كتب : عماد العذري
بطولة : ميريل ستريب , فيليب سيمور هوفمان , أيمي آدامز , فيولا ديفيز
إخراج : جون باتريك شانلي
عن مسرحيته التي حققت رواجاً واسعاً عند عرضها على برودواي , يأتي الفيلم السينمائي الأول للمخرج المسرحي جون باتريك شانلي , ليعود بنا إلى عام 1964 و يسرد علينا قصة الأخت ألوشيوس بوفيار مديرة المدرسة الكاثوليكية لكنيسة سانت نيكولاس في برونكس التي تحكم مستعمرتها الصغيرة بالكثير و الكثير من الحزم و الإنضباط , محافظةً قدر المستطاع على كل شي كما هو في تقاليده و أصوله و طريقة تنفيذه , وهو أسلوب يتعارض إلى حد بعيد مع تيار التغيير في الكنيسة , التيار الذي ينهجه الأب بيرنار فلين القس في الكنيسة و الذي يحاول كسر بعض الجمود في التقاليد الكنسية البالية , هذا الإيقاع يختل عندما تراود الأخت ألوشيوس شكوك قوية مدعمة بشهادة راهبة شابة رقيقة حول علاقة مشبوهة بين الأب بيرنار فلين و بين دونالد ميلر أحد فتيان المذبح و الطالب الأسود الوحيد في المدرسة , شكوك تقودها لمواجهته ثم إتهامه بإنتهاك جنسي قام به تجاه الطالب , قبل أن تتصاعد هذه الشكوك لتتحول لحرب إطاحة بالشخص الأكثر شعبية بين طلاب المدرسة , و هي على ثقتها الشديدة بصدق شكوكها تجاه ما يحدث لم تكن تمتلك أي دليل مادي يمكن أن يدعم شكوكها ..
فيلمٌ آخر يأتي من المنتج سكوت رودن الذي أثبت خلال الأعوام الخمسة الماضية بأنه رجل المهمات الصعبة متصدياً لمجموعة من أفضل إنتاجات النصف الثاني من العقد بما فيها تتويجه بأوسكار أفضل فيلم العام الماضي عن تحفة جويل و إيثان كوين No Country For Old Men , سكوت رودن يأتي برائعة برودواي إلى الشاشة الكبيرة من خلال مخرجها المسرحي ذاته , و يقدم له ثلاثة أسماء براقة للقيام بأدوار البطولة تقودهم الأسطورية ميريل ستريب , و العمل يتحول إلى نجاح ملحوظ كللته 5 ترشيحات لجوائز الأوسكار هذا العام بما فيها أربع ترشيحات تمثيلية جعلته أكثر أفلام العقد حصداً للترشيحات التمثيلية ( مناصفة مع Chicago رائعة برودواي التي حولها مخرجها أيضاً إلى فيلم سينمائي قبل 6 أعوام ) ..
المرحلة التأسيسية لهذا الفيلم جيدة الإيقاع , نبدأها بطريقة تبدو على نمطيتها قوية في إيصال أجواء المدرسة من الداخل خلال أقل فترة زمنية ممكنة , نشاهد فيها الإدارة الحازمة و الشديدة من الأخت ألوشيوس بوفيار مديرة المدرسة المؤمنة بالتمسك بالتقاليد , و نتأمل خلالها روتين الراهبات اليومي : الإستيقاظ , إرتداء الملابس , الإفطار , كل الأمور تجري بدقة متناهية و بإنضباط شديد و حزم واضح , تطل من خلاله ميريل ستريب في دور متميز جداً قد يكون أفضل أدوارها خلال الأعوام العشرة الماضية , تكثف فيه صورة المرأة المتسلطة بشكل أقوى من ذلك الذي قدمته قبل عامين في The Devil Wears Prada , نوع خاص من التسلط الممزوج بالإلتزام تجاه تابعيها , نشاهدها على قسوتها و حزمها مهتمة بمتابعة شؤون زميلاتها التي تصاب إحداهن بالعمى التدريجي فتتكتم ألوشيوس على الخبر كيلا تتعرض الراهبة للطرد من المدرسة , بالمقابل يجري لنا باتريك شانلي نوعاً من المقارنة البصرية بين حياة القساوسة و الراهبات و كيف تتوحدان في الروتين اليومي للمدرسة , في الوقت نفسه نرى راهبة رقيقة و لطيفة تدعى الأخت جيمس تبرع أيمي آدامز في تقديمها و كأنما هي معلمة مدرسة لطيفةٌ فعلاً ربما بسبب ملامح الطيبة و اللطف التي تحملها ملامحها , و راهب في منتصف الثلاثينيات يدعى بيرنار فلين ( يقدمه فيليب سيمور هوفمان في أداءٍ صلب و متمكن جداً ) يتعامل بلطف و كياسة مع أتباع كنيسته و مع طلابه , و يبدو من أول لقاءٍ لنا به إنساناً واعياً و مستنيراً خصوصاً في عظة الأحد التي يلقيها حول أزمة الإيمان , و الشك الذي يملأ القلوب التائهة ..
