كتب : عماد العذري
بطولة : جون هيرت , أنتوني هوبكنز
إخراج : ديفيد لينش
الفيلم
الثالث لديفيد لينش يحكي قصة جون ميريك شاب بريطاني في القرن التاسع عشر عاش حياةً فريدةً من
نوعها بسبب الجسد المشوه الذي ولد به و الذي تركه أسيراً للعبودية بفعل جشع الإنسان
الذي إستخدمه وسيلة لعرضه في السيرك , قبل أن يلتقطه الدكتور فريدريك تريفيز
المولع بدراسة الظواهر الطبية الغريبة و ينقله من حياته الخاوية نحو صفوة المجتمع البريطاني
, المجتمع الذي على الرغم من إعترافه به كجنتلمان حقيقي و كإنسان مرهف الحس و الذوق
إلا أنه إستمر في التعامل معه كشخص غريب و كأنما قدر للشاب الذي توفي في السابعة و
العشرين من عمره أن يعيش كل سنوات عمره أسيراً و سجيناً في قوقعة جسمه المشوه .
يستمر
ديفيد لينش في طرق الصورة الكابوسية التي إستلهمها في معظم أفلامه
للأهواء و النزعات البشرية , من خلال تمكنه الدائم إستكشاف كل ماهو مروع و شنيع و باعث
على الأسى و الرثاء في الصور الحياتية اليومية , و هو إن كان حقق إنطلاقته المبشرة
عام 1977 في فيلمه الشهير Eraserhead
إلا أن هذا الفيلم الذي رشح لثمان جوائز أوسكار عام 1980 هو ما جلب
الشهرة الحقيقية لديفيد لينش , الشهرة التي جعلت أفلامه دوماً محط أنظار المترقبين
و المعجبين على مدى أربعة عقودٍ لاحقاً جعلته سيداً لهذه النوعية من الأعمال .
على الرغم
من إقراري بأهمية فيلمٍ كهذا و بالعديد و العديد من النقاط الإيجابية التي إمتلأ بها
سواءً على الصعيد الإخراجي أو على الصعيد الفني و الفكري , إلا أن هذا الفيلم يُفتتح
بصورة سيئة و عديمة المعنى يحاول من خلالها ديفيد لينش أن يضع بصمةً مبكرة له كسبيل
نحو ربط أعماله طوال مسيرته القادمة ببعضها البعض , يستلهم في إفتتاحيته الصور المثيرة
للوليد المسخ في فيلمه السابق من خلال صورة كابوسية شنيعة ( وعديمة المذاق ) لفيلة
تركض و إمرأةٍ تغتصب كمحاولة لخلق مقاربة سوداوية ممهدة للصورة الشنيعة التي سنرى عليها
بطل فيلمنا هذا , و مع تقديري لما قدمه لينش في فيلمه هذا – الذي يبدو أكثر أفلامه
رقةً و حساسية – إلا أنه لا يمت للرقة و الحساسية بأي صلة في المشهد عديم المغزى الذي
يفتتح به فيلمه .
مبكراً
جداً يخبرنا ديفيد لينش بالملامح الواضحة لفيلمه , من خلال الصورة الغرائبية
التي يقودنا بها للقاء بطله , إحتفالات في المدينة مع أجواء هزلية تبدو غير منطقية
و أقرب إلى صورة حلم , عروض مجنونة هنا و هناك , و بين كل هذا نجد عرضاً خاصاً للرجل الفيل ,
شاب يخضع لسيطرة تاجر جشع يعرضه في السوق للمشاهدة مقابل المال , ربما تمهيد يبدو كافياً
حتى و إن كان يتخذ فقط صورة المراقب لما يحدث , نحن لا نقترب من بطلنا إطلاقاً في الفترة
التي كان فيها مجرد عرض في سيرك , نحنا حتى لا نرى وجهه المشوه , لينش و كأنما يحاول
أن يجعله غامضاً بالنسبة لنا كما كان غامضاً للجميع خلال تلك الفترة , و عندما نبدأ
بالتقرب منه و فهم دواخله كان هذا لأنه بدأ بالإندماج في المجتمع البريطاني , نحن نعايش
من خلال هذا العمل ذات الصورة التي رسمت للشاب المشوه في تلك الحقبة الفيكتورية , لا
نعرف عنه أكثر مما عرفه عنه الناس , و لا نقترب لفهمه إلا عندما يتيح هو نفسه الفرصة
لنا بالإقتراب , هذه الصورة التي تراقب و لا تغوص خدمها بشكل واضح – خصوصاً خلال المراحل
المبكرة من الفيلم – تقديم العمل باللونين الأبيض و الأسود و طريقة القطع بين المشاهد
من خلال التلاشي أو الذوبان إضافةً إلى موسيقى تصويرية تكاد تكون معدومةً في الفيلم
, جزئيات توحدت لتخلق صورة تأملية حقيقية لا توجه المشاهد نحو شيء , هي تعرض له و تترك
له حرية تشكيل المشاعر التي يفضلها نحو مايشاهده , خالقةً إيقاعاً هادئاً للغاية (و
ليس رتيباً) تدعمه بقوة الترقبية التي يصنعها وجود هذه الشخصية الغريبة .
