتدناها من الشركة التي حولت كل ما تلمسه
إلى ذهب خلال الأعوام الخمسة عشر الماضية , بيكسار في فيلمها السينمائي
الطويل العاشر - و الذي كلفها 175 مليون دولار - تثبت مرةً تلو أخرى علو كعبها في ميدانها
, و تفوقها الواضح على منافستيها الرئيسيتين في هذا المجال : DreamWorks و Fox
من خلال نقطة غاية في الجوهرية : لطالما عودتنا Fox
و DreamWorks
على التعامل مع أفلامها على كونها (منتجات) , منتجات بالمعنى
الحرفي للكلمة , لذلك لا عجب أن نجد أكثر الأفلام الرسومية إيراداً على الإطلاق في
شباك التذاكر العالمي يأتي من الأولى , و أكثرها في تاريخ شباك التذاكر الأمريكي يأتي
من الثانية , بيكسار على خلافهما تتعامل مع أعمالها السينمائية كفن , كفنٍ حقيقي
متكامل الأركان , فيه الحبكة العظيمة , و البناء المتقن , و الأصوات المثالية (حتى
و إن خلت من أسماء نجوم الصف الأول) , و العمق الحقيقي , و الترفيه , أمورٌ يجعلها
إجتماعها تحقق ما تصبو إليه في شباك التذاكر أيضاً .
الفيلم يفتتح بواحدة من
أفضل المقدمات البيكسارية , و لو شئتم الدقة , بثاني أفضل إفتتاحية بيكسارية برأيي
بعد الإفتتاحية التي أعشقها لفيلم The Incredibles ، نتتبع فيها من خلال شريطٍ
سينمائي رحلة و أمجاد المستكشف الشهير تشارلز مونتيز , و مغامراته في أميركا الجنوبية , و المستحاثات التي عاد
بها من هناك لمخلوقات ما قبل التاريخ , قبل أن يواجه بالرفض من قبل المجتمع بسبب الكشف
عن زيف إكتشافه الجديد بخصوص طيرٍ غايةٍ في الندرة إدعى حصوله على هيكله العظمي , نتابع
هذه الإفتتاحية من عيني كارل فريدريكسن الطفل , المبهور بمثله الأعلى في دنيا الإستكشاف
تشارلز مونتيز , و في هذا العالم الخاص بالطفل يجد كارل من يشاركه
ذات الإهتمامات , فتاة تدعى إلي (تؤديها ببراعة إلي دوكتر إبنة بيت الصغرى) , و من خلال علاقة كارل و إلي يقدم بيت دوكتر و بوب بيترسن ما
أعتبره بحق أفضل مشهد في مسيرة بيكسار على الإطلاق , شريط مونتاجي صامت يستمر لمدة
أربع دقائق و نصف يسرد من خلاله الرجلان رحلة كارل مع إلي منذ الطفولة
و حتى وفاة إلي , مروراً بالحب , و الزواج , و صدمة عدم قدرتهما على الإنجاب
, و حلم الذهاب إلى شلالات باراديس الذي يفشل بسبب ظروفهما الحياتية , هذا واحد من أفضل المشاهد
الصامتة في تاريخ السينما , لم أشاهد منذ زمنٍ - لا أتذكره - قصة حياةٍ كاملة تسرد
بمثل هذا الجمال , بمثل هذه الشاعرية , بمثل هذه العبقرية , هذا المشهد أكثر شاعريةً
من أكثر المشاهد شاعريةً في حقبة السينما الصامتة , و كأنما بُعث شارلي شابلن من
قبره ليصنع مقطوعته الرسومية الوحيدة , في أفضل مشهدٍ على الإطلاق - نعم - في مسيرة
بيكسار .
عقب هذا المشهد يبدأ دوكتر و بيترسن التمهيد
للمغامرة من خلال سردٍ تقليدي للحياة التي يعيشها كارل فريدريكسن بعد سبعين
عاماً للقاءنا الأول به مطلع الفيلم , روتين يملأ حياة العجوز , منزله أصبح ضمن منطقةٍ
عمرانيةٍ مكتظة لا تناسبه إطلاقاً , و مستثمرٌ جشع يطارده على أمل الإستيلاء على هذا
المنزل , تماماً كما يضايقه الفتى راسل من أجل إكمال مجموعة الشارات التي يمتلكها , ملامح راسل الآسيوية
و فارق العمر الكبير بين الطرفين و الطريقة التي يحاول بها كارل التخلص من راسل من خلال البحث
عن الحيوانات المؤذية في الحديقة تقفز بصورة والت كوالسكي و الفتى
الآسيوي في فيلم كلينت إيستوود الأخير Gran Torino البال مباشرةً , و هي صورةٌ لا يمكن مراوغتها أبداً عندما نجد كارل المتذمر يعيش
الظروف ذاتها التي عاشها والت , و رحيل شريكة العمر لرجلٍ سبعيني يبقي هذه الصورة مثبتةً
بوضوح أمام المشاهد , لكن مع فارقٍ جوهري : خيال كارل فريدريكسن أكثر خصوبة
, و طموحاته أكبر مما يبدو , و حياته لن تتوقف هنا
.
