كتب : عماد العذري
بطولة : راسل كرو , بن أفليك , ريتشل مكادامز , روبن رايت بن , هيلين ميرين
إخراج : كيفن مكدونالد
عقب جريمة قتلٍ غامضة ترتكب بحق لص متشرد مدمنٍ على المخدرات , ترتكب جريمة قتل شنيعة بحق سونيا بيكر مديرة الأبحاث في اللجنة التي يرأسها عضو الكونغرس الأمريكي ستيفن كولينز الذي يمثل المستقبل المشرق لحزبه , جريمتان توقظان حس الصحفي لدى كال مكافري كبير مراسلي صحيفة الواشنطون غلوب مدفوعاً بولع الحقيقة من جهة و بالصداقة القديمة التي ربطته بكولينز أيام السكن الجامعي الذي جمعهما , كال مكافري سرعان ما يكتشف بأن الجريمتين مرتبطتين ببعضهما و ليست مجرد مصادفة حدوثهما في الليلة ذاتها , قبل أن يستغل معارضو كولينز و الممتعضين من لجنته القضية لربط كولينز بسونيا من خلال علاقة عاطفية جمعتهما , بغرض تشتيت إنتباهه عن لجنته المخصصة للنظر في قضايا الإنفاق العسكري , مكافري المتحمس يصطدم بإصرار رئيسته في الصحيفة على إقحام بلوغر شابة في القضية , ديلا فري التي تدير الصفحة الإلكترونية للصحيفة لا تواجه بالقبول من مكافري لكنه سرعان ما يحولها إلى مساعدةٍ له , قبل أن يكتشف أنه غاص في واحد من أعقد تقاريره , و من أعنف الضربات الصحفية في مسيرته ..
من كيفن مكدونالد مخرج The Last King of Scotland تأتي هذه الإثارة المقتبسة عن سلسلة تلفيزيونية قصيرة عرضت على البي بي سي عام 2003 على مدى ست ساعات , و في سبيل تقليص مدة الفيلم السينمائي إلى ساعتين فقط لجأ مكدونالد إلى ثلاثةٍ من كتاب النصوص الذين يجيدون فعلاً التعامل مع أفلامٍ من هذه النوعية , ماثيو مايكل كارناهان ( كاتب Lions for Lambs ) , و توني غيلروي ( كاتب Michael Clayton و الذي يتناول مراراً و تكراراً فساد الشركات العملاقة ) , و بيلي راي ( كاتب Shutterd Glass ) , و في الحقيقة كانت النتيجة جيدةً إلى حدٍ بعيد , فالكتاب الثلاثة تمكنوا بطريقةٍ ما من ترويض البناء النفسي و الحبكة المثيرة للعمل الأصلي بحيث تتلائم مع عملٍ يتم تقليص مدة عرضه إلى الثلث تقريباً , و في سبيل ذلك كثف كتاب العمل تركيزهم على إعطاء حبكة الفيلم المساحة التي تحتاجها و تستحقها , و أبعدوا البناء النفسي للشخصيات عن الضوء بطريقة لا يمكن لومهم عليها ..