في مرحلة تاليةٍ من الفيلم نبدأ في تبين حاجز الثقة بين الراهبات و القساوسة , الشكوك التي عادةً ما تراود ألوشيوس في أي تصرف لا تجيد تفسيره من قبل أحد القساوسة , هذه المرة تخبر الراهبات عن شكوكها تجاه الأب فلين لكنها لا تشرح لهم أي نوعٍ من الشكوك تتحدث عنها , ربما هو نوع من التوجس و الحذر و ربما الإحساس بالضعف تجاه رجل يفوقها مرتبةً رغم قوة الشكوك التي تعتمل في صدرها ..
قبل أن يبدأ أي نوع من المواجهة المباشرة بين الطرفين يعمد جون باتريك شانلي لتكثيف التفاصيل الصغيرة كنوع من التمهيد للمواجهة التي تنتظر من يشعلها , فنشاهد التباين الواضح في العقليتين من خلال مشاهد خاطفة , النفور الذي تبديه ألوشيوس تجاه قلم الحبر الجاف ( كرمز للحداثة ) , الملاحظة التي توجهها للأب فلين حول أظافره الطويلة و الذي يتحجج بأنها نظيفة رغم طولها , المقارنة البصرية الواضحة بين موائد الراهبات و موائد القساوسة , كل هذا يدعم أكثر فأكثر الخط الذي سينهجه الفيلم بدءاً من لحظة المكاشفة , و يخلق بناء ممتازاً للشخصيات بطريقة يبرع فيها النص بشكل ملحوظ , دون تصنع أو مشاهد فائضة ..
بعد تلك المرحلة التأسيسية يبدأ منعطف الفيلم الأهم من خلال ملاحظة توجهها الأخت جيمس لألوشيوس عما رأته بعد إنتهاء صفها , و حول الزيارة الغريبة التي قام بها الطالب دونالد ميلر إلى سكن الأب فلين , مباشرةً و كأنما كانت النار تنتظر من يشعلها يرسم خيال ألوشيوس صورةً مكتملة الملامح لما جرى , ترى ألوشيوس أنا إختيار دونالد ميلر ذكي فهو طالب معزول ربما بسبب بشرته , زنجي لا أحد يكترث لأمره , بينما ترى جيمس بأن الأمر كله قد يكون مجرد شكوك قد يكون لها مبرر منطقي , إلا أن ألوشيوس تفكر بطريقة مختلفة تماماً , و لأنها لا تجد رجلاً يعتمد عليه لمواجهة فلين فإنها يجب أن توقفه بنفسها ..