في هذه المرحلة يعمد النص
إلى خلق المبررات المطلوبة لجعل قصة التحليق بالمنزل (التي يعرفها الجميع قبل مشاهدتهم
للفيلم) منطقية , فيرسم الولع الشديد للرجل بزوجته و بالأيام السعيدة التي قضاها معها
, و بالأحلام الوردية التي تشاركاها , و بالتفاصيل الصغيرة التي جمعتهما معاً , خصوصاً
عندما نراه ما يزال محتفظاً بغطاء زجاجة الصودا الذي كان يمثل شعاراً لنادي المستكشفين
في طفولتهما , لا بل أننا نشاهد إصراره الشديد على الحفاظ على كل شيءٍ في المنزل بالطريقة
ذاتها التي كان عليها عندما تركته إلي , وترٌ رومانسيٌ يوازي بقوة ذلك الذي عزفت عليه
بيكسار في تحفتها الماضية WALL.E و محاولة خلق المشترك بين بطلي
الفيلمين ليس أمراً يصعب على المشاهد : كلاهما وحيدان , كلاهما قليل الكلام , و كلاهما
يخوضان رحلةً غير متوقعة بدافع إلتزامٍ تجاه المحبوب , و لا أستطيع هنا أن أتجاهل فكرة
أن كلاهما مضلّعان أيضاً ! , نعم أتحدث عن الشكل , لم أستطع تجاوز المقارنة الواضحة
التي يتعمد ربما دوكتر و بيترسن خلقها للمشاهد بين تضلّع كارل فريدريكسن و إستدارة
راسل , ربما لخلق نوعٍ من التناقض بينهما , و لا أدري هل يمكنني
أن أراوغ أيضاً الشبه العجيب بين كارل فريدريكسن العجوز و الأسطورة سبنسر تريسي في أفلامه
الأخيرة , و من يتذكره في Guess Who's Coming
to Dinner سيعرف ما أقصده , المهم أن دوكتر و بيترسن و مكارثي يمسكان جيداً بوتر العجوز الوحيد و يلعبان عليه بذكاء لخلق
المبرر المنطقي لتحليق الرجل بمنزله , ثم يعززانه بالمضايقات التي يتعرض لها من قبل
المستثمر , قبل أن يكملا ذلك بالحكم الذي يصدر على الرجل من قبل المحكمة بعدما تسبب
خطأً في أذية رجلٍ تسبب في تدمير صندوق بريده , هنا نشعر بضجر فريدريكسن من واقعه
الجديد , و هنا يشعر هو بأن وقت المغامرة الأخيرة قد حان , و لن يختلف الأمر كثيراً
على رجلٍ في العقد الثامن من عمره يعيش وحيداً بعدما تركته صديقة الطفولة و شريكة الحياة .
في هذا الفيلم تصل بيكسار للذروة
بسرعة , ربما بسبب مدة عرضه التي لا تتجاوز الساعة و النصف , يحاول كتاب النص تجنب
الفائض , و بناء مغامرةٍ و لحظات ذروةٍ مبكرة , و نشعر مع إنطلاق كارل بمنزله بأن
هذه المغامرة قد بدأت , لكن و على خلاف ما يوحي به إسم الفيلم أو عرضه الدعائي أو حتى
بوستره , فالمغامرة لا تكون هناك , في الأعلى , بل هي تبدأ بالفعل بعد وصول الرفيقين
إلى أميركا الجنوبية , و مرحلة التحليق بحد ذاتها لا تتجاوز الدقائق العشر , و بإنتهاءها
يدخل الفيلم في منعطفه الصعب : الإرتقاء بالمغامرة إلى مستوى النصف ساعة الأولى من
الفيلم , و لا أعتقد شخصياً بأنه تمكن من ذلك
.
في هذه المغامرة تحاول
بيكسار – أكثر من أي وقتٍ مضى – أن تكون أصيلةً جداً في نصها ,
و في الوقت ذاته مغامرةً جداً أيضاً , و التوفيق بين الجزئيتين لا يكون سهلاً على صناعٍ
أفلامٍ لطالما تعاملوا مع حبكاتٍ ذات مذاقٍ عالمي ونبرةٍ أزليةٍ تجعلها لا تشيخ , بالرغم
من عالمية المضمون الذي تلامسه , بيكسار تنهج هذه المرة نهجاً غرائبياً في ترويض ذلك المضمون و هو
أمرٌ لم نعتده منها , تصر هنا على إقحام بعض عناصر المغامرة بطريقةٍ لا تجد لها معنى
عند إرتدادك للخلف لرؤية الصورة بشكلٍ أوسع , لطالما بدى هوس القائمين على بيكسار بالخيال
الخصب لهاياو ميازاكي كامناً وراء بعض التفاصيل في أفلامها , و هي التي
يديرها رجلٌ مهووس حتى الثمالة بسينما ميازاكي يدعى جون لاسيتر , في هذا الفيلم بالذات تقدم بيكسار أكبر تحيةٍ
وجهتها لميازاكي طوال الأعوام الخمسة عشر الماضية , و إنكار حجم التأثر
الواضح لبيت دوكتر و بوب بيترسن بسينما الرجل و هم يبتدعون شخصياتٍ مثل الطائر كيفن أو
الكلاب الناطقة , أو يقدمون منزلاً طائراً ثم متحركاً يشده رجل
عجوز في الأسفل هو إنكار غير موفق , أولئك الذين يعشقون سينما ميازاكي سيجدون
هذا الفيلم أقرب أفلام بيكسار إليه , و أولئك الذين ما يزالون يتذكرون Howl's Moving Castle
سيشاهدون في هذا الفيلم Carl's Flying House !