الفيلم يستمد قوته و جاذبيته من حبكته , فهي تقريباً كل شيء في هذا الفيلم , نوعية أفلامٍ كهذه لا تهتم فيها كثيراً بالبناء النفسي لشخصياتها , أو بنوعية الأداءات التي يقدمها أبطالها , هنا يبقى الأهم لدى مخرج الفيلم خلق علاقةٍ سوية و صحيحة بين مشاهده و ما يشاهده , و إبقاءه على إتصالٍ لا ينقطع بكل ما يجري أمامه على الشاشة , لذلك يعمد كتاب النص إلى خفض الإضاءة على البناء النفسي و العلاقات المتشكلة بين الشخصيات , و إبقاءها في دائرة الحبكة فقط , و كل علاقةٍ تتشكل هنا , و كل ماضٍ يتم البوح به يتم ترويضه بحيث يخدم الحبكة في الفيلم و بحيث يبدو مهماً بالنسبة لها أولاً و أخيراً , و حقيقةً فإن هذا التوجه – السليم إعتباراً لنواياه – هو سلاح ذو حدين , من واقع سؤالٍ مهم سيخطر على كاتب النص : عندما تحاول إختزال ست ساعات في ساعتين , مالذي يمكنه أن يحدد لك ماهو مهم , و ماهو غير مهم ؟
كتاب النص – في الثغرة الحقيقية للنص – لم يتمكنوا تماماً من تحديد ما هو مهم بالنسبة لهذه الحبكة من كم الأحداث و العلاقات الموجودة في الأصل ( و لا أدعي مشاهدته , لكنه يتجلى بوضوح من نوعية ( الفائض ) الموجود في النص ) , النص يحاول صنع مذاق إثارة مصغر ضمن القضية الأكبر من خلال صنع صراع خفي بين الصحافة المطبوعة ( العتيقة و الكلاسيكية ) و ثورة الصحافة الإلكترونية ( الأرخص و الأسرع وصولاً و إنتشاراً ) , الصراع الذي يرسم باكراً بتدخل البلوغر ديلا فري في القضية التي يديرها كال مكافري , لكن و لسببٍ ما سرعان ما يبتر النص هذا الصراع باكراً جداً , مثيراً نقطة تساؤل : لماذا تم إقحامه أساساً مادام إضافةً مصطنعةً على الأصل ( الذي كتب و صور قبل ثورة البلوغرز ) ؟ , تساؤلٌ آخر لا يقل أهميةً بطبيعة الحال يتمثل في العلاقة المقحمة بشكلٍ سافرٍ و غير مدروس بين كال مكافري و آن كولينز و التي لا تخدم هذه الحبكة بشكلٍ أو بآخر , الفيلم يحاول إعطاء بعد عاطفيٍ أو مسحة من الماضي لتورط كال مكافري في هذه القضية , رغم أن هذا البعد يكون فائضاً تماماً خصوصاً في المراحل المتأخرة من العمل و التي يبدو فيها كال مكافري و كأنما قد إقترب من الحقيقة , سوء الإدراك هذا لطبيعة ماهو مهم بالنسبة للحبكة و ماهو غير مهم سلبني في الواقع بعضاً من إنجذابي للنص , و جعل التشويش يبلغ ذروته بمجرد إكتشاف هذه العلاقة بين مكافري و آن كولينز , و التي حاول بها كتاب النص ربما إعطاء بعدٍ عاطفي غير موجود فيها أساساً ( إذا ما إستثنينا ذلك النابع من أداء روبن رايت بن الممتاز ) , و هي عقبةٌ لم أستطع تجاوزها بسهولة ..
على الجانب الآخر فإن إثارة الفيلم هي إثارةٌ حقيقية غير مصطنعةٍ بالمرة , إثارة مصنوعة بتوازن مدهش أحياناً , ذلك النوع الذي لا ينفجر , لكنه لا يجعلك تهدأ , إثارة تبدو غامضةً و باعثةً على التساؤلات , لكنها لسببٍ ما لا تبدو معقدة , هناك شعورٌ بالأمان نحس به تجاه الأحداث و لا ندري له سبباً رغم أننا نثار بها , نهتم كثيراً بـ ( من ؟ ) و ( لماذا ؟ ) و لا نهتم بـ ( كيف ؟ ) , لدرجةٍ تندهش فيها بمجرد الإنتهاء منه كيف كان هذا الفيلم ذي الساعتين عملاً من ست ساعات دون أن يشعرك بذلك ؟ , يخبرنا كيفن مكدونالد منذ المشهد الإفتتاحي الذي نشاهد فيه جريمتي قتل بأنه يقدم فيلماً مميزاً و مثيراً على غرار فيلمه الرائع The Last King of Scotland عام 2006 , يستطيع منذ البداية أن يسحب مقاعد المشاهدين قليلاً إلى الأمام لإبداء إهتمامهم بما يحدث , و عندما نرى كال مكافري و ديلا فري يدسان أنفهما في القضية تقفز إلى أذهاننا الصورة العظيمة التي رسمها آلن جي باكولا بالكبيرين داستن هوفمان و روبرت ريدفورد في تحفته الشهيرة All The Presedent’s Men , مع فارق جوهري يتمثل في التكثيف الذي مارسه فيلم