لكن – و ربما بسبب كونه يفوقها مرتبة – يؤجل باتريك شانلي هذه المواجهة قليلاً ضمن المشهد و يمعن في رسم نقاط إختلافٍ أخرى بين العقليتين , إختلاف في أسلوب تربية الأولاد , و إختلاف في الطريقة التي يفضلها كل منهما للإحتفال المسيحي هذا العام خصوصاً عندما يرى الاب فلين أن إحتفال هذا العام يجب أن يكون عصرياً و يشتمل على أغنية دنيوية , و إختلاف حتى في طريقة شرب الشاي الذي يفضله الاب فلين مع سكر , و عندما تحدث المكاشفة ( في واحد من أفضل مشاهد 2008 ) يعترف فلين لألوشيوس و جيمس بحقيقة أن دونالد ميلر كان يشرب نبيذ المذبح الأمر الذي يحرمه من البقاء في المذبح مما دفع الأب فلين لحمايته و التكتم على سره , و رغم أن الحجة تبدو مقنعة للأخت جيمس إلا أن ألوشيوس تقبلها على مضض , هناك جزئية مهمة في فكر ألوشيوس تجعلها تقرن شكوكها بالتعقيد , نعم ترى ألوشيوس أن الحياة تحتاج للكثير من التعقيد كي نستطيع السيطرة عليها , ترى أن التعقيد هو جزء لا ينفصل عن حياة الإنسان و أن إنساناً لا يشك و لا يبقي الأمور معقدة هو إنسانٌ ساذج , ألوشيوس ترد على جيمس عندما تخبرها عن إقتناعها بحجة الأب فلين ( لا لست كذلك , لكنك تريدين أن يُحل الأمر لكي تعودي للبساطة ) , تعتبر ألوشيوس البساطة نوعاً من السم الذي يفتك بحياة الإنسان ,ترى أن التعقيد و الحذر و الشك هما سلاح من يريد أن يمضي قدماً , و كيف أن الإنسان في كثير من الأحيان يهرب من شكوكه بحثاً عن راحة بال قد لا تكون حقيقية , لكن جيمس تعتبر بساطتها ربما سلاحاً لها , لذلك نجدها تخبر ألوشيوس بعد ذلك ( الطلاب يخافون منك ) , مواجهة أخرى في الفيلم ضمن معسكر الراهبات بين عقليتين مختلفتين تنهجان نهجاً مختلفاً في إدارة عالمهما : مديرة متسلطة و شديدة الحزم , و مدرسة لطيفة محبوبة و طيبة القلب مع طلابها ..
رد الأب فلين على ما جرى يكون مميزاً للغاية , عظة الأحد التي يلقيها في الكنيسة تتناول التلاعب بسمعة الآخرين , عظة عن الإشاعة و عن تأثيرها المدمر على حياة البشر , يحكي فيها قصة رائعةً عن إمرأةٍ تناولت سمعة جارها ثم ذهبت للإعتراف فطلب منها الأب أن تصعد إلى سطح منزلها و تمزق وسادتها و تنثر ريشها ثم تحاول جمعه من جديد بعد أن طارت به الريح , قصة مؤثرة تهز ألوشيوس و جيمس من الداخل , وترسخ الغنى الحقيقي الذي يتمتع به نص باتريك شانلي الذي لم يتمكن أحياناً من تكثيف غناه في السبيل الصحيح فنجده يفلت منه بوضوح , و هو شعور عام يلمسه المتأمل للفيلم دون أن يتمكن من تحديد منبع له ..
في هذا الفيلم تتجلى درجة عالية من المشهدية , تجعله أقرب إلى مشاهد صلبةٍ مربوطة ببعضها البعض , تحاول أن ترسخ رسالته العامة عن إختلاف وجهات النظر تجاه الشك , كيف تراه ألوشيوس منبع قوة , و لكي تسيطر على من حولك فيجب أن تشك بهم أو على الأقل تبقي شكك بهم جاهزاً , و كيف يراه فلين منبع ضعف كما يخبر الأخت جيمس بذلك , يرى أن هناك صراعاً بين قوة التسلط و قوة اللطف , أن يكسب الأطفال بخوفهم منه أو أن يكسبهما بحبهم له , و أن اللطف ليس ضعفاً و لا مشكلة مع الحب ..