و عقب
مشهد الظهور الأول لجون ميرك الذي يبدو مثيراً و محفزاً يحاول ديفيد لينش ألا
يبقي صورة ميرك المشوهة هدفاً لمشاهده لذلك نجده يتعمد ألا يظهر وجه ميرك في الكثير
من المشاهد , و كأنما الرجل لا يحاول أن يستغل ذلك الوجه كنوع من الحافز لدى مشاهده
للإهتمام و المتابعة , يبدو لينش و كأنما يقول بأن المهم هو ليس نظرتنا لوجه المسخ بل غوصنا
في جوهره و حقيقته , و هو من خلال طريقة السرد ذاتها التي ينهجها في فيلمه يحاول خلق
نوعٍ من (اللاغرابة) في قصة شديدة الغرابة , و في اللحظة التي تفزع فيها
ممرضة الإطعام من رؤية وجه ميرك يرينا ديفيد لينش وجهه بطريقة مطولةٍ هذه المرة , و كأنما يحض مشاهده
على التمعن فيه و تشكيل صورة منطقية لمقدار الرفض الذي يمكن أن يلقاه رجل بهذه الصورة
الممسوخة من قبل المجتمع , لينش يجاري ما يحدث لبطله بطريقة تستحق الإحترام , يبقيه غامضاً
في الفترة التي كان فيها غامضاً للجميع , و يصبح مثيراً للإهتمام عندما نبدأ بالإهتمام
بحالته , يجعله مرعباً عندما كان بالفعل مرعباً للمحيطين به , و يخلق فيه رقةً حقيقية
عندما أسرت رقته و إحترامه صفوة المجتمع اللندني , و يخلق له صورةً كابوسية عندما يجبر
على أن يعيش كابوساً حقيقياً عندما إستغله أحد موظفي المشفى للترويج لدى رفاقه في الحانة
لقضاء سهرةٍ مجنونةٍ مع ميرك , ديفيد لينش يحاول بطريقةٍ يستحق الثناء عليها خلق نوع من التواصل
الحقيقي و التعايش بين مشاهده و شخصيته بطريقة تجعل هذا التواصل هو الحافز الوحيد ربما
لإستمرارية الإهتمام خصوصاً مع قصة لا تبحث عن نقطة نهاية حقيقية .
عندما
يبدأ الفيلم في الغوص عميقاً يكون ذلك من خلال الطريقة التي تغيرت بها بيئة جون ميرك , الصراع
الذي يتأجج بين مستخدم ميرك السابق صاحب السيرك المستغل , و الطبيب فريدريك تريفيز
الذي يرعاه الآن , المواجهة بين طريقتي التعامل المختلفتين في ظاهرهما مع شخص غريب
مثل جون ميرك , يقول تريفرز لصاحب السيرك (أنت تجني مالاً من شقاء هذا الرجل) فيرد صاحب السيرك (وهل تعتقد بأنك تختلف
عني ؟!) , و هي محاولة جيدة من النص لرسم التناقض الأخلاقي الموجود لدى الدكتور تريفرز ,
ولاءه للحياة العلمية التي عاشها , و للنهج العلمي الذي وحد طريقة تعامله مع جميع الحالات
التي صادفها في حياته , يبدو الرجل واقعاً تحت وطأة كون الحالة الجديدة التي يتعامل
معها حالةً شديدة الجاذبية بالنسبة للمجتمع , و محاولته ترويض جون ميرك لا تبدو
بعيدةً كثيراً عن محاولة تقديمه للمجتمع بصورةٍ أفضل , ربما يبدو الإصرار على إندماج
ميرك الكامل مع المجتمع الذي يحيط به نوعاً من العبث , و هي جزئية
يدركها تريفرز و يتعايش معها , هو لا يقدم ميرك لمجتمع الصفوة ,
بل يأتي بمجتمع الصفوة إليه , و هو في الخلاصة لا يرى بأنه يختلف كثيراً عن صاحب السيرك
, غيّر فقط الشكليات : طريقة العيش و الملبس و المظهر و المكان , لكن ميرك أصبح في الختام
وسيلةً مهمة لجني الأرباح بالنسبة للمستشفى , تريفرز يدرك جيداً بأن
مافعله على الرغم من كونه جيداً لجون ميرك إلا أن الرجل سيبقى حتى بالنسبة لأولئك الأشخاص الذين
إستلطفوه مجرد شخصٍ مسخ , هم لا يهتمون فعلاً لأمره لكنهم يحاولون التأثير على أصدقاءهم
بعبارات من قبيل (لقد شاهدته) (لقد شربت الشاي معه) (لقد قرأ لي مقطعاً من شكسبير) , أهم ما أعجبني في هذا النص هو أنه رغم تطرقه لهذه
الجزئية بقوة إلا أنه لا يمنحها - ضمن البنية الدرامية للفيلم - أكثر مما تستحقه ,
يحاول قدر المستطاع ألا ينساق وراء تحري التناقض الأخلاقي في تعامل الأشخاص المحيطين
بجون ميرك معه و ينسى بالمقابل جون ميرك نفسه , هو يوازن بين الجزئيتين بطريقة ذكية و متقنة و
تحسب له .