باكولا على المحور الأساسي له ( وهو فضيحة ووترغيت ) دون أي بهارات أو ماكياج , و من محوره الأساسي إستمد قوته و إثارته , كيفن مكدونالد يصنع شيئاً قريباً من هذا , هو يخبرنا منذ اللحظة التي تتعرف فيها ديلا فري على كال مكافري بأن عمله هذا هو عن التأثير الذي تمارسه الصحافة اليوم في صنع السياسة , عن القوة التي تستمدها من الناس ( وهم هدف السياسة الأول ) , و رغم أن النص يفتقد لصنع دفعٍ أقوى للصراع الخفي بين صحافة مكافري و أساليبه القديمة , و بين إنترنت فري و حداثة الخيارات التي يقدمها ( و لو فعل لكان من أوائل الأفلام التي تبحث بجدية في تأثير البلوغرز على الحياة اليوم ) , الفيلم يقتل هذه الجزئية في مهدها ( و لم يكن مضطراً أساساً لخلقها ) , و لو تجاوزنا ذلك فالفيلم يقدم تأثير الصحافة بحد ذاتها بصورة قوية , يرسم حدود العلاقة بين الصحفي و ما يكتبه , يرسم إختلاف التوجهات بين مكافري و رئيسته المتسلطة كاميرون لين , الإختلاف بين صحفي يعتبر المسألة مرتبطةً بكتابة ما هو ( حقيقي ) أكثر من كتابة ما هو ( مثير و جاذب للإهتمام ) , بينما رئيسة تحرير الصحيفة ترى أن جزءاً مهماً من عمل الصحفي يتمثل في تواصله مع جمهوره , و من علاقة الديمومة التي يجب أن تربطه بجمهوره , كاميرون لين ( في أداء ممتاز و دورٍ لم يرقني تماماً لهيلين ميرين ) تبحث عن الفرقعة الصحفية أكثر من بحثها عن مجد الحقيقة , تبحث عما يشفي غليل قرءاها كل يوم عوضاً عن تقرير مفصل بالحقيقة تراه مرةً كل شهر , الحقيقة لم تعد هدفاً بحد ذاتها في الصحافة المعاصرة , كما كانت في سبعينيات آلن جي باكولا , أصبح تأثير التمويل و الإعلانات و العائدات و الشهرة أكبر بكثيرٍ عما قبل , أمور تبدو أهم من الحقيقة ذاتها في صحافة اليوم , و لا يبدو حتى كال مكافري الباحث عن الحقيقة بعيداً عنها , خصوصاً عندما يواجهه ستيفن كولينز بحقيقة كونه إستغل علاقته به كعضو كونغرس من أجل سبقٍ صحفي في قضيةٍ تخصه , هاجس الشهرة و السبق و اللمعان لدى الصحفي , هاجس لا يرفضه أحد و لا يقاومه أحد , الفيلم يضرب في صميم دور الصحافة في المجتمع , و لا أبالغ إذا ما قلت بأن State of Play هو فيلمٌ عن الصحافة , أكثر من إهتمامه بأعمال السياسيين و خفايا الممارسات الحكومية ..
هناك جزئيةٌ أخرى أحببتها في هذا العمل تتعلق بالتباين الموجود بين ( الخبرة ) و ( حداثة العهد ) , ما يباعد بين مكافري و ديلا فري لا يتمثل فقط بالبعد بين الصحافة العتيقة و الصحافة الحديثة , بل البعد بين الصحفي المتمرس و ذلك الجديد الطموح للضربات الصحفية ( التي يعتقد بأنها سهلة ) , الطريقة التي يتعامل بها كلا الطرفان مع الأمور , نظرة الإحترافية النابعة من خبرة السنين الموجودة لدى مكافري , و النظرة العاطفية أحياناً للأمور التي نراها لدى ديلا فري , لنا أن نشاهد ما يحدث عقب مقتل الشاهد الوحيد برصاص قناص في المستشفى , تصاب ديلا فري بصدمةٍ منطقية , و تطالب بتسليم الوثائق للشرطة بدلاً من رؤية الناس يموتون , لكن تعامل مكافري مع الأمور يبدو أكثر روية , تبدو خبرة السنين التي قضاها في بلاط صاحبة الجلالة قد علمته الكثير , يبدو بخبرته قادراً على لملمة الأمور , يعرف جيداً من أين تؤكل الكتف , يبدو و كأنما يدير الأمور بسلطات عليا , يعرف إلى من يتحدث , ومن سيفيده , إلى من يذهب , و من سيسهل له الأمور , الفيلم يغوص في جوهر المهنة , ويقربنا منها بشكلٍ أو بآخر , و إن كان يبالغ أحياناً في بهرجة الأمور و إعطاء أبعاد أكبر للمدى الذي يمكن أن تذهب إليه الصحافة , و الشعور بأن مكافري و فري هما أقرب إلى شرطيين من كونهما مجرد صحفيين هو شعور لا يمكن مراوغته أو تجاوزه , خصوصاً عندما نرى الإمكانات و الأبواب الموصدة التي تفتح أمامهما بسهولةٍ و يسر ..