باتريك شانلي يتوجه بعد ذلك إلى إسقاط الأقنعة و إزالة الماكياج , في أحد المشاهد نرى دونالد ميلر المنزعج من تصرفات زملاءه تجاهه يغمر بعطف الأب فلين أمام ناظري جيمس التي باتت ترى العلاقة بينهما الآن من منظور آخر , بينما نرى في مشهد آخر الأخت ألوشيوس تستمع إلى الترانزستور الذي إستولت عليه من أحد الطلاب كنوع من فرط التوجيه السلبي تجاه شخصية ألوشيوس , لكن ألوشيوس لا تستسلم بمجرد إعتراف الأب فلين بالحقيقة , شكوكها ما زالت مستعرة , و يجب أن تجد من يطفئها لها , و ترى في والدة دونالد ميلر من قد يساعدها على ذلك , والدة دونالد ميلر ( فيولا ديفيز في عشر دقائق منحتها ترشيحاً للأوسكار ) ترى أن المسألة هي مجرد تصفية حسابات بين الطرفين , و أن الأب فلين هو رجل صالح يريد مساعدة إبنها , و أن كل ما تريده من هذه المدرسة هو أن يستمر وضع إبنها دون مشاكل حتى يونيو القادم كي تتمكن من إرساله إلى المدرسة الثانوية , بضعة أشهر لا تريد خلالها التورط بأي شي , قبل أن تعترف لألوشيوس بحقيقة إبنها , والدة الفتى تتجاهل الموضوع لأنه بسيط للغاية من وجهة نظرها أو هكذا تحاول إقناع نفسها ( أبوه يكرهه , المدرسة السابقة تكرهه , فلين يحبه ) , و رغم قوة أداء فيولا ديفيز إلا أن تقديم الشخصية ( رغم محاولة منح منطقية لأفكارها ) يبقى تقديماً مهزوزاً و يفتقر للإقناع , و ربما ما يجعل هذه الجزئية لا تشكل ثغرة حقيقية في النص هو كون النص يقدمها أصلاً بطريقة يجب أن تصدم ألوشيوس و لا تقنعها , و تعجز حتى أن ترد عليها ..
في آخر المواجهات بين ألوشيوس و فلين , تملي ألوشيوس عليه المنبع الدائم لشكوك الإنسان : إدعاء معرفة الناس , تلك الحجة السخيفة التي يتبناها البعض حول خبرته بالبشر و إدعاءه معرفة الناس , الأمر الذي يشعل شكه بمجرد مشاهدته لتصرف يذهب في عكس التيار , الأب فلين أصبح مثار شكوكها لأنها خبيرة بالبشر و لأنها تعرف الناس جيداً , و رجل يتعامل بطريقة غريبة مع صبي لا يميل أحد للتعامل معه هو أمر يبعث على الشك , هذه الجزئية يجردها باتريك شانلي ببراعة محاولاً ملامسة عقدة الشك البشرية , ثم يرسخها من خلال التباين الدائم الذي لمسناه طوال الفيلم بين الشخصيتين الغريمتين , ( لماذا أنت من يهتم ؟ هل لأنك لطيف ؟ تبتسم له ؟ تعطف عليه ؟ هل يعني هذا أنني لا أهتم ؟ ) .. و هو تباين يؤكد بأن الشخصيتين لن تلتقيا على حل وسط يرضيهما و يقنعهما , فيفضلان سلطة علوية تفصل بينهما في خاتمة الفيلم , التي تحمل قرار إستقالة فلين من منصبه و تعيينه في كنيسة سانت جيروم و هو منصب أرفع شأناً , لكن اللحظات الأخيرة من العمل تبدو مثل رشة الملح الختامية على طبق الشك الإنساني من خلال جملة ألوشيوس ( لو لم يكن لديه تاريخ في كنيسته الماضية لما خاف من إتصالي ) , كيف أن الشك يصبح غريزة لدى من يتبناه , لدرجة أن أي محاولةٍ حسنة النية لدحض هذا الشك تبدو بحد ذاتها بذرة لشكٍ جديد ..
باكورة أعمال المخرج المسرحي جون باتريك شانلي Doubt هو عمل سينمائي متميز , يطرزه تصوير ذكي و حذق من العبقري روجر ديكنز , موسيقى من الطراز الرفيع الذي يقدمه دائماً هوارد شور , و فوق كل ذلك أفضل أداء لطاقم فيلم في عام 2008 ..
