كتب : عماد العذري
بطولة : روبرتو بينيني , نيكوليتا براسكي
, جيورجيو كانتاريني
إخراج : روبرتو بينيني (1998)
في 21 مارس عام 1999 وقفت
على مسرح كوداك في هوليوود (الممثلة الوحيدة الفائزة بأوسكار أفضل ممثلة
عن أدائها لدورٍ رئيسي بلغةٍ ليست الإنجليزية) الإيطالية صوفيا لورين لتعلن إسم
الفائز بأوسكار أفضل فيلم أجنبي لعام 1998 , فتحت الظرف المغلق و صرخت بنشوةٍ حقيقية
(روبرتوووووو) , وقف روبرتو بينيني بقدميه على الكرسي الذي يقعد عليه في القاعة رافعاً
يديه للأعلى في لحظةٍ شهيرةٍ و لا تنسى في تاريخ حفلات الأوسكار , في الليلة ذاتها
أصبح الرجل (الممثل الوحيد الفائزة بأوسكار أفضل ممثل عن أدائه لدورٍ رئيسي بلغةٍ ليست
الإنجليزية) , تاركاً منافسيه توم هانكس و إيان مكالين و نيك نولتي و إدوارد نورتون في دهشةٍ و إعجابٍ حقيقيين .
قبل تلك اللحظة كان فيلم
روبرتو بينيني (الحياة جميلة) الذي قام الرجل بكتابته و إخراجه أيضاً قد تحول إلى
ظاهرةٍ عالميةٍ حقيقية , ضارباً في الصميم معانٍ عظيمةً تحملها رؤية بينيني للحياة
: الأمل و التفاؤل و الإشراق مهما بلغت القسوة التي تملأها و مهما كانت الظروف التي
تحيط بها .
الفيلم هو كوميديا تراجيدية
عن غويدو ، رجلٌ يهوديٌ تملأ الإبتسامة وجهه المتفائل و يصر على البحث
عنها حتى عندما لا يكون من الممكن إيجادها , ينتقل الرجل في أواخر الثلاثينيات من القرن
الماضي إلى بلدةٍ في مقاطعة توسكانيا لمساعدة عمه العجوز في إدارة مطعمه المرموق حيث
سيعمل كنادلٍ هناك , في طريقه للبلدة يلتقي بمعلمة مدرسة تدعى دورا و تحدث مجموعة
من المصادفات (أو ما يصر هو على كونها مصادفات) توصله في النهاية للظفر بقلب المرأة
التي تترك مجتمعها الراقي و عريسها المنتظر و تتزوج غويدو , بعد سبع سنوات
كانت إيطاليا موسوليني تخوض الحرب العالمية الثانية إلى جوار ألمانيا هتلر , و كان غويدو و دورا قد رزقا بطفلٍ
إسمه جوزوي , و في غمرة حياتهم السعيدة يقاد اليهود إلى معسكرات الإعتقال
, الأمر الذي يقود غويدو لإبتكار وسيلةٍ تجعل إبنه الصغير بعيداً عن إدراك حقيقة وضعهم
المأساوي : لعبةٌ تنافسيةٌ مع بقية المعتقلين لجمع ألف نقطة في فعالياتٍ مختلفة تقود
من يحرزها للفوز بدبابةٍ حقيقيةٍ كهدية لعيد ميلاده الموءود .
هذا الفيلم إنتصار حقيقي
للسينما , في معظم الأفلام المهمة التي تناولت يهود الحرب العالمية الثانية هناك توجه
عام لخلق نوع من التعاطف تجاه اليهود (كشعب) و إبراز مقدار السحق و المعاناة التي تعرضوا
لها على يد النازية و الفاشية , أمر شاهدناه و ما زلنا نشاهده في أعمال سينمائية عظيمة
لعل أهمها Schindler’s List 1993 و The Pianist 2002 , لذلك تبدو أي محاولةٍ لإلتقاء ذلك المسعى التراجيدي مع رؤيةٍ كوميدية
محاولةً فاشلةً على الورق على الأقل , بينيني يخلق توازنا عجيباً (يكاد يكون مستحيلاً) بين الكوميديا
و التراجيديا من خلال عمله الممتاز على جزئيتين رئيسيتين : الأولى هي محاولة إثبات
أن بطله ظريفٌ فعلاً , كوميديٌ فعلاً , مشرقٌ فعلاً , قريبٌ من القلب فعلاً , و الثانية
هي الإبتعاد عن قالب الترويج لفظائع النازية بحق اليهود (تحديداً) نحو صورةٍ أكثر عمومية
يريدنا بينيني أن نراها : قسوة الحياة التي يمكن لتفاؤلنا أن يهزمها .