بصورةٍ مجملة يتعامل كيفن مكدونالد مع النص بإمتيازٍ لا غبار عليه , نجده في إدارة فيلمه يوحد بحذر جريمتي القتل في طريقٍ واحد , قبل أن يوسع الحبكة ( ببعدها الإخراجي ) إلى آفاق و منافذ جديدة تكون كافيةً بحد ذاتها لخلق إثارةٍ متميزةٍ و قوية , ثم يضيقها بذكاءٍ يحسب له ليحصرها في الختام بكشف المتسبب بما يحدث , و لا يحاول أن يذهب أبعد من ذلك , أو بمعنى آخر لم يحضِّر مشاهده لإنتظار أكثر من ذلك , مكدونالد يتعامل مع النص بحرفيةٍ ( لمسناها من قبل في نص بيتر مورغان لـ The Last King of Scotland ) , نجد النص على سبيل المثال يحاول إبعاد الخطر الشخصي عن شخصيتي مكافري و فري ( رغم بديهيته ) اللتين وقعتا في مستنقع واسعٍ لا تعلمان إلى أين سيودي بهما , أنت لا تشعر بخطر على الشخصيتين رغم خطورة ما يفعلانه , و رغم المؤامرة الكبيرة التي تلوح في الأفق , النص يحاول أن ينأى بنفسه عن هذا , كيلا يفتح منفذاً جديداً من الإثارة قد يصعب السيطرة عليه و ترويضه في الختام , لذلك تبقى الشخصيات المؤثرة ( أو منبع الخطر المفترض و المقصود بها شركة بوينتكورب و عضو الكونغرس جورج فيرغس ) رابضتين في الظل و بعيدتين عن الحدث , في نوع من إضفاء الغموض من جهة , و عدم التلاعب بالجمهور و إفتراض سذاجته من جهةٍ أخرى , و عندما يتورط مكافري بتعقب المجرم في إحدى الليالي يصيبنا الشعور بالخطر على مكافري بوضوحٍ عجيب , بل أن إحساسنا بأن مكافري سيورط نفسه في هذه الليلة يقفز إلى أذهاننا مباشرةً , و لسان حالنا يقول ( ماذا دهاه ؟ ) , بالمقابل يحاول هذا النص أيضاً إعطاء شعور مخادع برومانسية ( منتظرة ) بين كال مكافري و ديلا فري مستغلاً أدائين ممتازين توّجا الكيمياء العالية بين راسل كرو و ريتشل مكادامز , لكن هذا لا يحدث و لا يتم نفيه أيضاً أثناء سير الأحداث , كل هذه التوترات , و الأحاسيس الخاطئة وصلت تماماً بفضل التعامل المحنك من كيفن مكدونالد مع النص , و لا أبالغ إذا ما قلت بأنه تفوق عليه في مراحل عديدة ..
الفيلم الجديد لكيفن مكدونالد إثارةٌ محترمة , وازنت بطريقةٍ معقولة بين الغرض الذي قدمت من أجله و هو صناعة فيلم إثارة يحرك العقول و القلوب و يحترمها , و الغوص في جوهر مهنة المتاعب , في الهاجس التائه الذي تحمله على عاتقها , بين الحقيقة التي يفترض أن تكون هدفها و مسعاها , و الشهرة التي لا يوجد من يرفضها , هذا واحد من الأفلام التي لا تقدم أكثر مما تبدو عليه , و لا تحاول أيضاً أن تقول بأنها تقدم أكثر مما تبدو عليه ..