التقييم من 10 : 8.5
بطولة : ميريل ستريب , فيليب سيمور هوفمان , أيمي آدامز , فيولا ديفيز
إخراج : جون باتريك شانلي
عن مسرحيته التي حققت رواجاً واسعاً عند عرضها على برودواي , يأتي الفيلم السينمائي الأول للمخرج المسرحي جون باتريك شانلي , ليعود بنا إلى عام 1964 و يسرد علينا قصة الأخت ألوشيوس بوفيار مديرة المدرسة الكاثوليكية لكنيسة سانت نيكولاس في برونكس التي تحكم مستعمرتها الصغيرة بالكثير و الكثير من الحزم و الإنضباط , محافظةً قدر المستطاع على كل شي كما هو في تقاليده و أصوله و طريقة تنفيذه , وهو أسلوب يتعارض إلى حد بعيد مع تيار التغيير في الكنيسة , التيار الذي ينهجه الأب بيرنار فلين القس في الكنيسة و الذي يحاول كسر بعض الجمود في التقاليد الكنسية البالية , هذا الإيقاع يختل عندما تراود الأخت ألوشيوس شكوك قوية مدعمة بشهادة راهبة شابة رقيقة حول علاقة مشبوهة بين الأب بيرنار فلين و بين دونالد ميلر أحد فتيان المذبح و الطالب الأسود الوحيد في المدرسة , شكوك تقودها لمواجهته ثم إتهامه بإنتهاك جنسي قام به تجاه الطالب , قبل أن تتصاعد هذه الشكوك لتتحول لحرب إطاحة بالشخص الأكثر شعبية بين طلاب المدرسة , و هي على ثقتها الشديدة بصدق شكوكها تجاه ما يحدث لم تكن تمتلك أي دليل مادي يمكن أن يدعم شكوكها ..
فيلمٌ آخر يأتي من المنتج سكوت رودن الذي أثبت خلال الأعوام الخمسة الماضية بأنه رجل المهمات الصعبة متصدياً لمجموعة من أفضل إنتاجات النصف الثاني من العقد بما فيها تتويجه بأوسكار أفضل فيلم العام الماضي عن تحفة جويل و إيثان كوين No Country For Old Men , سكوت رودن يأتي برائعة برودواي إلى الشاشة الكبيرة من خلال مخرجها المسرحي ذاته , و يقدم له ثلاثة أسماء براقة للقيام بأدوار البطولة تقودهم الأسطورية ميريل ستريب , و العمل يتحول إلى نجاح ملحوظ كللته 5 ترشيحات لجوائز الأوسكار هذا العام بما فيها أربع ترشيحات تمثيلية جعلته أكثر أفلام العقد حصداً للترشيحات التمثيلية ( مناصفة مع Chicago رائعة برودواي التي حولها مخرجها أيضاً إلى فيلم سينمائي قبل 6 أعوام ) ..
المرحلة التأسيسية لهذا الفيلم جيدة الإيقاع , نبدأها بطريقة تبدو على نمطيتها قوية في إيصال أجواء المدرسة من الداخل خلال أقل فترة زمنية ممكنة , نشاهد فيها الإدارة الحازمة و الشديدة من الأخت ألوشيوس بوفيار مديرة المدرسة المؤمنة بالتمسك بالتقاليد , و نتأمل خلالها روتين الراهبات اليومي : الإستيقاظ , إرتداء الملابس , الإفطار , كل الأمور تجري بدقة متناهية و بإنضباط شديد و حزم واضح , تطل من خلاله ميريل ستريب في دور متميز جداً قد يكون أفضل أدوارها خلال الأعوام العشرة الماضية , تكثف فيه صورة المرأة المتسلطة بشكل أقوى من ذلك الذي قدمته قبل عامين في The Devil Wears Prada , نوع خاص من التسلط الممزوج بالإلتزام تجاه تابعيها , نشاهدها على قسوتها و حزمها مهتمة بمتابعة شؤون زميلاتها التي تصاب إحداهن بالعمى التدريجي فتتكتم ألوشيوس على الخبر كيلا تتعرض الراهبة للطرد من المدرسة , بالمقابل يجري لنا باتريك شانلي نوعاً من المقارنة البصرية بين حياة القساوسة و الراهبات و كيف تتوحدان في الروتين اليومي للمدرسة , في الوقت نفسه نرى راهبة رقيقة و لطيفة تدعى الأخت جيمس تبرع أيمي آدامز في تقديمها و كأنما هي معلمة مدرسة لطيفةٌ فعلاً ربما بسبب ملامح الطيبة و اللطف التي تحملها ملامحها , و راهب في منتصف الثلاثينيات يدعى بيرنار فلين ( يقدمه فيليب سيمور هوفمان في أداءٍ صلب و متمكن جداً ) يتعامل بلطف و كياسة مع أتباع كنيسته و مع طلابه , و يبدو من أول لقاءٍ لنا به إنساناً واعياً و مستنيراً خصوصاً في عظة الأحد التي يلقيها حول أزمة الإيمان , و الشك الذي يملأ القلوب التائهة ..