الجزئية الأولى تعتمد
بشكل رئيسي على الأداء الفذ من روبرتو بينيني ؛ وهو واحد من أشهر الممثلين الكوميديين في بلاده
, بينيني لا يحتاج للكثير ليسرق إعجابك بروحه , هو يسحرك منذ مشهده
الأول , منذ تلك اللحظة التي يشير فيها للجماهير المحتشدة في الطريق بالإبتعاد عن مسار
سيارته ماداً يده بطريقة مماثلة لموسوليني الأمر الذي دفع الجماهير لرد التحية بمثلها , منذ هذه
اللحظة ينهمر شلالٌ من الكوميديا , نوعٌ مجنونٌ منها , نوعٌ لذيذٌ و قريبٌ جداً من
القلب , يجعل المشاهد في قمة إستمتاعه بما يحدث , كوميديا لا تريد منك - وهذا هو سحرها
- أن تصدق ما تراه بل تريدك أن تبتسم عندما تراه , تأسيسٌ هدفه خلق شعور حقيقي لدى
المشاهد بالروح التي يمتلكها بطله – و بالتالي بالروح التي يجب أن تكون موجودةً في
كل منا – حيث الإشراق و الأمل و التفاؤل , البحث عن الإبتسامة و كأنه مغناطيس , وصنعها
حتى عندما لا نرى أي إمكانيةٍ لصنعها , بينيني في سائر أنحاء فيلمه يشعرنا بالأمل , بالكثير من الأمل
, أمل منبعه في الواقع ليس الأحداث التي نشاهدها , بل ما يصدح به وجه بينيني المشرق
, قدرته حتى على إقناعنا بأنه لا يمثل أصلاً (إنطلاقاً من فكرة أنه ممثل كوميدي أصلاً
يبحث عن الإبتسامة دائماً) هي واحدة من أصعب المهمات التي توكل إلى ممثلٍ واحد لتأسيس
الركن الأساسي من فيلم , بينيني من هذا المنظور حمل الفيلم على كتفيه تماماً , إحساس الأمل
الذي يخلقه فينا لن يصلنا من مجرد أحداث محبوكة أو حوارات متقنة , بل هو يحتاج أيضاً
لأداءٍ ممتازٍ و متفهم , وهي جزئيةٌ أعتقد أن بينيني نجح فيها
بإمتياز .
الجزئية الثانية لا تقل
صعوبةً عن الأولى و تبدو أكثر أهمية في نصف الفيلم الثاني , بينيني يعمم رسالته
بطريقةٍ ذكيةٍ للغاية , الرجل يتجنب الخوض في إشكالية فظائع النازية التي تعرض لها
يهود الحرب العالمية الثانية , هو لا يسخر من الفكرة لكنه في الوقت ذاته لا يمجدها
, بينيني (و ربما لأنه مسيحي الديانة) يحاول أن يركز بإمعان حول رسالته
الأم التي يحملها عنوان فيلمه ، يدرك على ما يبدو أن أي مغازلة يهودية مهما كانت ستفقد
عمله المحنك على الجزئية الأولى أهميته و بريقه , لذلك لا يحاول – على مدار النصف
الثاني - أن يشعرك بأن ما يحدث فظيعٌ و قاسٍ , هو لا يحاول أن يبرز لك ما يعانيه أبطاله
, و على النقيض هو لا يسخر مما يحدث لهم , يملأ مأساته بالكثير من البهجة (كما فعل
إمير كوستاريتسا قبل ثلاثة أعوام في Underground) و يبتعد عن حصر تقديمها كمأساةٍ
(يهودية) كي يجعل الحدث – بالنتيجة - يبدو و كأنه لعبةٌ مسليةٌ
فعلاً ، أنت لا ترى المأساة الحقيقية التي تحدث للأبطال - رغم أنها تصلك بطريقةٍ أو
بأخرى - بل تستمتع بما تشاهد و تنتظر إلى أين ستقودك الأحداث في النهاية التي ستنتظرها
سعيدةً - بالتأكيد - لأنك لم تشاهد أي شيءٍ قد يجعلها غير ذلك , و مشاهدة النصف الثاني
– على قسوته – بإستمتاع تولّد في المشاهد شعوراً بالطمأنينة و التفاؤل قبل أن يصدم
بتلك النهاية , في تلك اللحظة بالذات – التي نرتد فيها للخلف لنرى الصورة الكبيرة
- ندرك ربما أن ما حدث لهذه العائلة السعيدة كان قاسياً بالفعل , و نشعر بأن الديكور
الذي كنا تشاهده كان يخفي الكثير وراءه , يحدث ذلك - ببساطة - لأن بينيني نجح معك
كمشاهد (كما فعل غويدو مع إبنه في الفيلم) في أن يريك أن الحياة ألطف و أجمل و أكثر
إشراقاً و إمتلاءاً بالتفاؤل و المتعة مما قد تكون عليه فعلاً .
الفيلم عظيم ، نوعيته
نادرةٌ فعلاً ، كوميديا المآسي لم تعد شيئاً دارجاً , لا تنجح كل عثرات الفيلم الصغيرة
و الأداء الرديء الذي تقدمه نيكوليتا براسكي (زوجة بينيني الحقيقية أيضاً) في هز عظمته أو الإنتقاص من قوته , حجم
الإحتفاء الذي ناله في حينه كان مبرراً ، ربما إنعكاسٌ طبيعيي لمقدار النشوة التي ملأ
بها بينيني أرواح النقاد و الجماهير الذين فتنوا بهذا الفيلم و عبروا
عن إعجابهم و تقديرهم له , مانحين الرجل أكثر من 40 جائزة عالمية مختلفة منها جائزة
لجنة التحكيم الكبرى في مهرجان كان السينمائي الدولي
و ثلاث جوائز أوسكار ، هذا الفيلم ليس عن ذلك النوع من التفاؤل الذي يجعلنا فقط ننظر
لنصف الكأس الممتلئ , بل التفاؤل الذي يجعلنا نملأ النصف الآخر أيضاً , أوربما
نبتهج بوجود الكأس على أقل تقدير !!
التقييم من 10 : 10
0 تعليقات:
إرسال تعليق