التقييم من 10 : 7.5
بطولة : راسل كرو , بن أفليك , ريتشل مكادامز , روبن رايت بن , هيلين ميرين
إخراج : كيفن مكدونالد
عقب جريمة قتلٍ غامضة ترتكب بحق لص متشرد مدمنٍ على المخدرات , ترتكب جريمة قتل شنيعة بحق سونيا بيكر مديرة الأبحاث في اللجنة التي يرأسها عضو الكونغرس الأمريكي ستيفن كولينز الذي يمثل المستقبل المشرق لحزبه , جريمتان توقظان حس الصحفي لدى كال مكافري كبير مراسلي صحيفة الواشنطون غلوب مدفوعاً بولع الحقيقة من جهة و بالصداقة القديمة التي ربطته بكولينز أيام السكن الجامعي الذي جمعهما , كال مكافري سرعان ما يكتشف بأن الجريمتين مرتبطتين ببعضهما و ليست مجرد مصادفة حدوثهما في الليلة ذاتها , قبل أن يستغل معارضو كولينز و الممتعضين من لجنته القضية لربط كولينز بسونيا من خلال علاقة عاطفية جمعتهما , بغرض تشتيت إنتباهه عن لجنته المخصصة للنظر في قضايا الإنفاق العسكري , مكافري المتحمس يصطدم بإصرار رئيسته في الصحيفة على إقحام بلوغر شابة في القضية , ديلا فري التي تدير الصفحة الإلكترونية للصحيفة لا تواجه بالقبول من مكافري لكنه سرعان ما يحولها إلى مساعدةٍ له , قبل أن يكتشف أنه غاص في واحد من أعقد تقاريره , و من أعنف الضربات الصحفية في مسيرته ..
من كيفن مكدونالد مخرج The Last King of Scotland تأتي هذه الإثارة المقتبسة عن سلسلة تلفيزيونية قصيرة عرضت على البي بي سي عام 2003 على مدى ست ساعات , و في سبيل تقليص مدة الفيلم السينمائي إلى ساعتين فقط لجأ مكدونالد إلى ثلاثةٍ من كتاب النصوص الذين يجيدون فعلاً التعامل مع أفلامٍ من هذه النوعية , ماثيو مايكل كارناهان ( كاتب Lions for Lambs ) , و توني غيلروي ( كاتب Michael Clayton و الذي يتناول مراراً و تكراراً فساد الشركات العملاقة ) , و بيلي راي ( كاتب Shutterd Glass ) , و في الحقيقة كانت النتيجة جيدةً إلى حدٍ بعيد , فالكتاب الثلاثة تمكنوا بطريقةٍ ما من ترويض البناء النفسي و الحبكة المثيرة للعمل الأصلي بحيث تتلائم مع عملٍ يتم تقليص مدة عرضه إلى الثلث تقريباً , و في سبيل ذلك كثف كتاب العمل تركيزهم على إعطاء حبكة الفيلم المساحة التي تحتاجها و تستحقها , و أبعدوا البناء النفسي للشخصيات عن الضوء بطريقة لا يمكن لومهم عليها ..