في مرحلة تاليةٍ من الفيلم نبدأ في تبين حاجز الثقة بين الراهبات و القساوسة , الشكوك التي عادةً ما تراود ألوشيوس في أي تصرف لا تجيد تفسيره من قبل أحد القساوسة , هذه المرة تخبر الراهبات عن شكوكها تجاه الأب فلين لكنها لا تشرح لهم أي نوعٍ من الشكوك تتحدث عنها , ربما هو نوع من التوجس و الحذر و ربما الإحساس بالضعف تجاه رجل يفوقها مرتبةً رغم قوة الشكوك التي تعتمل في صدرها ..
قبل أن يبدأ أي نوع من المواجهة المباشرة بين الطرفين يعمد جون باتريك شانلي لتكثيف التفاصيل الصغيرة كنوع من التمهيد للمواجهة التي تنتظر من يشعلها , فنشاهد التباين الواضح في العقليتين من خلال مشاهد خاطفة , النفور الذي تبديه ألوشيوس تجاه قلم الحبر الجاف ( كرمز للحداثة ) , الملاحظة التي توجهها للأب فلين حول أظافره الطويلة و الذي يتحجج بأنها نظيفة رغم طولها , المقارنة البصرية الواضحة بين موائد الراهبات و موائد القساوسة , كل هذا يدعم أكثر فأكثر الخط الذي سينهجه الفيلم بدءاً من لحظة المكاشفة , و يخلق بناء ممتازاً للشخصيات بطريقة يبرع فيها النص بشكل ملحوظ , دون تصنع أو مشاهد فائضة ..
بعد تلك المرحلة التأسيسية يبدأ منعطف الفيلم الأهم من خلال ملاحظة توجهها الأخت جيمس لألوشيوس عما رأته بعد إنتهاء صفها , و حول الزيارة الغريبة التي قام بها الطالب دونالد ميلر إلى سكن الأب فلين , مباشرةً و كأنما كانت النار تنتظر من يشعلها يرسم خيال ألوشيوس صورةً مكتملة الملامح لما جرى , ترى ألوشيوس أنا إختيار دونالد ميلر ذكي فهو طالب معزول ربما بسبب بشرته , زنجي لا أحد يكترث لأمره , بينما ترى جيمس بأن الأمر كله قد يكون مجرد شكوك قد يكون لها مبرر منطقي , إلا أن ألوشيوس تفكر بطريقة مختلفة تماماً , و لأنها لا تجد رجلاً يعتمد عليه لمواجهة فلين فإنها يجب أن توقفه بنفسها ..