و رغم
ذلك إلا أن الفيلم يطرح بالمقابل سؤالاً صارخاً لدى مشاهده : ما هو الغرض الذي يهدف
له لينش من تقديم جون ميرك ؟ تساؤل راودني أكثر من مرة أثناء المشاهدة , هل
هي حبكة (الجميلة و الوحش) التقليدية عن الشخص المسخ الذي يخفي داخله قلباً
من ذهب ؟! , ربما يبدو هذا متناسباً مع قصة رومانسية أو أسطورية يعود فيها المسخ إلى
هيئته الحقيقية في الختام , لكن قصة جون ميرك لا تبدو كذلك , و لا أبالغ إذا قلت بأن تقديمها يبدو بدون
هدف , و العبرة التي يريد منا النص إستخلاصها عن الشجاعة و العزيمة و التصميم و البحث عن المكانة
لا تبدو منطقية , جون ميرك لم يتعامل في حياته مع (خيارات) , خيارات يمكن
أن تجعل سرد قصته ملهماً للكثيرين , جون ميرك لم يكن لديه أي خيار , كان لديه سبيل واحد فقط , شخص ولد
مشوهاً للغاية و عليه أن يعيش هكذا , جون ميرك أضطر للتعامل مع وضعه و كان مسيّراً طوال مراحل حياته
, لا تستطيع أن تستخلص عبرةً حقيقية مكتملةً من تقديم حياته بالمعنى التقليدي
للعبر المستقاة من تقديم مآسٍ كهذه , حتى على صعيد محاولات الرجل أن يكيف حياته مع
وضعه الصحي , الفيلم لا يصور الرجل و كأنما يكافح ليصل للصورة الحسنة التي تركها لدى
مجتمع الصفوة البريطاني , بل ينهج نهجاً يبدو مستدراً للعاطفة في محاولةٍ للتأثير في
مشاهديه , لك أن تتأمل أن جون ميرك القادم لتوه من بيئةٍ لم يتحدث فيها حرفاً واحداً
و عاش كل حياته الماضية (21 عاماً) كحيوان , أصبح فجأةً يتكلم و يقرأ و يحفظ الأشعار
و يتعامل برقي مع من يحيطون به , قفزةٌ تبدو مفتعلة (رغم إمكانية حدوثها) , و سبب هذه
الإفتعالية هو تجاهل النص لتبرير إمكانيتها , و إصراره على عدم تقديم جون ميرك كشخص
يجد صعوبة ذاتية (وليست خارجية) في الإندماج في المجتمع , يقدم ميرك كشخص إعتيادي
مشكلته الحقيقية هي رفض المجتمع له بسبب شكله الغريب , و هي جزئية لا تبدو منطقية مع
شخص وجد نفسه فجأةً في مجتمع و بيئةٍ غريبين عنه .
بالمجمل
هو فيلمٌ مهم و مختلف , عابه في مجمله قصور في تعامل نصه مع شخصية جون ميرك و دواخلها
و إصراره على تقديمها إنطلاقاً من الخارج , عابه بعض التشويش المونتاجي لإنسيابيته
بفعل تعمده القطع المبكر (الذي يبدو مبتوراً) في ختام كل مشهد , لكنه قدم قصة عاطفية
مؤثرة عن إنسانٍ حكمت عليه ظروفه أن يعيش في مجتمع لا يتقبله و يرفض أن ينظر إلى داخله
عوضاً عن الإهتمام بخارجه , مخدوماً بأداءٍ مرهف الحس و مؤثر و قادر بسهولة على الوصول
و الإختراق من السير جون هيرت لشخصية جون ميرك رغم أنك لا تشاهد وجهه و ردود فعله المعبرة في أي مشهد
من المشاهد , و أداء متفهم و مدروس من السير أنتوني هوبكنز لشخصية الدكتور فريدريك تريفيز
, و الكثير و الكثير من الحنكة الإخراجية التي اعتدناها دائماً من واحدٍ من أفضل
أبناء جيله من المخرجين .
التقييم من 10 : 8.5
0 تعليقات:
إرسال تعليق