الفيلم يستمد قوته و جاذبيته من حبكته , فهي تقريباً كل شيء في هذا الفيلم , نوعية أفلامٍ كهذه لا تهتم فيها كثيراً بالبناء النفسي لشخصياتها , أو بنوعية الأداءات التي يقدمها أبطالها , هنا يبقى الأهم لدى مخرج الفيلم خلق علاقةٍ سوية و صحيحة بين مشاهده و ما يشاهده , و إبقاءه على إتصالٍ لا ينقطع بكل ما يجري أمامه على الشاشة , لذلك يعمد كتاب النص إلى خفض الإضاءة على البناء النفسي و العلاقات المتشكلة بين الشخصيات , و إبقاءها في دائرة الحبكة فقط , و كل علاقةٍ تتشكل هنا , و كل ماضٍ يتم البوح به يتم ترويضه بحيث يخدم الحبكة في الفيلم و بحيث يبدو مهماً بالنسبة لها أولاً و أخيراً , و حقيقةً فإن هذا التوجه – السليم إعتباراً لنواياه – هو سلاح ذو حدين , من واقع سؤالٍ مهم سيخطر على كاتب النص : عندما تحاول إختزال ست ساعات في ساعتين , مالذي يمكنه أن يحدد لك ماهو مهم , و ماهو غير مهم ؟
كتاب النص – في الثغرة الحقيقية للنص – لم يتمكنوا تماماً من تحديد ما هو مهم بالنسبة لهذه الحبكة من كم الأحداث و العلاقات الموجودة في الأصل ( و لا أدعي مشاهدته , لكنه يتجلى بوضوح من نوعية ( الفائض ) الموجود في النص ) , النص يحاول صنع مذاق إثارة مصغر ضمن القضية الأكبر من خلال صنع صراع خفي بين الصحافة المطبوعة ( العتيقة و الكلاسيكية ) و ثورة الصحافة الإلكترونية ( الأرخص و الأسرع وصولاً و إنتشاراً ) , الصراع الذي يرسم باكراً بتدخل البلوغر ديلا فري في القضية التي يديرها كال مكافري , لكن و لسببٍ ما سرعان ما يبتر النص هذا الصراع باكراً جداً , مثيراً نقطة تساؤل : لماذا تم إقحامه أساساً مادام إضافةً مصطنعةً على الأصل ( الذي كتب و صور قبل ثورة البلوغرز ) ؟ , تساؤلٌ آخر لا يقل أهميةً بطبيعة الحال يتمثل في العلاقة المقحمة بشكلٍ سافرٍ و غير مدروس بين كال مكافري و آن كولينز و التي لا تخدم هذه الحبكة بشكلٍ أو بآخر , الفيلم يحاول إعطاء بعد عاطفيٍ أو مسحة من الماضي لتورط كال مكافري في هذه القضية , رغم أن هذا البعد يكون فائضاً تماماً خصوصاً في المراحل المتأخرة من العمل و التي يبدو فيها كال مكافري و كأنما قد إقترب من الحقيقة , سوء الإدراك هذا لطبيعة ماهو مهم بالنسبة للحبكة و ماهو غير مهم سلبني في الواقع بعضاً من إنجذابي للنص , و جعل التشويش يبلغ ذروته بمجرد إكتشاف هذه العلاقة بين مكافري و آن كولينز , و التي حاول بها كتاب النص ربما إعطاء بعدٍ عاطفي غير موجود فيها أساساً ( إذا ما إستثنينا ذلك النابع من أداء روبن رايت بن الممتاز ) , و هي عقبةٌ لم أستطع تجاوزها بسهولة ..
على الجانب الآخر فإن إثارة الفيلم هي إثارةٌ حقيقية غير مصطنعةٍ بالمرة , إثارة مصنوعة بتوازن مدهش أحياناً , ذلك النوع الذي لا ينفجر , لكنه لا يجعلك تهدأ , إثارة تبدو غامضةً و باعثةً على التساؤلات , لكنها لسببٍ ما لا تبدو معقدة , هناك شعورٌ بالأمان نحس به تجاه الأحداث و لا ندري له سبباً رغم أننا نثار بها , نهتم كثيراً بـ ( من ؟ ) و ( لماذا ؟ ) و لا نهتم بـ ( كيف ؟ ) , لدرجةٍ تندهش فيها بمجرد الإنتهاء منه كيف كان هذا الفيلم ذي الساعتين عملاً من ست ساعات دون أن يشعرك بذلك ؟ , يخبرنا كيفن مكدونالد منذ المشهد الإفتتاحي الذي نشاهد فيه جريمتي قتل بأنه يقدم فيلماً مميزاً و مثيراً على غرار فيلمه الرائع The Last King of Scotland عام 2006 , يستطيع منذ البداية أن يسحب مقاعد المشاهدين قليلاً إلى الأمام لإبداء إهتمامهم بما يحدث , و عندما نرى كال مكافري و ديلا فري يدسان أنفهما في القضية تقفز إلى أذهاننا الصورة العظيمة التي رسمها آلن جي باكولا بالكبيرين داستن هوفمان و روبرت ريدفورد في تحفته الشهيرة All The Presedent’s Men , مع فارق جوهري يتمثل في التكثيف الذي مارسه فيلم