لكن – و ربما بسبب كونه يفوقها مرتبة – يؤجل باتريك شانلي هذه المواجهة قليلاً ضمن المشهد و يمعن في رسم نقاط إختلافٍ أخرى بين العقليتين , إختلاف في أسلوب تربية الأولاد , و إختلاف في الطريقة التي يفضلها كل منهما للإحتفال المسيحي هذا العام خصوصاً عندما يرى الاب فلين أن إحتفال هذا العام يجب أن يكون عصرياً و يشتمل على أغنية دنيوية , و إختلاف حتى في طريقة شرب الشاي الذي يفضله الاب فلين مع سكر , و عندما تحدث المكاشفة ( في واحد من أفضل مشاهد 2008 ) يعترف فلين لألوشيوس و جيمس بحقيقة أن دونالد ميلر كان يشرب نبيذ المذبح الأمر الذي يحرمه من البقاء في المذبح مما دفع الأب فلين لحمايته و التكتم على سره , و رغم أن الحجة تبدو مقنعة للأخت جيمس إلا أن ألوشيوس تقبلها على مضض , هناك جزئية مهمة في فكر ألوشيوس تجعلها تقرن شكوكها بالتعقيد , نعم ترى ألوشيوس أن الحياة تحتاج للكثير من التعقيد كي نستطيع السيطرة عليها , ترى أن التعقيد هو جزء لا ينفصل عن حياة الإنسان و أن إنساناً لا يشك و لا يبقي الأمور معقدة هو إنسانٌ ساذج , ألوشيوس ترد على جيمس عندما تخبرها عن إقتناعها بحجة الأب فلين ( لا لست كذلك , لكنك تريدين أن يُحل الأمر لكي تعودي للبساطة ) , تعتبر ألوشيوس البساطة نوعاً من السم الذي يفتك بحياة الإنسان ,ترى أن التعقيد و الحذر و الشك هما سلاح من يريد أن يمضي قدماً , و كيف أن الإنسان في كثير من الأحيان يهرب من شكوكه بحثاً عن راحة بال قد لا تكون حقيقية , لكن جيمس تعتبر بساطتها ربما سلاحاً لها , لذلك نجدها تخبر ألوشيوس بعد ذلك ( الطلاب يخافون منك ) , مواجهة أخرى في الفيلم ضمن معسكر الراهبات بين عقليتين مختلفتين تنهجان نهجاً مختلفاً في إدارة عالمهما : مديرة متسلطة و شديدة الحزم , و مدرسة لطيفة محبوبة و طيبة القلب مع طلابها ..
رد الأب فلين على ما جرى يكون مميزاً للغاية , عظة الأحد التي يلقيها في الكنيسة تتناول التلاعب بسمعة الآخرين , عظة عن الإشاعة و عن تأثيرها المدمر على حياة البشر , يحكي فيها قصة رائعةً عن إمرأةٍ تناولت سمعة جارها ثم ذهبت للإعتراف فطلب منها الأب أن تصعد إلى سطح منزلها و تمزق وسادتها و تنثر ريشها ثم تحاول جمعه من جديد بعد أن طارت به الريح , قصة مؤثرة تهز ألوشيوس و جيمس من الداخل , وترسخ الغنى الحقيقي الذي يتمتع به نص باتريك شانلي الذي لم يتمكن أحياناً من تكثيف غناه في السبيل الصحيح فنجده يفلت منه بوضوح , و هو شعور عام يلمسه المتأمل للفيلم دون أن يتمكن من تحديد منبع له ..
في هذا الفيلم تتجلى درجة عالية من المشهدية , تجعله أقرب إلى مشاهد صلبةٍ مربوطة ببعضها البعض , تحاول أن ترسخ رسالته العامة عن إختلاف وجهات النظر تجاه الشك , كيف تراه ألوشيوس منبع قوة , و لكي تسيطر على من حولك فيجب أن تشك بهم أو على الأقل تبقي شكك بهم جاهزاً , و كيف يراه فلين منبع ضعف كما يخبر الأخت جيمس بذلك , يرى أن هناك صراعاً بين قوة التسلط و قوة اللطف , أن يكسب الأطفال بخوفهم منه أو أن يكسبهما بحبهم له , و أن اللطف ليس ضعفاً و لا مشكلة مع الحب ..