المشكلة أن هذه الغرائبية
التي ينهجها كتاب النص في صناعة المغامرة لا تبدو موفقةً تماماً , و لا تبدو مغامرةً
محسوبةً تماماً من بيكسار , ليس لسوءها , بل لأنها لا تضيف أي شيء للقيمة الفنية أو
(الرسالة) التي يقدمها العمل كما عودتنا بيكسار , تذكروا
جميعاً مغامرات Bug's Life و Monsters, Inc. و Finding Nemo و WALL.E في جميع هذه القصص كانت المغامرة جزءاً لا يتجزأ من العمق الفني للفيلم
, و رحلة والد نيمو لإيجاد إبنه كانت بحد ذاتها العمق الرئيسي للفيلم , تماماً
كحال القيمة الفنية الرفيعة التي تحملها مغامرة WALL.E لإيجاد محبوبته إيف و إعادة ذكرى الكوكب الأم لسكانه الذين هجروه , العمق بحد ذاته
كان يتجلى في المغامرة , على خلاف ما نراه هنا , فلا الطير كيفن (الذي يقحمه
النص لتوجيه رسالة حبٍ غير مكتملة المعالم) و لا الكلاب المتكلمة , و لا حتى إعادة
ظهور تشارلز مونتيز تعزز العمق الحقيقي للفيلم , على الرغم من محاولة
الفيلم في الكثير من تفاصيله الكلام عن الأثر الذي يتركه بعض الأشخاص في حياتنا على الرغم من عدم وضوحه حين نلتقيهم
أول مرة , الأثر الذي تركه راسل , و كيفن , و دوغ (و جميعها شخصيات نبذها كارل في البداية) , و
الأثر الذي تركه تشارلز مونتيز (و هي شخصيةٌ عشقها كارل لدرجة الهوس) , و
قبل هذا كله الأثر الذي تركته (إلي) وراءها على الرغم من غرابة اللقاء الأول الذي جمعها بكارل , كل هذه
المفاتيح لم تكن مفعلةً في المغامرة رغم حسن النوايا تجاهها , بمعنى آخر : مغامرة الفيلم
لم تؤثر عليه سلباً لكنها منعته بقوة من أن يرتقي لموازاة النصف ساعة العبقرية التي
إنطلق بها , و جعلته في الوقت ذاته أقل أفلام بيكسار كوميدية (أقل حتى
منWALL.E ) على الرغم من كونه باعثاً
على المرح و الإنتعاش , و عاطفياً إلى درجة العاطفة
.
في الختام يقدم دوكتر و بيترسن لبطلهما
فرصةً أخيرة لإدراك المعنى الحقيقي للحياة التي عاشها , رجلٌ يعيش ما تبقى من حياته
على الذكرى , و كأنما يريدون القول بأن الذكرى بحد ذاتها هي حياةٌ كاملة , و عندما
نشهد مع كارل تصفحه لمجلدStuff I'm going to
do الذي قررت أن توثق فيه
زوجته مغامرتهما في شلالات بارادايس , و نرى (في واحدٍ من أفضل مشاهد 2009) كيف وثقت
إلي كل لحظات حياتهما لأنها رأت بأن هذه هي المغامرة الحقيقية في حياتها , هنا تتجلى
رسالة الفيلم ببساطةٍ و وضوح : المغامرة الكبرى ليست في الذهاب إلى شلالات بارادايس
على متن منزلٍ طائر , المغامرة هي في حياتنا ذاتها , يمكنك أن تجدها بسهولةٍ في محيطك
, و إلى جوارك , تعيشها مع من تألف , و تتشاركها مع من تحب , المغامرة هي أن تهب نفسك
و حياتك و روحك لشخصٍ آخر , تحبه , للأبد ، المغامرة هي نحن , و الحياة هي نحن , و
في الختام (إنه مجرد منزل) كما يقول كارل .
بالنتيجة هو تجربةٌ
سينمائيةٌ مختلفة على الرغم من أنها ليست مثالية بنظري , تطرُق من خلالها بيكسار بعداً عاطفياً
جديداً و غير مسبوق في مسيرتها , تقدمه للمرة الأولى بالكامل من خلال شخصياتٍ بشريةٍ
(طبيعية و ليست خارقة)، Up لا يضاهي The Incredibles في مقدمته الرائعة فحسب
, هو مثله تماماً : يليق فعلاً بإسمه !
التقييم من 10 : 9
0 تعليقات:
إرسال تعليق