باكولا على المحور الأساسي له ( وهو فضيحة ووترغيت ) دون أي بهارات أو ماكياج , و من محوره الأساسي إستمد قوته و إثارته , كيفن مكدونالد يصنع شيئاً قريباً من هذا , هو يخبرنا منذ اللحظة التي تتعرف فيها ديلا فري على كال مكافري بأن عمله هذا هو عن التأثير الذي تمارسه الصحافة اليوم في صنع السياسة , عن القوة التي تستمدها من الناس ( وهم هدف السياسة الأول ) , و رغم أن النص يفتقد لصنع دفعٍ أقوى للصراع الخفي بين صحافة مكافري و أساليبه القديمة , و بين إنترنت فري و حداثة الخيارات التي يقدمها ( و لو فعل لكان من أوائل الأفلام التي تبحث بجدية في تأثير البلوغرز على الحياة اليوم ) , الفيلم يقتل هذه الجزئية في مهدها ( و لم يكن مضطراً أساساً لخلقها ) , و لو تجاوزنا ذلك فالفيلم يقدم تأثير الصحافة بحد ذاتها بصورة قوية , يرسم حدود العلاقة بين الصحفي و ما يكتبه , يرسم إختلاف التوجهات بين مكافري و رئيسته المتسلطة كاميرون لين , الإختلاف بين صحفي يعتبر المسألة مرتبطةً بكتابة ما هو ( حقيقي ) أكثر من كتابة ما هو ( مثير و جاذب للإهتمام ) , بينما رئيسة تحرير الصحيفة ترى أن جزءاً مهماً من عمل الصحفي يتمثل في تواصله مع جمهوره , و من علاقة الديمومة التي يجب أن تربطه بجمهوره , كاميرون لين ( في أداء ممتاز و دورٍ لم يرقني تماماً لهيلين ميرين ) تبحث عن الفرقعة الصحفية أكثر من بحثها عن مجد الحقيقة , تبحث عما يشفي غليل قرءاها كل يوم عوضاً عن تقرير مفصل بالحقيقة تراه مرةً كل شهر , الحقيقة لم تعد هدفاً بحد ذاتها في الصحافة المعاصرة , كما كانت في سبعينيات آلن جي باكولا , أصبح تأثير التمويل و الإعلانات و العائدات و الشهرة أكبر بكثيرٍ عما قبل , أمور تبدو أهم من الحقيقة ذاتها في صحافة اليوم , و لا يبدو حتى كال مكافري الباحث عن الحقيقة بعيداً عنها , خصوصاً عندما يواجهه ستيفن كولينز بحقيقة كونه إستغل علاقته به كعضو كونغرس من أجل سبقٍ صحفي في قضيةٍ تخصه , هاجس الشهرة و السبق و اللمعان لدى الصحفي , هاجس لا يرفضه أحد و لا يقاومه أحد , الفيلم يضرب في صميم دور الصحافة في المجتمع , و لا أبالغ إذا ما قلت بأن State of Play هو فيلمٌ عن الصحافة , أكثر من إهتمامه بأعمال السياسيين و خفايا الممارسات الحكومية ..
هناك جزئيةٌ أخرى أحببتها في هذا العمل تتعلق بالتباين الموجود بين ( الخبرة ) و ( حداثة العهد ) , ما يباعد بين مكافري و ديلا فري لا يتمثل فقط بالبعد بين الصحافة العتيقة و الصحافة الحديثة , بل البعد بين الصحفي المتمرس و ذلك الجديد الطموح للضربات الصحفية ( التي يعتقد بأنها سهلة ) , الطريقة التي يتعامل بها كلا الطرفان مع الأمور , نظرة الإحترافية النابعة من خبرة السنين الموجودة لدى مكافري , و النظرة العاطفية أحياناً للأمور التي نراها لدى ديلا فري , لنا أن نشاهد ما يحدث عقب مقتل الشاهد الوحيد برصاص قناص في المستشفى , تصاب ديلا فري بصدمةٍ منطقية , و تطالب بتسليم الوثائق للشرطة بدلاً من رؤية الناس يموتون , لكن تعامل مكافري مع الأمور يبدو أكثر روية , تبدو خبرة السنين التي قضاها في بلاط صاحبة الجلالة قد علمته الكثير , يبدو بخبرته قادراً على لملمة الأمور , يعرف جيداً من أين تؤكل الكتف , يبدو و كأنما يدير الأمور بسلطات عليا , يعرف إلى من يتحدث , ومن سيفيده , إلى من يذهب , و من سيسهل له الأمور , الفيلم يغوص في جوهر المهنة , ويقربنا منها بشكلٍ أو بآخر , و إن كان يبالغ أحياناً في بهرجة الأمور و إعطاء أبعاد أكبر للمدى الذي يمكن أن تذهب إليه الصحافة , و الشعور بأن مكافري و فري هما أقرب إلى شرطيين من كونهما مجرد صحفيين هو شعور لا يمكن مراوغته أو تجاوزه , خصوصاً عندما نرى الإمكانات و الأبواب الموصدة التي تفتح أمامهما بسهولةٍ و يسر ..