باتريك شانلي يتوجه بعد ذلك إلى إسقاط الأقنعة و إزالة الماكياج , في أحد المشاهد نرى دونالد ميلر المنزعج من تصرفات زملاءه تجاهه يغمر بعطف الأب فلين أمام ناظري جيمس التي باتت ترى العلاقة بينهما الآن من منظور آخر , بينما نرى في مشهد آخر الأخت ألوشيوس تستمع إلى الترانزستور الذي إستولت عليه من أحد الطلاب كنوع من فرط التوجيه السلبي تجاه شخصية ألوشيوس , لكن ألوشيوس لا تستسلم بمجرد إعتراف الأب فلين بالحقيقة , شكوكها ما زالت مستعرة , و يجب أن تجد من يطفئها لها , و ترى في والدة دونالد ميلر من قد يساعدها على ذلك , والدة دونالد ميلر ( فيولا ديفيز في عشر دقائق منحتها ترشيحاً للأوسكار ) ترى أن المسألة هي مجرد تصفية حسابات بين الطرفين , و أن الأب فلين هو رجل صالح يريد مساعدة إبنها , و أن كل ما تريده من هذه المدرسة هو أن يستمر وضع إبنها دون مشاكل حتى يونيو القادم كي تتمكن من إرساله إلى المدرسة الثانوية , بضعة أشهر لا تريد خلالها التورط بأي شي , قبل أن تعترف لألوشيوس بحقيقة إبنها , والدة الفتى تتجاهل الموضوع لأنه بسيط للغاية من وجهة نظرها أو هكذا تحاول إقناع نفسها ( أبوه يكرهه , المدرسة السابقة تكرهه , فلين يحبه ) , و رغم قوة أداء فيولا ديفيز إلا أن تقديم الشخصية ( رغم محاولة منح منطقية لأفكارها ) يبقى تقديماً مهزوزاً و يفتقر للإقناع , و ربما ما يجعل هذه الجزئية لا تشكل ثغرة حقيقية في النص هو كون النص يقدمها أصلاً بطريقة يجب أن تصدم ألوشيوس و لا تقنعها , و تعجز حتى أن ترد عليها ..
في آخر المواجهات بين ألوشيوس و فلين , تملي ألوشيوس عليه المنبع الدائم لشكوك الإنسان : إدعاء معرفة الناس , تلك الحجة السخيفة التي يتبناها البعض حول خبرته بالبشر و إدعاءه معرفة الناس , الأمر الذي يشعل شكه بمجرد مشاهدته لتصرف يذهب في عكس التيار , الأب فلين أصبح مثار شكوكها لأنها خبيرة بالبشر و لأنها تعرف الناس جيداً , و رجل يتعامل بطريقة غريبة مع صبي لا يميل أحد للتعامل معه هو أمر يبعث على الشك , هذه الجزئية يجردها باتريك شانلي ببراعة محاولاً ملامسة عقدة الشك البشرية , ثم يرسخها من خلال التباين الدائم الذي لمسناه طوال الفيلم بين الشخصيتين الغريمتين , ( لماذا أنت من يهتم ؟ هل لأنك لطيف ؟ تبتسم له ؟ تعطف عليه ؟ هل يعني هذا أنني لا أهتم ؟ ) .. و هو تباين يؤكد بأن الشخصيتين لن تلتقيا على حل وسط يرضيهما و يقنعهما , فيفضلان سلطة علوية تفصل بينهما في خاتمة الفيلم , التي تحمل قرار إستقالة فلين من منصبه و تعيينه في كنيسة سانت جيروم و هو منصب أرفع شأناً , لكن اللحظات الأخيرة من العمل تبدو مثل رشة الملح الختامية على طبق الشك الإنساني من خلال جملة ألوشيوس ( لو لم يكن لديه تاريخ في كنيسته الماضية لما خاف من إتصالي ) , كيف أن الشك يصبح غريزة لدى من يتبناه , لدرجة أن أي محاولةٍ حسنة النية لدحض هذا الشك تبدو بحد ذاتها بذرة لشكٍ جديد ..
باكورة أعمال المخرج المسرحي جون باتريك شانلي Doubt هو عمل سينمائي متميز , يطرزه تصوير ذكي و حذق من العبقري روجر ديكنز , موسيقى من الطراز الرفيع الذي يقدمه دائماً هوارد شور , و فوق كل ذلك أفضل أداء لطاقم فيلم في عام 2008 ..
التقييم من 10 : 8.5
0 تعليقات:
إرسال تعليق