بصورةٍ مجملة يتعامل كيفن مكدونالد مع النص بإمتيازٍ لا غبار عليه , نجده في إدارة فيلمه يوحد بحذر جريمتي القتل في طريقٍ واحد , قبل أن يوسع الحبكة ( ببعدها الإخراجي ) إلى آفاق و منافذ جديدة تكون كافيةً بحد ذاتها لخلق إثارةٍ متميزةٍ و قوية , ثم يضيقها بذكاءٍ يحسب له ليحصرها في الختام بكشف المتسبب بما يحدث , و لا يحاول أن يذهب أبعد من ذلك , أو بمعنى آخر لم يحضِّر مشاهده لإنتظار أكثر من ذلك , مكدونالد يتعامل مع النص بحرفيةٍ ( لمسناها من قبل في نص بيتر مورغان لـ The Last King of Scotland ) , نجد النص على سبيل المثال يحاول إبعاد الخطر الشخصي عن شخصيتي مكافري و فري ( رغم بديهيته ) اللتين وقعتا في مستنقع واسعٍ لا تعلمان إلى أين سيودي بهما , أنت لا تشعر بخطر على الشخصيتين رغم خطورة ما يفعلانه , و رغم المؤامرة الكبيرة التي تلوح في الأفق , النص يحاول أن ينأى بنفسه عن هذا , كيلا يفتح منفذاً جديداً من الإثارة قد يصعب السيطرة عليه و ترويضه في الختام , لذلك تبقى الشخصيات المؤثرة ( أو منبع الخطر المفترض و المقصود بها شركة بوينتكورب و عضو الكونغرس جورج فيرغس ) رابضتين في الظل و بعيدتين عن الحدث , في نوع من إضفاء الغموض من جهة , و عدم التلاعب بالجمهور و إفتراض سذاجته من جهةٍ أخرى , و عندما يتورط مكافري بتعقب المجرم في إحدى الليالي يصيبنا الشعور بالخطر على مكافري بوضوحٍ عجيب , بل أن إحساسنا بأن مكافري سيورط نفسه في هذه الليلة يقفز إلى أذهاننا مباشرةً , و لسان حالنا يقول ( ماذا دهاه ؟ ) , بالمقابل يحاول هذا النص أيضاً إعطاء شعور مخادع برومانسية ( منتظرة ) بين كال مكافري و ديلا فري مستغلاً أدائين ممتازين توّجا الكيمياء العالية بين راسل كرو و ريتشل مكادامز , لكن هذا لا يحدث و لا يتم نفيه أيضاً أثناء سير الأحداث , كل هذه التوترات , و الأحاسيس الخاطئة وصلت تماماً بفضل التعامل المحنك من كيفن مكدونالد مع النص , و لا أبالغ إذا ما قلت بأنه تفوق عليه في مراحل عديدة ..
الفيلم الجديد لكيفن مكدونالد إثارةٌ محترمة , وازنت بطريقةٍ معقولة بين الغرض الذي قدمت من أجله و هو صناعة فيلم إثارة يحرك العقول و القلوب و يحترمها , و الغوص في جوهر مهنة المتاعب , في الهاجس التائه الذي تحمله على عاتقها , بين الحقيقة التي يفترض أن تكون هدفها و مسعاها , و الشهرة التي لا يوجد من يرفضها , هذا واحد من الأفلام التي لا تقدم أكثر مما تبدو عليه , و لا تحاول أيضاً أن تقول بأنها تقدم أكثر مما تبدو عليه ..
التقييم من 10 : 7.5
0 تعليقات:
إرسال تعليق